المسلسل التاريخى وحدود الحرية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

الدراما التليفزيونية أحد أشكال «الثقافة الجماهيرية»، أى الثقافة الرائجة سهلة التداول وبالتالى تستطيع أن تتخلل الكتل الاجتماعية الكبيرة،

 وأن تكون زادا ثقافيا للكثيرين، وبخاصة من البسطاء والأميين فى الريف والمدن ولهذا يعتبرها كثيرون حد الأشكال الفنية الصانعة للوعى العام، وفى الأكاديمية الغربية تنال الاهتمام نفسه الذى تحظى به الثقافة الراقية، فهى فى النهاية إنتاج فنى له تقاليده، ومن يستهلكونه ويستمتعون به، وله تأثيره فى صياغة الوعى لدى الناس وبالمناسبة الكم الأكبر من أفلام السينما المصرية يندرج تحت هذا التصنيف عدا أفلام قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة تقريبا

أضف إلى ذلك المسرحيات الهزلية والمليودراما والأغانى فضلا عن السرد التليفزيونى أو المسلسلات، التى نشأت مع التليفزيون الذى يقوم تقريبا بمهام دور العرض السينمائى والمسرحى فى المجتمع المصرى ولذلك تؤثر هذه الوضعية على طبيعة هذه المسلسلات، فالتليفزيون الذى يوجد فى كل بيت يراعى مجموعة من قيم الثقافة المصرية، وبخاصة فيما يتصل بالدين أو الجنس وقد اضطر منتجو مسلسل متميز هو «ريا وسكينة» منذ سنوات إلى التلميح لا التصريح بمهنة ريا وسكينة وهى البغاء حرصا على عدم الاصطدام بالرقابة، وهذا معناه أن الفنان مهما كان حريصا على حريته الإبداعية مضطر إلى المواءمة.

والحقيقة أن النقاش الصاخب الآن بعد انتهاء موسم مسلسلات رمضان نقاش قديم يتجدد دائما، ويتركز عادة حول مسألة الحقائق التاريخية فى الأعمال الفنية مع ملاحظة أن معنى »الحقائق التاريخية« فى حاجة لمناقشة جادة لأن التاريخ نفسه لا يمكن اعتباره علما صافيا، بالمعنى الدقيق لمفهوم العلم لأن المؤرخ يتعامل مع مروريات ويضطر إلى التفسير ولهذا تتعدد التأويلات للحدث التاريخى الواحد تبعا لمنظور المؤرخ وموقعة وموقفه السياسى أقصى ما يمكن قوله فى هذا السياق أن هناك معلومات عن وقائع وحوادث بعينها موثوق بصحتها كأن نقول إن عبد الناصر مات عام 1970، أو أن السادات قتل فى حادث المنصة الشهير، وفى مسلسلات هذا العام أخطاء فى معلومات فى هذا القبيل مثل الخلط بين شخصيتى محمد حسين هيكل فى مسلسل صديق العمر بالإضافة إلى أخطاء فى أحداث مهمة مثل الوحدة مع سوريا، ثم الإنفصال وحرب اليمن إلخ فى المسلسل نفسه ومن المهم هنا التشديد على رفض هذه الأخطاء التى تتم عن عدم معرفة وعدم جدية فى آن وهو أمر يمكن إيجاد حل له بسهولة بالاستعانة بمتخصص موثوق بمعرفته ونزاهته، لكن العسير حقا إيجاد آلية للفصل بين ما يراه المؤرخ حقيقة تاريحية ثابتة، وما يراه منتجو المسلسل غير ذلك، أعنى ما هو متصل بالتفسير والرؤية وبالتالى بحرية الإبداع.

الحقيقة أننا هنا مع صراع بين سلطتين، سلطة المؤرخ وسلطة المبدع الأول يرى نفسه حارسا للحقائق والثانى يقول إن حرية الإبداع لا مرجعية لها ومن وراء هاتين السلطتين ثمة الصراع السياسى لا فى الماضى فقط، ولكن فى اللحظة الراهنة: هنا والآن وخصوصا حين نكون مع مسلسل مثل صديق العمر أو مسلسل سرايا عابدين وهما عملان يكشفان عن تدهور فى حرفة الكتابة الدرامية لا فيما يتصل بالأخطاء فحسب وإنما فيما هو أعمق تحديدا فى الإلمام بتقنيات الكتابة وفى معرفة منتجى المسلسلين بالتاريخ فنحن وهذا أقل ما يمكن قوله من ضحالة واضحة فى أشياء كثيرة فى برامج «التوك شو» والمسلسلات وكثير من النقاشات السياسية الدائرة، قارن مثلا بين فيم «ناصر 56» أو مسلسل «أم كلثوم» وبين المسلسلين الآنف ذكرهما ليس الفارق فقط فى مسألة الدقة فى تواريخ الوقائع والأحداث إنما الفارق الأهم فى الكتابة والإخراج والرؤية فى مسلسل أم كلثوم مثلا تغيب لبعض الحقائق التى تخص أمورا شخصية فى حياة أم كلثوم، لكن هذا التغيب لا يكشف عن »جهل بالوقائع والتفاصيل«، بل يكشف عن وعى بها، فالكاتب يغيب وقائع بعينها ليصنع شخصية تنطوى على نمط البطولة وما يغيبه الكاتب ينزل بالشخصية من مستوى المثال إلى الواقع وإذا كنا ترفض وجود أخطاء وأغلاط فعلينا أن نناقش ونرفض «نفى وقائع بعينها» لكننا فى الحالة الأولى مع جهل صريح، وفى الحالة الثانية مع «رؤية» لا تدعمها الوقائع.

يكتب المؤرخ اعتمادا على «مروريات» قد يكون بعضها متناقدا وهو نفس ما يفعله كاتب الرواية التاريخية أو الفيلم أو المسلسل فتأثير «الذات» هنا لا سبيل إلى إنكاره كما التاريخ ينطوى على تحييزات إيديولوجية كالأدب والمسافة إذن بين الكتابة التاريخية والكتابة الأدبية ليست بهذا الاتساع كما نتصور مع هذا هناك اختلاف بين الكتابتين فالحدث التاريخى الذى يعالجه المؤرخ يتضمن معنى الوقوع الفعلى فيما الحدث الأدبى الذى أساسه التخييل، لا يشترط هذا الوقوع إنه حدث مختلق متخيل لكنه يشاكل ما وقع فعلا وبالتالى إن الحدث الأدبى أكثر حرية.

وفى التاريخ يزعم المؤرخ أن يستند إلى »الوثائق« برغم أن تفسير الوثيقة يخضع للإختلاف بين مؤرخ ومؤرخ آخر وأما الحدث السردى الروائى فهو قد يستثمر الوثيقة لكن لهدف آخر مختلف عن هدف التاريخ بل قد يكون التاريخ مجرد إطار عام يحوى حبكة مختلفة شخصوها غير تارخيين. وإذا كان المؤرخ يعمل يعلن أنه مهتم فقط بالحدث فى حد ذاته دون اهتمام بأحد ودون سعى منه لكى يقنع أحدا بما وقع فإن الماتب مشدود إلى إقناع المتلقى بقراءته للحدث التاريخى أو الشخصية التاريخية وفى الوقت نفسه حريص على تحقيق المتعة الجمالية فنحن نقرأ التاريخ لنعرف ونقرأ الأدب لنستمتع حتى لو خالطت المتعة معرفة ما.

لكن الكاتب يذهب إلى التاريخ لكى يؤوله ويفسره لصالح اللحظة الحالية، ومن هنا يظهر فى قراءته للتاريخ كل ما فى الحاضر من صراعات اجتماعية وسياسية وإيديولوجية قد تطغى لتصبح دعاية سافرة فتخلق صورة لا علاقة لها بالصورة التاريخية التى اتفق المؤرخون على خطوطها العريضة .

هل يمكن أن نجد حلا للاختلاف بين المؤرخ والكاتب فى هذه اللحظة المحتدمة بالصراعات من كل نوع حتى لا يتحول المسلسل ـ أو الفيلم ـ إلى أداة سلبية لا على مستوى معرفة «الحقيقة» فحسب ولكن أيضا على مستوى وعى المواطنين لا سيما الذين يقرأون ولا يكتبون بحيث لا نجور على طبيعة الإبداع وحريته؟

وفى تقديرى فإن ذلك مرتبط بعوامل كثيرة فى مقدمتها بالطبع أن يعمل منتجو هذه المسلسلات على تحسين أدائهم الحرفى أولا بمعرفة أصول صنعتهم وأن يكف الخائفون على حرية الإبداع عن إشهار مبدأ الحرية على نحو مطلق وخصوصا حين نكون مع منتجات ثقافية بالغة التواضع أما الأكثر أهمية فى هذا السياق فهو مرتبط بتطور الوعى وتغير حياة المصريين تغيرا حقيقيا يجعلهم قادرين على ممارسة حقهم فى رفض ما هو سيئ أو قبيح أو ظالم فى الفن والحياة على السواء.

ــــــــــــــــ

ـ نقلا عن صحيفة الأهرام

ـ الصورة من الفيلم التونسى “طوق الحمامة المفقود” – إخراج ناصر خمير

 

 

مقالات من نفس القسم