المزين… مرثية رجل تافه.
يوسف نبيل
حتى الصفحة الأخيرة من رواية المزين – وهي ليست طويلة على أية حال (134) صفحة – ظللت على شك من مقصد الروائي المبدع أحمد سمير سعد من هذه الرواية المتداخلة، ويبدو أن شدة الغموض جعلتني أطمئن في النهاية إلى الانسياق خلف تفسيري لها، وقد يخطيء أو يصيب، فهكذا رأيت هذا العمل.
المزين رواية نفسية بامتياز. رغم أنها تتخذ مظهرًا مخالف لذلك تمامًا. تدور الأحداث بضمير المتكلم عن أحد الموظفين بأحد البنوك، والذي كانت له بعض المحاولات الأدبية، ويحاول كتابة رواية بطلها: مزين. تنقسم فصول الرواية بين أحداث البطل الحقيقي، وبين أحداث قصة المزين، وكثيرًا ما يعلق البطل على قصته وبطله.
ما الأزمة الرئيسية التي تناقشها الرواية؟
يتحدث الراوي عن بطله القصصي الذي يحاول الكتابة عنه دون فائدة قائلا: " لن يسقط كم تسقطون في زيف العالم، تتصيد أرواحكم مسوخًا أرضية لتربطكم إلى صخور من زيف تظنون أنها الحقيقة والغاية فتمضون حيواتكم بلا معنى كحمير تحمل أسفارًا وتجري خلف جزرة معلقة بين عينيها".
البطل الذي تتكشف أجزاء من حياته رويدًا رويدًا عبر مضي الصفحات التي لا تلتزم ترتيبًا زمنيًا مرتبًا يعمل بوظيفة في أحد البنوك.. يتعامل مع الأرقام، لكن ميوله الأدبية وقراءاته تجلب عليه السخرية والغربة.. يزداد شعورًا بالغربة وسط مجتمع مادي متقزم مشوه، لكن كافة تشوهات المجتمع تصيبه هو شخصيًا دون أن يدري. يقول أنه سيحاول كتابة تحفته الأدبية الأخيرة التي يحاول فيها تعرية نفسه، فيتحدث عن مزين مهووس بجنون العظمة، وتمضي بنا حكاية المزين عبر كمية هائلة من الترهات.
يتضح جنون العظمة جليًا في تكرار كلمة: "أنا" التي يبدأ بها المزين غالبية جمله. يصف المزين نفسه بكافة الصفات الممكنة والغير ممكنة، حتى أن بعضها يمكن توصيف الإله بها، والبعض الآخر يمكن بها توصيف الشيطان، ولا ندري حكاية مرتبة للمزين، ففي الواقع ما من حكاية.. إنها محض هلاوس.
كيف إذن يصف الكاتب حكاية المزين بأنها حكايته؟ بل ويشعر بالقلق من النقاد واستقبال القراء لهذه الحكاية الغبية، وهو غير مقرؤ من أحد على أية حال؟
العلاقة المعقدة التي تتكشف بهدوء بين بطل القصة الحقيقي وبطله الضمني: المزين تكشف لنا عن الأزمة الحقيقية.
تبدأ الرواية بمشهد مكتوب بعناية شديدة حيث تكشف زوجة البطل زوجها وهو يمارس جنسًا متوهمًا عبر الهاتف مع إحدى بائعات الهوي، ويتكرر الأمر مرة ثانية فتفارقه الزوجة نهائيًا ليشعر بضياع ما بعده ضياع.
لقد فشل البطل الرئيسي في كافة مناحي حياته.. فشل في أن يصبح موظفًا جيدًا.. فشل في التأقلم مع مجتمعه، وفشل في الانقلاب عليه.. فشل في حياته الأدبية.. فشل في حياته الزوجية، بل حتى لم يستطع أن ينجب ابنًا سويًا فحبته الطبيعة بطفل ذو قدرات عقلية محدودة. وعندما يقول أنه سيكتب عن نفسه يحاول الكتابة عن بطل عظيم يتورط بين قضايا الحكم والسياسة، وإذ بنا نكتشف أن كل ذلك محض ترهات، وأنه ليس عظيمًا حقًا بل مجرد مجنون!
أحيانًا ما ينتبه الراوي الرئيسي لضعف قدرته الأدبية فيقول: " الإسهاب يعود ليتعثر، والجذوة لتنطفي، الكلمات ثقيلة، والمزين عاص والحكي مترهل، أسطر قليلة لتكتشف أن موهبتك قد بهتت وأنك لم تعد قادرًا على استحضار الشخصية... سرد بلا جمال يلوث الورق".
ما يدعم العلاقة الملتبسة بين بطل الرواية وبطله الافتراضي: "المزين" الذي يكشف عن مكنونات لا وعيه، علاقة كل منهما بزوجته.
لم يذكر البطل الرئيسي أمرًا واحدًا سلبيًا عن زوجته التي لم تستطع أن تفهم سبب خيانته المبتذلة لها، بينما يصف المزين زوجته في أحد أروع أجزاء الرواية بكمية من الأوصاف السيئة لا حصر لها، ويحملها سبب كل شيء سيء حدث أو سيحدث له في حياته، ورغم بعد الأوصاف بين الزوجتين، إلا أن صوت خافت ربما يأتي للقاريء يكشف عن مكنونات لا وعي البطل الرئيسي الذي يكره زوجته، أو ربما يكره نفسه في واقع الأمر.
مع مرور الصفحات وسرد الذكريات تتضح المشكلة أكثر، وإذ بنا أمام أزمة من العجز تودي ببطلها إلى غياهب العبث والجنون، فيفقد المعيار والحكم والبصيرة كاملا:
"أقف بأعلى بناية وأنظر نحو الأسفل البعيد جدًا. أخشى السقوط، لا أعرف لماذا صعدت ولا إلى أين أنوي الذهاب.
صديقي الأعز أضربه في عنف ثم أذهب لأشكوه للمدرسة...
خائفا أعدو من أشباح أو من بلطجية وقطاع طرق..
يكرمونني ويسلمونني جائزة لقصة لا أذكر عنها شيئًا..
أبي يصفعني على وجهي، صدري ضيق..."
وتوحي لنا كمية تكرار كلمة أنا في الرواية بتحقق مفقود تمامًا، فبينما يحاول البطل تحقيق نفسه بكل أشكال الحيل، حتى الأدبية، يفشل تمامًا، ولا يعود أي وجود لأنا، ولا يعود ظهور حتى لبطله المتخيل الذي يفشل في كتاباته على الورق بشكل مُرضي، أو حتى بشكل مقبول.
في نهاية العمل يحاول البطل حكاية قصة غير مكتملة لابنه المعاق ذهنيًا فيقول عن المزين: " المزين يا سيدي كان عبيط..لأ.. كان بطل.. اتغلب أو يمكن غلب". إنه لا يتحدث هنا قطعًا عن المزين، بل يتحدث عن نفسه التي لم يستطع أن يكيفها مع هذا القبح العاتي، ولم ينجح حتى في الثورة على الأوضاع البائسة المحيطة به، أو حتى الانغماس في الخيانة بشكل جدي.. حتى خيانته الزوجية كانت افتراضية عبر هاتف وخيالات الاستمناء.
انهزامه الشديد في كافة مناحي الحياة يتجلى في صورته الأقوى في ابنه ذي القدرات العقلية المحدودة، فبعد أن كان يقول عنه:
ابني سينقذ أرواحكم وأجسادكم.. سيرتقي بكم ويعلمنكم كيف تكون اللذة وكيف تكون الحياة، سيمنح الدنيا نضارتها، ستقدسونه كرسول، سيرشدكم للخلاص ويستوضح الحقيقة وينتصر للمعنى".
وإذ به أمام ابن يقول له: "طيَّر الفيل.. طيَّر الأسد" ويحاول البطل يائسًا شرح عدم قدرة الحيوانات على الطيران دون فائدة.
في هذه المفارقة العبثية تتضح مأساة البطل المحبط والتافه في آن واحد، هو وبطله المفترض: المزين.
تراجيديا عدم التحقق عبر العلاقات الملتبسة بين بطلين قد يبدو للقاريء أنهما على طرفي النقيض، بينما يتشابهان بشكل مدهش.
على مستوى اللغة قدم أحمد سمير سعد انجازًا كبيرًا، فلغة البطل الرئيسي ولغة المزين مختلفتان تمامًا، والألفاظ موحية معبرة ممتعة.
مأخذي الوحيد على الرواية أن خط المزين – بطل القصة الافتراضي- قد أخذ حجمًا كبيرًا بعض الشيء دون أحداث حقيقية، فإن كان الرواي يود أن يعبر به عن معادل موضوعي لبطله الحقيقي – وهو ظن مني قد يكون خاطئًا – فكان عليه إما أن يُصغِّر من مساحته أو أن يقحم فيها أحداثًا حقيقية، بينما غطت الألاعيب اللغوية والأوصاف التي يسديها المزين لنفسه غالية حجم الصفحات، فلم يكن ثمة أحداث حقيقة في هذا الجزء. إن كان الروائي قد استطاع ضغط هذا الجزء لربما خرجت الرواية في حجم نوفيلا مركزة شديدة الإيحاء.
أسعدني جدًا أن استطاع المبدع أحمد سمير سعد الخروج عن خطه ومشروعه الذي استغرقه في شواش وطرح الخيال كاملا عن العلم والسؤال عن الخلاص، ليخرج بهذا العمل المختلف الثري.
يبقى أن نقول أن العمل صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة: إبداعات، وأن مؤلفه أحمد سمير سعد قد صدرت له عدة أعمال من قبل، آخرها عمله المشوق: لعب مع الكون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي ومترجم مصري