عبد اللطيف النيلة
عندما اقتسم عليّ الخروب وشقيقاه إرث والدهم، احتاروا في كيفية اقتسام المخطوط المودع في صندوق خشبي عتيق. كان يحوي مزيجا من كلمات انحدرت من ألسن مختلفة، وتحوم حوله حكاياتٌ نُسجت على امتداد قرون. وما من شك في أن الحكاية الأكثر إثارة من بينها، هي تلك التي تزعم أن مجترح المخطوط قد خطه بسبعة أقلام من قصبٍ اقتطع من حقولِ سبعِ أراض، وسكنته أرواح لا حد لقدراتها.
ولأن عليّ الخروب لم يفتأ – منذ نعومة أظافره – يستمع إلى شريط أبيه، ومن قبله جده، حول القوة السحرية للمخطوط، فإنه لم يشأ أن يضيع من بين أصابعه بأي ثمن، حد أنه لم يجد بدا من الاستسلام إزاء ابتزاز شقيقَيْه، اللذين لم يكونا يصدقان حرفا واحدا مما نُسج حوله، ومع ذلك أبيا إلا أن يُقايضا شقيقهما نصيبه من الإرث لقاء حيازة المخطوط.
لم يتوان علي الخروب لحظة واحدة عن العكوف على المخطوط مذ غدا تحت يده؛ يتصفح أوراقه متفحصا رسمه، ويتلمس الطريق إلى فك رموزه وتأويلها، جاهدا لاستكناه خباياه. وقد أمضى شهورا على هذه الحال، حتى نسي نفسه؛ نأى عن جلسات أصحابه، ولم يعد يهتم بالترويح عن نفسه من حين لآخر مثلما كان يفعل من قبل، وهجر عمله، مكتفيا بأقل جهد يسعفه بلقمة تسد الرمق، إلى حد أن جسده راح ينحُل مع مرور الأيام إلى أن أضحى خيالَ رجل. ولم يعبأ بمشاق حياة العزلة، حتى عندما رددت الحناجر أنه معتوه وانفض الجميع من حوله.
لم يَجُدْ عليه المخطوط بشيء من بركاته، رغم ذلك، حتى عندما تعلم الألسن التي خُطت بها حروفه وأجاد فن قراءة ما بين السطور. فكلما أيقن أنه فهم سرا من أسراره، وسعى لتسخيره لقضاء إحدى الحاجات، إلا وأسفرت نتيجة سعيه عن إخفاق مرير، حتى أنه طفق يتأرجح بين الندم على التضحية التي بذلها من أجل سراب خادع، وبين الأمل في انبثاق طاقات السحر قريبا.
وذات ليلة كان عليّ الخروب متربعا على أريكته الوثيرة، يفكر في ما آل إليه أمره، فيما المخطوط موضوع أمامه على مائدة مستديرة من الخشب، بعد أن فرغ من قراءته للمرة السبعين على حد ظنه. كان شقيقاه قد اقتسما الإرث مناصفة، من دونه، وهجرا صناعة الصنادل والبلغات التي كان أبوهم يزاولها، فتعاطى أحدهما السمسرة بينما راح الآخر يتاجر في العسل المغشوش… ولم يُفلتا أي فرصة تسنح للتعليق الساخر على مسلكه، مُزجيين له النصائح أحيانا. يقول له أحدهما: «هلا تركت الجري خلف أوهام هذا المخطوط ورجعت إلى حياتك العادية»، ويردف الآخر: «سيذهب بعقلك دون أن تبلغ ما تُنقي به أسنانك!». ومثل حكيم يزن كلماته، كان عليّ الخروب يرشقهما بعبارة واحدة يحاران في فهم معناها: «إني ذاهب إلى ملتقى الألسن والألوان». كان قد بقي وحيدا مع المخطوط اللعين، فحتى أصدقاؤه يئسوا من عودته إلى دائرة اهتماماتهم المشتركة، فأخذت زياراتهم له تتباعد إلى أن انقطعت بالمرة.
فجأة سمع صوت مفتاح يُدار في قفل الباب، تلاه وقع خطوات على زليج الدار، فانبعثت في ذاكرته، وهو أسير الدهشة والخوف، الكلمات التي قرع أذنيه بها الراحلُ والده ذات سهر: «لو اخترتَ الانحياز إلى المخطوط، في يوم من الأيام، ستكون قد جنحت إلى القبض على المستحيل، فصيادو نفائس الكنوز لن يكفوا عن مطاردتك، أو بالأحرى مطاردة روحك إن كنت حجر عثرة في طريقهم». حياة والده نفسها تقدم برهانا على صدق هذه الكلمات، إذ تعرض مرارا لمحاولات الاغتيال، حتى أنه أزهق روحين دفاعا عن نفسه، وكثيرا ما غير محل سكناهم، عند اشتباهه في أي شخص يتعقب خطاه.
***
الصياد الذي قطع آلاف الأميال، وأنهكه البحث والسؤال في بقاع كثيرة، قبل أن يعثر على أثر يفضي به إلى المخطوط، كان بدوره شديد الإيمان بقوته السحرية، وقد تسلح بفنون القتال، وتأهب لاقتراف أي فعل مهما كانت صعوبته، ومهما بلغ انحطاطه.
لم يصدق الصياد نفسه حين انفتح قفل الباب بيسر، وخطا فوق الزليج، ونور مصباح ينبعث من إحدى الغرف، فيما التقطت قرون استشعاره رائحة أنفاس العدو الجاثم على المخطوط. لكن لم يخطر بباله أن يشهر الحظ في وجهه إصبعا بذيئة، رغم أنه لم يترك زاوية في دار العدو دون أن يتفقدها. هو على يقين بأن عليّ الخروب كان موجودا داخل الدار، مادام من ناحية قد اقتفى أثره من بعيد، وعاينه بأم عينيه يدلف إليها ويوصد الباب خلفه، ومادام من ناحية أخرى يرى الآن دخانا يتصاعد متلولبا من سيجارة ما تزال مشتعلة، وقد انطرحت بطولها وسط منفضة من زجاج، كأنما تخلت عنها الأصابع بغتة، ثم إن الموضع المقعر الدافئ من الأريكة يشي بأن العدو قد غادره منذ ثوان لا غير.
استلقى الصياد على الأريكة في الموضع ذاته الذي كان يجلس فيه علي الخروب، نافخا هواء من أعماق صدره، وفكر مرتعبا في احتمال أن تكون مهمته قد آلت إلى الفشل الذريع، ولم يسعفه خياله في تصور مكان اختفاء العدو. أخرجه من شروده صوت توقف قطار، فتنبه إلى شاشة التلفاز. كان هناك أناس يترجلون من القطار، نازلين إلى رصيف المحطة، فيما أناس آخرون يترقبون لحظة الصعود إلى المقصورات. فجأة شد اهتمام الصياد رجلٌ يلوح له بيده وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة. كان يتأهب للركوب من غير محفظة أو حقيبة، ممسكا بيده مخطوطا مجلدا. ولما دقق الصياد النظر في وجهه، وهو يتابع تلويحه مرة أخرى من خلف نافذة المقصورة التي تبدت بجلاء على صفحة الشاشة، أدرك أنه غريمه؛ علي الخروب مالك المخطوط السحري. انتفض واقفا كما لو صُبَّ على قنة رأسه دلوُ ماء بارد بغتة، واضطرب لحظة لا يدري كيف يردم الهوة السحيقة بين العالم الملموس حيث يتنفس هو، وعالم الصورة حيث يتبدى غريمه. أقنع نفسه بالتريث حين أعلن علي الخروب: «تابعونا لنستكشف معا أعظم مكتبة في العالم». وراح القطار ينهب الطريق…
وحين دفع عليّ الخروب باب المكتبة، انفتحت أمامه قاعة شاسعة مأهولة برفوف مصطفة في نظام وقد رُتبت عليها آلاف آلاف الكتب. أخذ يطوف في أروقة المكتبة، مكتشفا كنوز الرفوف. ومن حين لآخر، يستل كتابا من مكانه، وبمجرد أن يفتح دفتيه تظهر صور حية (كما لو أن صفحاته شاشة تلفاز) لبنائين سُمر يشيدون هرما، أو عمالٍ ضيقي العيون يصنعون ورقا، أو شيخ وقور يحاور شبانا في ساحة عامة، أو كهلٍ ذي عمامة يقلب النظر في أرقام ورموز ومعادلات، أو رجل أشقر يفجر ذهبا أسود من باطن الأرض…
وبينما الصياد يتابع غريمه باهتمام قلق، معملا ذهنه، في الآن نفسه، للعثور على حل ينتشله من مأزقه، انقطع البث على حين فجأة لتكتظ الشاشة بنقط متقافزة، سوداء وبيضاء، ويتعالى صوت الطشيش مُصما أذنيه. كان الصياد قد اندهش من تسرب غريمه إلى عالم الشاشة، لكنه تسمر في مكانه ذاهلا حين خطا صوب التلفاز لتشغيله، فاكتشف أنه لم يكن مشغلا أصلا، إذ لم يكن القابس موصولا بالمقبس. قال بصوت مسموع يحدث نفسه: «لقد كنت، إذن، ضحية إيهام في غاية الإتقان!». وعقب ذلك أخذ يتلفت حوله، مجيلا عينين زائغتين في أثاث الغرفة والجدران والزوايا.
يروي العديد من الناس أنهم صادفوا رجلا هائما على وجهه في دروب المدينة دون أن يكف لحظة عن التلفت..، صائحا من حين لآخر: «لن تخدعني مرة أخرى أيها الساحر!».
ولم يدر بخلد أحد أن علي الخروب قد اختفى، وظن شقيقاه وأصدقاؤه أنه هاجر إلى مكان ما.
***
توالت سنين طويلة قبل أن يحل بسوق الأحذية في المدينة القديمة كهلٌ غزا الشيب شعره، لم تكف عيناه عن التطلع باهتمام إلى ثلاث حوانيت مهجورة قد تهاوت سقوفها وتُركت مشرعة الأبواب. استغرق ترميم هذه الحوانيت خمسة أسابيع، وجُهزت لتنشأ تحت سقوفها صناعة أحذية اجتذبت الأذواق بتنوع الطرُز وجمالها، وبراعة الصنع ومتانته. كان صنف منها يمثل الحذاء المغربي التقليدي، بينما الصنف الثاني يحاكي طُرُز الأحذية في مختلف بلدان المعمور، إلى درجة أن الناس ميزوا بينها بأسماء من قبيل: الهندي، الإيطالي، الفلسطيني، والأرجنتيني، أما الصنف الثالث فيبدو تركيبا مبتكَرا بين هذه الطرُز.
كان الكهل الشائب يقف خلف دوران عجلة الصناعة في الحوانيت الثلاث، وكان يتربص بكل حانوت رغب أصحابها في بيعها، بسبب إشرافها على السقوط أو كساد بضاعتها.. حتى وضع يده على سبع حوانيت بالتمام والكمال.
وذات يوم عُلقت فوق أبواب الحوانيت يافطات كُتب عليها بخط كوفي أنيق: “أحذية ملتقى الألوان”، بينما بدا الكهل الشائب مقتعدا أريكة وثيرة بأقصى الحانوت السابعة وقد أنار وجهَه ضوءُ شمسِ الصباح، ومن خلف زجاج نظاراته سرحت عيناه في سطور مخطوطٍ مجلدٍ كان بين يديه.