عبد الرحمن أقريش
أخذ (المامون) مقعده في الصف الأخير من الحافلة، مكان يسمح له بتجزية الوقت، في انتظار الوصول إلى المحطة الأخيرة، وقت يوزعه بين النظر إلى حركة الحياة في الخارج، والتلصص على العالم الغريب للحافلة، خليط من نماذج بشرية متنافرة، طلبة، عمال، موظفون صغار، عاطلون، معطوبون، لصوص، ومهووسون…
الحافلة جحيم حقيقي.
أعصاب متوترة، احتكاك، قرف، رائحة العرق والصهد والعطور الرخيصة يحبس الأنفاس، يختنق، يشعر أن روحه تكاد تغادر جسده.
فنان متسول يعزف أغنية شعبية.
( واسمحي ليا الواليدة سمحي ليا… )
يعزف، وظهره مستند إلى القضيب الحديدي، يتمايل، تتصلب قدماه على أرضية الحافلة بحثا عن التوازن، يرفع آلة (الكنبري) تفاديا، ينفحه البعض قطعا نقدية بيضاء وصفراء، ينتبه إليه المتسول العجوز فيطرده بقسوة، يوجه له الكلام.
– انزل…انزل…سير فحالك، الله يعطيك السخط !!
ينظر (المامون)، يتأمل المشهد، لطالما أدهشه حجم الشر الذي تختزنه نفوس الفقراء، ويضمره بعضهم لبعض، ولكنه في قرارة نفسه يفهم المسألة بشكل جيد، فعندما ننحدر إلى القاع الاجتماعي، يكشف الفقراء عن وجههم الآخر البشع، تستيقظ غرائزهم البدائية وتطفو على السطح، عدوانية، حقد، قسوة مجانية، حسد، وغل دفين أقوى بكثير من قوانين الصراع الطبقي، عندما ننزل إلى الحضيض يصبح سلوك الناس لغزا غريبا يستعصي على الفهم.
في لجة هذا الازدحام تقف فتاة عشرينية تمسك بالقابض الجلدي، ترتدي جلبابا خفيفا، يرسم تفاصيل جسدها الرياضي، تنتقل بين الأجساد بخفة، تمسح المكان بعينين وقحتين، تنظر للوجوه، تنظر في عيون الرجال بجرأة، تبتسم، تحرضهم، تقيس درجة الاستعداد لديهم، ثم أخيرا تختار ضحيتها، تنتقيه بعناية، تقف أمامه مباشرة، يهتز جسدها الرشيق، يتمايل، يندفع، يتراجع، في تناغم مع حركة الحافلة، وفي نفس الوقت يعمل رفيقها على تنقية جيوب الضحية، لحظات ويمر هو إلى الأمام في إشارة إلى أن المهمة قد انتهت، تلحق به، يتوقفان هناك للحظات، ينفتح الباب الآلي ويغادران…
ينظر (المامون)، يتملكه شعور غريب، يمتزج فيه الحرج بالقرف والكثير من الغضب.
يخاطب نفسه، يتساءل.
– من أين يأتي كل هذا البؤس؟
تبدو الحافلة مثل غنيمة حرب، آلة متهالكة، معطوبة ومهترئة، تهتز، تتمايل، تنحرف يسارا، يمينا، تسير بتهور في اتجاه مركز المدينة، في الخلفية تمتد السكة الحديدية، الحي الصناعي، ورشات الميكانيك، حي المحطة.
ثم عند المنعطف، في نقطة ما، تتوقف الحافلة للحظات أمام معمل النسيج، ينزل الناس، يصعد آخرون، تجتاح رائحة كريهة إلى الداخل، تخترق الحافلة، تنفذ من الأبواب والشقوق والنوافذ المعطوبة، تمتزج الروائح، تنصهر، رائحة الأسماك والعفونة التي استوطنت الأرضية الصدئة، رائحة العرق والصهد والعطور الرخيصة، جو خانق، تغطي النساء وجوههن بالمناديل، يشعرن بالحرج، يقاوم الرجال، ينظرون بعيون جامدة، بعضهم يمثل الوقار واللامبالاة، يحبس الشباب أنفاسهم، يبتسمون، يتهامسون بسخرية.
ثم ينبري شاب متحمس، ينظر جهة الجميع، يبدو منتشيا وسعيدا، يشرق وجهه، يبتسم، ثم يطلق ضحكة مرحة، يشير بيده وكأنه يطلب الإذن أو يعتذر، يخاطبهم.
– لعلمكم، هنا توجد مؤخرة المدينة.
…
غادر (المامون) أخيرا، تنفس الصعداء، عب الهواء النقي ملء رئتيه، مسح حبات العرق من جبينه، عادت إليه روحه.
تبدو المدينة هادئة وجميلة.
الأصيل، الجو ربيعي ودافئ، تتسرب خيوط الشمس من وراء البنايات والواجهات الزجاجية، راح يتأمل الفضاء الفسيح للساحة، قصر البلدية، والمقاهي الأنيقة…
في الخلفية يصدح المذياع بإيقاع جميل، (هدى سلطان)، تغني بصوت أنثوي رخيم.
(إن كنت ناسي أفكرك…)
تشربت روحه هدوء المكان، واستشعر خدرا لذيذا يسري في تفاصيل جسده، نوع من الشلل، إعلاء، حالة أفقدته الإحساس بالزمان والمكان للحظات، قرر أن يستمتع وأن يمتص رحيق اللحظة.
– تبدو الحياة جميلة بدون ضجيج، حتى الموت يفقده الهدوء بعضا من قسوته!!
يطوف النادل بخفة حول الموائد، ينظر للوجوه، ويوزع الطلبيات، ليمونادا، شاي، كوكتيل فواكه، عصير برتقال، قهوة سوداء، سجائر ديطاي…
توقف النادل أمام الشلة المتحلقة حول المائدة، تفرس في وجوههم للحظة، تردد قليلا، ابتسم، وضع كأس البرتقال أمام (المامون) تقلصت ابتسامته، ثم انمحت، ووضع فنجان القهوة السوداء أمام (المسخوط) وانصرف.
بدا (المسخوط) منزعجا، رشف رشفة خفيفة من كأسه المرة، ارتسم تعبير مؤلم على وجهه، سحب نفسا عميقا من سيجارته السوداء، وراح يطرد أعمدة الدخان من أنفه وفمه بالتناوب.
ينظر (المامون) إلى وجهه، يتأمله، نذوب، حروق، ثقوب، بقايا جذام، لوحة جدارية ترتسم عليها مخلفات طفولة قاسية وعنيفة.
تنخرط الشلة في ثرثرة لا تنتهي عن السياسة، والثقافة، والنساء، وهموم الحياة والعمل، البعض يملأ شبكة الكلمات المتقاطعة، البعض يحشر أنفه في جريدة، والبعض الآخر يتفرج على مباراة رديئة لفرق محلية.
ينكسر أفق الصمت فجأة.
يمر موكب من السيارات والآليات الضخمة، سيارات أمريكية ويابانية رباعية الدفع، شاحنات صهريجية للماء، وأخرى للوقود، وثالثة تحمل الفحم والخشب، سيارات إسعاف، وأخيرا حافلة تحمل فتيات شابات في مقتبل العمر، شقراوات، سمراوات، فتيات جميلات بالكاد تخطين عتبة المراهقة.
بدا الموكب كبيرا ورسميا، تسبقه دراجات الدرك، تخفره، أضواء، صفارات إنذار تشق سماء المدينة الهادئة.
يتساءل (المامون).
– أهو المهرجان السنوي لسينما الصحراء؟
ابتسم (المسخوط)، فبدت أسنانه، ما تبقى منها، مثل كماشة صدئة، أجاب بسخرية.
– لا، هذاك راه السعودي يا سيدي مبرع مع راسو !!
– أووواه…والبنات ؟
– كل شيء ديالو !!
يسترجع (المامون) في ذهنه صورة الرجل السعودي، فالإعلام والكتب والمجلات تقدم عنه صورة جميلة وبدون خدوش، إنسان مثقف، وزير، شاعر، حساس، وفي منتهى اللياقة والأدب.
– لا يعقل، الأمر لا يليق بمقامه، فالرجل مثقف وشاعر !!
يعترض (المسخوط)
– أعلاش لا؟ لو كنت أنا سعودي، ندير زوج حافلات ديال البنات، ماشي وحدة!!
ثم تبدأ التعليقات.
– دوماج ما عندنا بترول !!
– كايعطي الله الفول غير لي ماعندو أضراس!!
ينظر (المامون)جهة (المسخوط) يتأمل أسنانه الخربة.
– الفلوس كاينة…ولكن البدو الحياة ديالهم زيرو!!
– الحياة لا شيء، وبدون نساء لا تستحق العناء!!
تدخل (يعيش الشاعر) وراح يشرح علاقة الشعر بالمرأة، والحريم والحرام، والمتعة والحب والعشق الممنوع…
يستمع إليه الآخرون بصمت، وانطلق هو يحكي مغامراته العاطفية، وصلاته الخطرة بالثالوث المحرم، العطور، والخمور، والفجور، مغامرات عاطفية يعلم الجميع أن الجزء الأكبر منها غيرحقيقي، مغامرات وهمية، تكشف عن حرمان وأعطاب نفسية غير قابلة للترميم، قصص عاطفية غريبة نسجت من خيال مجنح وجامح، قصص تنتهي دائما بنفس المشهد الرومانسي الحزين.
مشهد فراق وقطيعة عاطفية.
تقف (هي) في وضعية جسدية جامدة، متسمرة إلى الأرض مثل تمثال، تبدو حزينة، تعيسة، تثير الشفقة، تتمالك دموعها بصعوبة.
يمضي (هو)، يلتفت إليها، يلقي عليها نظرة أخيرة، ثم يرحل منتصرا بكبرياء.
– وبقات كتشوووف!! (تنظر بحسرة)
تغرق الجماعة في الضحك، وهم يرددون الجملة المسكوكة.
– وبقات كتشوووف !!
ينظر إليه (المامون) ويبتسم، يفكر، يخاطب نفسه.
– هذا الرجل محظوظ فعلا، فالأغبياء سعداء!!
انقبضت نفسه فجأة، اجتاحته كآبة عارمة عندما انتقل المذياع إلى فقرة النشرة القضائية، نساء رفعن دعاوى تطليق ضدا على أزواجهن الهاربين من بيت الزوجية، مجرمون بأسماء غريبة، هاربون من العدالة، تطالبهم النشرة بتسليم أنفسهم لأقرب سلطة قضائية أو محلية…
ثم، يهيمن الليل تدريجيا…
غادروا جميعا، بقي (المامون) وحيدا، غيرت المدينة جلدها، غرقت في بحر من الكهرباء، شموع، رسوم، بهرجة، أضواء ودعاية ملونة، فتحت الفنادق والمطاعم والمراقص أبوابها لتستقبل زوار الليل.
غادر هو أيضا، مشى في اتجاه ما، أحس بالبرد يتسرب إلى تفاصيل جسده، شد إليه ياقة قميصه، أدخل يديه في جيب سترته ومضى.
يتوقف للحظات أمام الواجهات الزجاجية الأنيقة للمتاجر والمكتبات.
طفل ووالده يغادران متجر الهدايا، يعانق الولد هديته، يرفع بصره، ينظر في وجه أبيه، يبتسم وفي عينيه إشراقة الرضا والامتنان.
سيدة في مقتبل العمر تسرع الخطى، تلحق بسيدة أخرى، جميلة، متبرجة بشكل أنيق، توقفها، تسألها.
– الله يخليك ألالة، أشنو سميت العطر لي دايرة راه حمقني؟!
يتوقف، يتأمل المشهد، يبتسم، ويفكر.
– النساء، النساء، بدون نساء ستكون الحياة جحيما لا يطاق !!
تاه في المدينة على غير هدى، مشى بشكل غريزي، أطلق العنان لروحه الشاردة، اقتنى كتابا، مجلة نسائية وجريدتين، باقة ورود حمراء، وعلبة شوكولاطة.
توقف أمام الباب، تردد قليلا، نقر عليه نقرات خفيفة، انفتح، نظرت إلى الورود بين يديه، احتضنته، قبلته، ابتسمت، فسحت له، دفعت الباب لينفتح أكثر.
ثم قالت.
– تصور، كنت أعرف أنك سوف تأتي!!