عبد الغني محفوظ
كتب الكثير عن المخطوطات الادبية، ولكن كل ما كتب تقريبًا يغلب عليه الطابع التصنيفي )الببليوجرافي) أو النصي أو التجاري. ويقوم معدو الفهارس (البيبليوجرافيا) بوضع البيانات (الكتالوجات) وتصنيف مواد المحفوظات (الأرشيفات)، وهناك كتب تصنف كل مخطوطة معروفة لوودورث وكولريدج وشيلى وييتس. وعادة ما يقوم محققو النصوص باستشارة المخطوطات المتباينة لإعداد الطبعات المعتمدة أو ما يطلق عليه definitive edition. ويطبع بائعو الكتب ومنظمو المزادات كتالوجات فاخرة تصور المخطوطات الأدبية التي يأملون بيعها. وكم المواد الوصفية الذى يتحدث عن المخطوطات هو كم هائل ولكن قلما يجد المرء كتابة نقدية أو تنظيرية عن الموضوع، كما أن هناك القليل من التحليل الواعي أو التأمل العميق عن موقع المخطوطات في الثقافة الأدبية الأوسع، كذلك لا يوجه اهتمام جاد الى وضع هذه المخطوطات إزاء النصوص المطبوعة. وإذا كان الدارسون في العادة يناقشون المخطوطات من ناحية نفعية بحتة، فإن النقاد والمنظرين قد تجاهلوها تمامًا كموضوع للبحث المستقل.
وفي غياب الاهتمام النقدي او التنظيري الجاد، فان أهمية المخطوطات قد ترك أمر تقييمها للسوق المتمثل في عالم البائعين، وبيوت المزادات، وهواة الاقتناء. ورغم أن القطاع الخاص كان أسبق في معرفة أهمية المخطوطات قبل أن يقوم النقاد وأمناء المكتبات بجهود منظمة لاستعادتها والاحتفاظ بها، فإن السوق لم يقم إلا بالقليل في سبيل الكشف عن القيمة الحقيقية لموادها. وربما لا يكون من الانصاف تمامًا أن نقول كما قال أوسكار وايلد: “السوق يعرف سعر كل شيء ولا يعرف قيمة أي شيء”. وما يقوم به السوق هو تحديد السعر أما مسائل القيمة فإنها تنتمى إلى مكان آخر.
غير أن الافتقار إلى التفكير التأملي والتحليل النقدي لم يبطئ من رواج عالم المخطوطات الأدبية، فالآلاف من أمناء المكتبات وأمناء المتاحف والتجار والدارسين وهواة الاقتناء يقومون الآن ببناء أرشيفات ضخمة من المواد الأولية. ولم تقترب أي ثقافة في التاريخ من مستوى النشاط في هذا الصدد كما هو الحال في امريكا، فالمؤسسات الأمريكية تنفق أموالا طائلة للحصول على مواد المخطوطات وتحتفظ بها، والجماهير الغفيرة تتردد على المعارض العامة، بينما يتوافد الدارسون على قاعات القراءة ليدرسوا على مهل، ومجلات الببليوجرافيا وكتالوجات المعارض تضخها المطابع، والصحف تراجع المعارض الكبرى وتغطى المزادات الهامة. ودون ان يعرف السبب على نحو واضح، فقد اجمعت الثقافة على أنه حتى في عصر تتقلص فيه الموارد، يكون جمع المخطوطات الأدبية والحفاظ عليها اولوية. ومنذ مائتي عام لم يكن أحد في الغرب ليجشم نفسه عناء الاحتفاظ بمحتويات أفضل المخطوطات معاصرة له، فما سبب هذا الاهتمام الواسع النطاق بالمخطوطات الأدبية؟ وكيف حدث هذا التحول؟ ما الذي تكشفه الافتراضات الحالية للمخطوطات عن الثقافة الادبية الحديثة؟.
أنواع المخطوطات
قال الشاعر فيليب لاركن Larkin ذات مرة : “كل المخطوطات الادبية لها نوعان من القيمة: ما يمكن أن نسميه القيمة السحرية والقيمة الهادفة”. ولا احد اليوم يشك في القيمة الدراسية او “الهادفة”. والمكتبات تعلن عن حصولها على أوراق كاتب شهير بنفس الدعاية المدوية التي تصاحب اكتشافا طبيا جديدا. والتعليل العام لجمع المخطوطات هو أنها توفر معلومات ليست موجودة في العادة في أي مكان آخر. ويمكن للمخطوطات ان تحل مشكلات تتعلق بالحقائق مثل التأريخ لقصيدة أو تحديد دقة نص. وليس من غير المعتاد لدارس يتوافر على دراسة مخطوطات عمل ادبى ان يجد ان بعض الأسطر غير الواضحة في النص المطبوع قد تحتوى على خطأ ما.
كذلك فإن المخطوطات أيضا تضئ المعنى الأوسع للعمل الأدبي، فرؤية ما حذفه الشاعر غالبا ما يساعد في توضيح ما ضمنه في النص. والمسودات توضح مقاصد المؤلف في مقطوعة معينة. واليوميات والخطابات والمذكرات والوثائق الأخرى تضيف الى معرفة حياة الكاتب ووسطه الاجتماعي، فخطابات عزرا باوند Pound المضغوطة والغريبة الأطوار المرسلة من بلدة “رابالو” في إيطاليا تعد القارئ لقراءة الاناشيد Cantos التي كتبها في نفس التوقيت. و”القيمة الهادفة” للمخطوطات غالبا ما تتجاوز محتوياتها اللفظية البحتة المجردة. وفي بعض الأحيان يكون لبعض المواد حتى دور في تسليط الضوء على الكاتب، فكتب إميلي ديكنسون Dickinson التي كانت تجلد تجليدا فاخرا ودقيقا لا تكشف فحسب موقع الشاعرة بين ارستقراطية “نيوانجلاند” التي تمكنها من تحمل المواد والفراغ لإعداد مثل تلك الكراسات فحسب، بل ايضا تبين الوسط الخاص والشخصي الذي يمثل نطاق النشر والتوزيع بالنسبة لها، فحتى أسرتها لم تكن تعرف مدى إنتاجها الأدبي، وبعد أن ماتت إميلي في عام 1886 ذهلت اختها لافينيا Lavinia من عدد القصائد التي كانت مخبأة في أدراج مكتب غرفة نومها.
وأهم من كل ذلك فالمخطوطات غالبا ما تحوي اعمالا جديدة فقلة من الكتاب هم الذين ينشرون كل شيء يكتبونه، وعادة ما تكشف الأوراق التي يتركونها مادة جديدة، بل انه في بعض الحالات النادرة مثل حالة ديكنسون وجيرارد مانلي هوبكنز Hopkins ظهرت كل أعمالهما بالفعل بعد موتهما من خلال الأوراق التي لم تنشر، حيث لم يظهر من قصائد ديكنسون المعروفة البالغة 1775 قصيدة خلال حياتها إلا سبع قصائد فقط. علاوة على ذلك ففي الطبعة الأولى من أعمالها أعاد محرريها كتابة أعمالها بأساليب أكثر تقليدية. اما المحررون المتأخرون فقد رجعوا الى المخطوطات لاستعادة قصائدها الحقيقية. وبالنسبة لهوبكنز فإنه لم ينشر أي شيء لسنوات طويلة باستثناء ثلاث تريوليتات triolet ساخرة وثلاث نسخ لاتينية من قصائد انجليزية. ولم تظهر أعماله الناضجة إلا في عام 1918م أي بعد موته بثلاثين عاما. وقام روبرت بريدجز Bridges الوصي الأدبي على أعماله بانتقاء قصائد المجموعة الأولى من أربع مخطوطات.
مخطوطات القصائد وأنواعها
ويمكن تقسيم مخطوطات القصائد الى ثلاث مجموعات عامة: مسودة العمل working draft والمخطوطة النهائية final manuscript والنسخة المبيضة fair copy. وكل نوع من هذه المخطوطات يوفر نوعا من الإدراك والمعرفة عن العمل والمؤلف، فمسودات العمل لقصيدة تكشف تطور العملية الإبداعية لدى للشاعر. وإذا ما عثر على كل مسودات العمل فإنها تساعد في تتبع نمو القصيدة منذ الدافع الاولى لدى الشاعر حتى وصولها الى الشكل النهائي. ولكن الكثير من الكتاب يتخلصون من مسوداتهم. كذلك فان مسودات العمل تبين الاختلافات الهامة في العملية الابداعية بين الشعراء، إذ يتضح مثلا ان لورد بايرون كان يكتب بسرعة وثقة وثبات وكثيرا ما تتخذ قصائده الشكل الحقيقي لصياغتها الاخيرة منذ المسودة الاولى. ومسودات العمل في قصيدة “دون جوان” تبين أن مقطوعات بأكملها كانت تكتب ويتم صقلها ومراجعتها في شكلها النهائي على نفس الورقة. أما اليزابيث بيشوب Bishop فقد تعكف على العمل لسنوات في قصيدة واحدة والمسودات الموجودة إحدى قصائدها بعنوان The Moose (أي الموظ وهو نوع من الأيائل) تبين أنها قد عملت في القصيدة ذات الـ 168 بيتا لأكثر من عشرين عاما قبل نشرها في مجلة “نيويوركر” عام 1927م (ثم أعادت تنقيحها مرة أخرى قبل وضعها في كتاب).
القصيدة بين عالمين
والمخطوطة النهائية تعد بمعنى ما من المعاني المسودة الاخيرة لإحدى قصائد الشاعر او مجموعة من هذه القصائد، ومع انها تمثل نهاية العملية الابداعية الخاصة، فإنها ايضا تحدد بداية الحياة العامة للعمل الأدبي. والمخطوطة النهائية تترك مكتب المؤلف لتدخل المملكة العامة للمحررين والناشرين والمحامين والنقاد. وبالنسبة للكتاب السابقين كانت المسودة الأخيرة عادة ما تكتب باليد اما بالنسبة للكتاب الحديثين فإنها عادة ما تكون على الآلة الكاتبة. (وحتى في عصر أجهزة الكمبيوتر يفضل اكثر الشعراء ارسال نسخة من عمله على الورق إلى جانب قرص الكمبيوتر). والمخطوطة النهائية تعد ذات قيمة فريدة لأنها نسخة النص الذى يقدمه المؤلف للنشر. وبالمعايير الفنية فهي العمل الذي تم إنجازه وبالمعايير الدراسية فهي تكشف مقصد المؤلف. والأعمال الأدبية غالبا ما يتم الحذف منها وتنقيحها وإعادة وضع علامات الترقيم بها وأحيانا إخضاعها للرقابة قبل طبعها لأسباب لا علاقة لها برغبات المؤلف. فعلامات الترقيم في كتاب “شعر روبرت فروست” The Poetry of Robert Frost وهي الطبعة الكاملة المعمول بها لقصائد فروست تختلف في أكثر من 1100 موضع عن النصوص التي طبعها الشاعر بنفسه. وبإعادة وضع قصائد فروست في قوالب الترقيم التقليدي، فإن الكتاب يغير ايقاع الأبيات وحتى في بعض الأحيان معناها. وإذا كان افضل نص لقصيدة ما هو النص الذي يمثل مقصد الشاعر، فإن المخطوطة النهائية توفر نقطة انطلاق لتحديد هذا المقصد.
ومقارنة المخطوطة المكتملة بالنص المطبوع يمكن ان تقدم اكتشافات جديدة، فأوراق إدوارد إيستلن كمنجز Cummings تبين كيف أن لغة الشاعر كانت تخضع للرقابة والحذف من قبل الناشر لتخوفه من الألفاظ الإباحية. وقد كتب الى ناشر كتابه “الغرفة الهائلة” 1922 The Enormous Room يطلب منه ألا يغير أي كلمات ثم عاد فطلب منه أن يتم حذف الكلمات بدلا من استبدالها. ورغم ذلك قام الناشر بمراجعة الكتاب وعدل فيه وغير علامات الترقيم وترجم الجمل الفرنسية الى اللغة الانجليزية وحذف ما يعتبره إباحيا وذلك بدون موافقة المؤلف، ولم تطبع النسخة الحقيقية للمؤلف إلا في عام 1978. ويكشف ديوان روبنسون جيفرز Jeffers المنشور عام 1948 تحت عنوان The Double Axe and Other Poems أن دار نشر “راندم هاوس” قد طلبت من الشاعر أن يحذف عشر قصائد ويغير عددا آخر من القصائد لأسباب سياسية، فقد استاء المحرر والناشر من نقد الشاعر لفرانكلين روزفلت. ورغم أن جيفرز قد وافق على مضض، على إجراء هذه التعديلات إلا أن الناشر وضع ملحوظة في مقدمة الكتاب يتنصل فيها من معتقدات جيفرز السياسية ويعلن اختلافه معها. وبينما تفاخرت الملاحظة بالتزام دار النشر “بحرية الكاتب” فإنها لم تذكر القصائد المحذوفة والتعديلات العديدة، والتي ظلت مجهولة حتى فحص أحد الدارسين مخطوطة الكاتب بعد عدة عقود، ولم تنشر نسخة جيفرز الحقيقية إلا في عام 1976م، أي بعد أربعة عشر عاما من وفاة الشاعر.
والنسخة المبيضة هي نسخة بخط اليد لقصيدة مكتوبة أو مطبوعة بالآلة الكاتبة بيد المؤلف بعد استكمالها. (والنسخة المبيضة لا تحتوى على تعديلات على عكس نسخة المسودة foul copy التي تبين التعديلات والتغييرات). والنسخة المبيضة لذلك هي شيء جدير بالاحتفاظ به كنتاج ادبى. ولأنها في الغالب كان يقصد منها ان تكون هدية فان النسخة المبيضة يكتبها الكاتب بأفضل خط يد ممكن. وكانت مثل تلك المخطوطات اليدوية شائعة للغاية في القرن قبل الماضي. والشعراء المشهورون كان يطلب منهم كثيرا نسخ من قصائدهم بخط أيديهم. وتكشف خطابات الشعراء الأمريكيين في القرن التاسع عشر الكثير من تلك الطلبات والإجابة عليها.
وعادة ما ينتهي المطاف بمسودات العمل والمخطوطات النهائية والنسخ المبيضة الى اماكن مختلفة. ومالم يتم التخلص من مسودات العمل فإنها عادة تظل في حوزة الشاعر وتحفظ عادة مع اوراقه. وقد تذهب مسودات العمل الى أصدقاء في عالم الأدب لكي يعلقوا عليها ويبدوا آراءهم بشأنها، وبهذا تستقر لدى كاتب آخر. أما المخطوطات المستكملة فإنها تظل في ملفات المحررين والناشرين. والنسخ المبيضة غالبا ما تتبعثر بين من يتلقونها.
وغالبا ما ينظر القائم على السجلات الأدبية الى النسخ المبيضة على انها اقل قيمة من مسودات العمل، لأن مسودات العمل توفر معرفة علمية، بينما تبدو النسخ المبيضة على انها مجرد تذكار. غير أن النسخ المبيضة احيانا تحوى قراءات مغايرة لنص ما، مما يعكس مراجعة الشاعر للقصيدة. فالنسخة الجميلة من قصيدة إدجار ألن بو Poe المعنونة “Ulalume – A Ballad” التي أعطاها لفتاة صغيرة قبل وفاته بشهر تعد الآن هي النص المعمول به لهذه القصيدة. والنسخ المبيضة احيانا تمثل المخطوط اليدوي الوحيد الموجود لعمل أدبي، خاصة فيما يتعلق بفترة ما قبل الرومانسية. فما الذي يمكن أن يدفعه محققو النصوص على سبيل المثال مقابل حصولهم على مخطوطة هاملت سواء أكانت مسودة عمل أو نسخة مبيضة وهى مسرحية “نصها” موجود طباعة في ثلاث طبعات مختلفة؟. وقد تكشف مسودات العمل عن العملية الابداعية ولكن النسخة المبيضة قد تساعد في تحديد النص الموثوق به لعمل أدبي منتهي.
القصيدة المنتهية والرومانسية
ولكن ماهي القصيدة المنتهية؟. وهل كان بول فاليري Valery على صواب عندما أعلن: “القصيدة لا تنتهى أبدا، لكنها فقط ‘تترك’”. ان دراسة المخطوطات الادبية يسلط الضوء على قضية مركزية في الشعر الحديث: ما الذى يشكل عملا فنيا مكتملا؟. بينما كان فلاسفة الرومانسية يحولون اهتمامهم من تحليل العمل الفني المنتهي تقليديا إلى التأمل في العملية الابداعية، فانهم استهلوا تحولا في الذوق استمر حتى يومنا هذا؛ ذلك أن الأعمال التي كان ينظر إليها قبل ذلك بقرن على أنها غير كاملة حازت استحسانا كبيرا كقصائد مكتملة ومتحققة. ففي عام 1798 نشر صامويل كولريدج Coleridge، المنظر الإنجليزي الرئيسي للرومانسية قصيدة “قوبلاي خان” Kubla Khan واتخذ لها عنوانا فرعيا هو Fragment أي “كسرة او جزء” وفي عام 1820 سمح كيتس بان تنشر قصيدته المتروكة Hyperion التي تنتهي عند نصف جملة، في ديوانه.
وإذا كانت الفترة الرومانسية تقدر الكسرات والبقايا الشعرية لأنها تكشف عبقرية الشاعر الداخلية حال انطلاقها من أسر القيود الخارجية للشكل الكلاسيكي، فإن هذه الفترة أيضا قد ولدت احتراما غير مسبوق للمخطوطات الادبية. وكانت العصور السابقة تنظر الى الاشياء المكتوبة بخط يد الشاعر من الناحية الوظيفية البحتة، وبمجرد وضع النص في الطباعة لم يكن ثمة حاجة للاحتفاظ بالنسخة المكتوبة باليد. وكان ينظر الى “الفردوس المفقود” عند نشرها عام 1667 على انها تحفة ادبية رائعة ولكن لا ميلتون ولا أحد معاصريه اهتم بالحفاظ على المخطوطة. ولم يفلت من اللامبالاة الا جزء صغير من المخطوطة الاصلية الضخمة (مازال هذا الجزء الذي يحمل بقع الحبر محفوظا في أقبية مكتبة مورجان التي يتم التحكم في درجات الحرارة بها عن طريق أجهزة حديثة). اما الرومانسية فكانت تسبغ على الصفحة المكتوبة بخط يد شاعر شهير قوة سحرية. وأصبحت المخطوطات في العصر الفيكتوري في انجلترا شبيهة بالآثار المقدسة. ولم يكن هذا التحول في الإحساس ليقع إلا في القرن التاسع عشر وفي ذروة نجاح ثقافة الطباعة. وكان هذا هو أول عصر للقراءة الجماهيرية والطباعة الرخيصة والاتصال السريع. وغيرت الموجات المتتالية من النجاح التكنولوجي والتجاري – الصحافة اليومية والبريد والروايات وخدمة البرق وورق اللباب والاعلان الواسع النطاق والروايات الرخيصة – تدريجيا من الإطار المرجعي للمعرفة والاتصال الإنساني. فلأول مرة في التاريخ يجرى إعلان ونشر وحفظ وتصنيف أكثر المعلومات على الصفحة المطبوعة. واحتل المؤلفون موقعا حرجا في الاقتصاد الذي تهيمن عليه الطباعة. وقبل الفيلم والراديو والتلفزيون وأجهزة التسجيل والتليفون والكمبيوتر كان الكاتب يمارس احتكارا شبه كامل على المعلومات. وحيث أن الشهرة كانت وظيفة للطباعة، استطاع الكتاب الناجحون أن يحققوا شهرة كبيرة. ولما كانت الافكار تنتقل بسرعة ولمسافات كبيرة، استطاعوا أن يحوزوا نفوذا وتأثيرا كبيرا.
مكانة الشاعر بين عصرين
واحتل الشاعر مكانا فريدا وممتازا في ثقافة الطباعة في القرن التاسع عشر. ولأنه يجسد همزة الوصل التي مازالت قوية بين العصر الحديث وعصور التراث الشفهية السابقة، فهو يمارس أكثر الفنون احتراما – فن متجذر في اللغة المنطوقة وإن كان من السهل تحويله الى الطباعة – ولايزال الشاعر في الطباعة يلعب دورا يقارب دور الكهنة. ولم يكن الكاتب المسرحي والروائي ينظر اليه ابدا على قدم المساواة مع الشاعر.
والآن تهيمن الرواية على النشر التجاري ولكن الشعراء الناجحين من أمثلة تنيسون Tennyson و لونجفيلو Longfellow يمكن ان يبيعوا أكثر من الروائيين. وإذا كانت الثقافة قد غيرت الهوية الاجتماعية للشاعر، فان الانتاج الكمي أيضا قد غير المكانة الثقافية لمخطوطاته. فقد أدى تماثل واتساق الكتب المطبوعة إلى إسباغ هالة شخصية فريدة على الصفحة المكتوبة بخط اليد. ان الاتصال غير الشخصي هو وظيفة الطباعة أما المخطوطة فتوحي بعلاقة أكثر حميمية ومباشرة بين القارئ والمؤلف، ليس من خلال نصها بل من خلال اداتها والتي تشبه اتصالا خاصا. ان الوجود الكاسح للطباعة (الآلية) الميكانيكية جعل اداة المخطوطة أهم وسائلها.
القيمة الوظيفية إزاء القيمة السحرية
وعلى ذلك فإن القيمة الخاصة للمخطوطة لا تأتى فحسب من الكلمات التي تحويها حيث يمكن العثور على النص في مكان آخر في شكل مطبوع. وبالمقاييس الوظيفية البحتة – أي مقروئية النص وديمومته وإمكانية حمله وربما حتى دقته – يكون الكتاب في العادة أفضل من المخطوطة. غير أن القيمة العليا للمخطوطة تأتي من كونها عمل فني في عصر الإنتاج الميكانيكي، في هالتها، وفي وجودها الزماني والمكاني. والكتاب الحديث هو منتج مصنع وفقا لمعايير موضوعة وثابتة، فالنسخة الموجودة في شيكاغو لا تختلف عن النسخة الموجودة في باريس او مدغشقر، اما المخطوطة فهي لا توجد ككيان فريد لا يمكن تكرار جوهره الكلى فحسب، بل انها ايضا تحيا كقطعة فنية تاريخية يمكن ارجاعها الى كاتبها. ان طريقة وجود الأعمال الأدبية هي مشكلة معقد، وربما لا حل لها غير ان الإنتاج الميكانيكي وفر اجابة على الأقل بالنسبة للقارئ العادي. وبينما حولت تطورات الطباعة التجارية في القرن الثامن عشر الكتب من سلع كمالية الى أغراض عادية، فان الانتاج الكمي قد نزع القداسة عن الكتاب، ولكنه لم يدمر الهالة السحرية للعمل الأدبي، بل نقلها فحسب. وأدى انتشار الكتب المطبوعة بالتدريج إلى إيجاد نوع جديد من “الكتاب الأصلي” وهو المخطوطة المكتوبة بيد المؤلف والتي تحظى بهالة من المصداقية والموثوقية عن طريق يد كاتبها.
المخطوطات وفلسفة الاقتناء
أصبحت مخطوطة العمل الأدبي أكثر من مجرد كلمات: أصبحت تمثل علاقة مادية مباشرة من دون وساطة، بين القارئ والمؤلف، مثل بقية من البقايا المقدسة أو طقس شاماني. وعندما يصيح لاركن وهو أكثر الشعراء اتزانا قائلا: “هذه هي الورقة التي كتب عليها، وهذه هي الكلمات كما كتبها، تظهر للمرة الاولى في هذا الاقتران الإعجازي الخاص”، فانه يكشف النتائج بعيدة المدى لهذا الاتجاه الجديد، أي الإحساس بقداسة الشيء المكتوب بيد الشاعر. والحجة التي تقدمها المكتبات التي تتنافس على اقتناء المخطوطات بانها تتم لأسباب فكرية، ليست مقنعة لان هذا الغرض يمكن الوفاء به بصورة أفضل باستخدام الميكروفيلم أو الصور الضوئية، وبجزء زهيد جدا من قيمة اقتناء المخطوطة. ولكن الأسباب التي تقدمها المؤسسات لجمع التحف الأدبية هي مجرد تبريرات للشعور بالرهبة المقدسة، فالمؤسسة التعليمية تبحث عن مخطوطات لأن هذه المخطوطات لها قدسية وصلة موثوق بها بكتاب الماضي الكبار.
توقيع المؤلف
ويمكن رؤية الطبيعة السحرية ليد الشاعر في الكتب الموقعة منه، وهي حالة خاصة يلتقي فيها الخط اليدوي والطباعة الميكانيكية. فالفرق بين نسخة موقعة ونسخة غير موقعة من نفس الكتاب لا تعدو أن تكون خط من الحبر في صفحة واحدة ولكن النسخة الموقعة تباع بأضعاف ثمن نظيرتها غير الموقعة لأنها تحمل العلامة والدليل على انها ذات يوم استقرت بين يدى المؤلف وبهذا تتحول من مجرد كتاب الى تحفة صغيرة. وقبل القرن التاسع عشر كان أصحاب الكتب يوقعونها لسببين: لكى يمنعوا سرقتها أو يقوموا بإهدائها، فنسخة كتاب Poems لميلتون والتي كانت في حوزة ألكسندر بوب Pope تحمل توقيع بوب ولكنه كان سيبدو غريبا بالنسبة لبوب ان يطلب منه أحد قراءه ان يوقع له نسخة من كتابه “استلاب خصلة شعر” The Rape of a Lock. وفي منتصف القرن التالي اصبح امرا شائعا بالنسبة للغرباء ان يطلبوا من الكتاب ان يوقعوا كتبهم حتى اصبح ذلك ينغص الشعراء والكتاب الكبار. وأصبح توقيع الكتاب هو وسيلة لإضفاء السمات الفردية على الكتب ذات الانتاج الكمي عن طريق ربطها بشخص الشاعر. ووصل توقيع الاسماء الادبية ذروته في نهاية القرن الماضي عندما اكتشف رديارد كبلنج Kipling ان الباعة وأصحاب المحلات كانوا يفضلون الاحتفاظ بشيك صغير يحمل توقيعه على ان يصرفوه.
متى يتحول الكتاب إلى مخطوطة
والكتاب الذى يحمل توقيع المؤلف يحتل مسافة وسيطة بين الطبيعة المجهولة للكتاب المصنع الخارج من المطبعة والجوهر الشخصي الفريد للمخطوطة. وإذا احتوى الكتاب على اضافات كافية بيد المؤلف، فانه يكتسب الهالة الفريدة لمسودة العمل. ففي نسخة من كتاب كولريدج Lyrical Ballads “أناشيد غنائية” (1798) قام كولريدج بتنقيح العديد من القصائد في النص المطبوع لقصائده و”أنشودة البحار العجوز” مغطاة بالكثير من الإضافات والحذوفات والتعديلات، وبهذا أصبح الكتاب مسودة عمل. وفي نسخة كتابة The Princess “الأميرة” (1847) اضاف تنيسون عدة قصائد قصيرة الى قصيدته التعليمية الطويلة وهذه الاضافات تعد الآن من أكثر قصائده شهرة. واحيانا يصبح كتاب ينتمى لمؤلف هو مخطوطة مؤلف آخر، فقد غطى كوفنترى باتمور Patmore هوامش نسخته من كتاب “الأميرة” بتعليقات على قصيدة تنيسون احتوت على النقد والتقريظ معا. وتعطي قراءة هذه الهوامش للقارئ صورة واضحة عن كيفية قراءة كبار الشعراء الفيكتوريين لأعمال بعضهم البعض. كذلك قام فلاديمير نابكوف الذي لم يكن راضيا عن ترجمة وينفريد روي لكتابه “اليأس” Despair بإعادة كتابته بين اسطر ترجمته المطبوعة جملة جملة.
ويفترض القراء المعاصرون ان الفاصل بين الكتاب والمخطوطة هو فاصل واضح ومطلق فالمخطوطة هي شيء خاص بينما الكتاب يخدم وظيفة عامة. أما في العصور السابقة فلم يكن هناك مثل ذلك التمييز الواضح، فقبل اختراع الطباعة كانت المخطوطات اليدوية هي الوسيلة الوحيدة لنقل الأدب – سواء كان عاما او خاصا. ولكن حتى بعد دخول الطباعة التجارية ظلت ثقافة المخطوطات قوة في الحياة الادبية، ولاسيما بين الطبقات العليا. فالشاعر جون دون Donne لم ينشر إلا كتابين وبنفس العنوان في عامي 1611 و 1612 على التوالي، ولو لم يكن ذلك لإرضاء صديقه وراعيه ما نشر هذين الكتابين الذين جعلاه يشعر بالحرج الى حد بعيد. ولم يكن دون يحتفظ حتى بنسخ مكتوبة لكل قصائده، وعندما تعرض للضغط من راعيه في عام 1614 ليجمع شعره المخطوط، كان عليه ان يكتب الى اصدقائه يطلب منهم نسخا شاكيا من ان الأمر يكلفه: “مثابرة في البحث عنهم تفوق المثابرة في كتابتهم”. ونظرة دون الى النشر لم تكن غير عادية في عصره فالكثير من شعراء النهضة مثل أندرو مارفيل Marvel وتوماس كاريو Carew وجون سكلنج Suckling وسير هنرى ووتون Wotton ووليم هربرت Herbert كانوا يسمحون بتداول شعرهم بخط اليد بين حلقة معينة من القراء. أما السعي النشط الى النشر فقد بدا كشيء يهبط بالمكانة الاجتماعية للشخص وكان متروكا لصغار الشعراء او محدثي النعمة المتطلعين من أمثال بن جونسون Johnson. أما الطبقة الراقية فلم تسمح لشعرها بالظهور في الطباعة رغم انها كانت تسمح لدائرتها من القراء بإعادة نسخ القصائد المحببة إليهم. والى عصر جون ميلتون لم يكن من المعتاد ان تذهب قصيدة مباشرة من مكتب الشاعر إلى الطباعة.
حميمية المخطوطة
والتمييز بين القارئ الخاص والعام ليس دقيقا حتى في الكتب المطبوعة، فالمطابع الانيقة عادة ما تطبع الكتب في طبعات محدودة – نادرا ما تتجاوز مائتي نسخة او تقل عن 30 نسخة. ومثلها مثل المخطوطات الارستقراطية في العصر الإليزابيثي، فان هذه الطبعات الفاخرة تخدم دائرة معينة من القراء وتحتل موقعا متوسطا بين جمهور القراء الخاص والعام. فمثلا روبرت فروست لم يطبع من ديوانه Twilight (1894) “الشفق” إلا نسختين واحدة له والأخرى “لإليانور وايت” التي تزوجها بعد ذلك. وفي إحدى حالات اليأس الرومانسي، مزق الشاعر نسخته ولكن أليانور كانت أكثر حصافة والنسخة الوحيدة من هذا الديوان محفوظة الآن في مجموعة فروست بجامعة فرجينيا. والمخطوطات أيضا تمثل جواز مرور للخيال اذ انها تسمح للمطالع لها بالسفر من العالم العام وغير الشخصي للطباعة الميكانيكية الى العالم الخاص والإنساني للمؤلف؛ من الادب كمؤسسة الى الادب كصداقة، فالكتاب شيء عام تنتجه كميا مجموعة من الأيدي وهو مصمم للعديد من القراء وعلى العكس من ذلك تبدو حتى المسودة المكتوبة على الآلة الكاتبة حميمة وفردية. ان المخطوطة تدعو المطالع لها من بين حشد القراء ليكون فردا. ومن المغري ان تصور المخطوطات على انها اغراض للتأمل الجمالي، والنسخ المبيضة الرائعة لأشخاص مثل بو Poe ولونجفيلو Longfellow و كيتس تستحق مثال ذلك الاهتمام. ومسودات العمل توفر متعة مماثلة أو ربما تفوق تلك التي توفرها النسخ المبيضة ففي تصحيحاتها وتعديلاتها والحذف منها يكتشف المرء جوانب من انسانية الكاتب. وكان كيبلنج وكمنجز يرسمان صورا في مسوداتهما وخطاباتهما. وإذا كانت روعة العمل المنتهى تثير تخيلنا الجمالي، فإن أوجه النقص في مسودات العمل تسمح لنا بالمشاركة.
التكنولوجيا والشعر
وتوحى دراسة المخطوطات الادبية بتعقيد العلاقة وفي نفس الوقت حيويتها بين التكنولوجيا والشعر، ففي الدراسات الادبية ينظر الى الشعر في الغالب على انه لغة بحتة يولدها خيال الشاعر في علاقته بالتراث. وقد يدرس الباحثون اقتصاديات وتكنولوجيا النشر لكى يفهموا الهوية الاجتماعية للشاعر، ولكن أكثر العلاقات حميمية بين التكنولوجيا والكتابة الشعرية تظل إلى حد كبير غير مكتشفة، باستثناء بعض ما قام به بعض المنظرين من أمثال مارشال ماكلوهان McLuhan وولتر أونج Ong واريك هافلوك Havelock فهل هناك من يعرف على سبيل المثال أول شاعر كتب شعره مباشرة على الآلة الكاتبة؟.
والمخطوطة الادبية تسمح للمطالع لها بسبر أغوار غموض العبقرية الأدبية، وإذا كانت مخطوطة جيدة فإنها تدعو المرء الى رؤية الشاعر في لحظة أدائه على اقصى حدود الامكانيات الانسانية. اما النص المطبوع فانه يسمح للمرء ان ينظر إلى هذا الأداء كما يشاهد المتفرج مباراة في كرة القدم من مقعد في الاستاد، ولكن المخطوطة تضع المرء الى جانب المؤلف. وهنا، كما هو الحال في الفنون، عنصر قوي من حب التلصص. والرغبة في رؤية المؤلف وجها لوجه ليست مقصورة على محبيه والمعجبين به بل انها رغبة انسانية متجذرة وفطرية. الانفصال الجسدي للشاعر عن مستمعيه ليس إلا ظاهرة حديثة نسبيا. وعلى مدى الجزء الأكبر من التاريخ الإنساني، كان المستمعون يسمعون مباشرة الى صوت الشاعر، فقد كانت العلاقة الجسدية المباشرة لا مناص منها في مجتمعات ما قبل القراءة والكتابة. وحتى بعد تقديم الأبجدية الصوتية التي سمحت للكتابة بالاحتفاظ بنصوص القصائد، ظلت الصلة مع الثقافة الشفهية قائمة. وفي العصور الرومانية كان الشاعر “ينشر” شعره بأن يقرأه بصوت عال لجمهور يدعوه بنفسه. بعد ذلك كان الشعراء الجوالون او التروبادور يغنون قصائدهم أو ينشدونها. كانت الكتب التي تصنع يدويا نادرة كما كانت غالية الثمن. والصلة بين الشعر والتمثيل الشفهي هي تراث لم ينقطع من أزمان بعيدة. ولم يفصل الشاعر الحى عن جمهوره إلا بعد ظهور الكتاب المطبوع. وعصر الطباعة لا يعدو ان يكون جزءا زهيدا من مجمل التاريخ الانساني، أي ثلاثة أو اربعة قرون من حوالى مليون عام تقريبا.
وشعبية ندوات قراءة الشعر تذكرنا بالجذور السمعية والقبلية للشعر، فهذه الندوات تصل الجمهور بالشاعر في علاقة جسدية مباشرة، وتشكل مؤقتا قبيلة من المستمعين المتماثلين ذهنيا ازاء القراء الذين يكون كل منهم فردا منعزلا عن الآخر.
والمخطوطات المكتوبة باليد ترضى نفس الرغبة لدى القراء. وتقدم يد الكاتب صلة إنسانية مباشرة، ودعوة مفعمة بالإيحاء لخيال القارئ. وقد تكون دراسة الخطوط علما زائفا ولكنها تستند الى نفاذ بصيرة خالص وهى ان هناك علاقة جوهرية بين خط اليد والشخصية. وتظهر جوانب متباينة من شخصية الكاتب في خطوط مختلفة، كما يتغير خط نفس الشخص بصورة ملحوظة وفقا للحالة المزاجية. ويصف إدموند موريس قدرة الخط اليدوي على توصيل الحالة الداخلية المؤلف بقوله:
“ان القوة الأساسية للمخطوطة هي نقل الفيض المتصل للفكر الإنساني، من المخ إلى اليد على القلم إلى الحبر الى العين – كل خفقة، وكل جرة قلم، كل حرف يرتجف بالتعبير. أما الحرف المطبوع فليس له ذلك الدفء المناظر”.
وعند فحص مخطوطة الشعراء المشهورين كثيرا ما يدهش المرء لبعض جوانب الشخصية التي تتجلى بوضوح في خطوط أيديهم. فخط “بو” Poe الجميل يكشف نفس الحساسية التي عبرت عنها جماليته الحالمة. أما مخطوطة إميلي ديكنسون فأنها تضخم الحروف حتى ان قصيدة قصيرة تزحف لتملأ صفحة بأكملها – وكلمة واحدة او اثنتان تمتدان من الهامش الى الهامش الآخر. هل يبقى ثمة شك في ان الشاعرة تصر على الاهمية الزائدة لكلماتها؟، وكأن خط يدها يصيح بالقارئ “لا تخطئ قصيدتي القصيرة على أنها قصيدة صغيرة”. وهل يدهش المرء اذا كان خط يد “لونجفلو” أكثر أناقة من خط يد “ويتمان”؟. أو ان كيتس كان يكتب بعناية أكثر من بايرون الذي كانت يده تندفع بشدة عبر الصفحة؟.
ان قيمة المخطوطات الادبية في الثقافة الغربية تعكس دافعا انسانيا مثيرا للإعجاب ويتعذر التخلص منه، ألا وهو الرغبة في علاقة مباشرة وموثوق بها بين الفن وجمهوره. وقد يكون الأدب مؤسسة، مكتبة خيالية شاسعة ومعقدة بدرجة تجعل من الصعب على قارئ واحد سبر اغوارها كلها، ولكن خبرة دراسة المخطوطات العظيمة تذكر المطالع لها بأن كل عمل مفرد هو أيضا محادثة، تعامل خيالي عاطفي بين شخص وآخر، جسر عبر الزمان والمكان. وليس ثمة قراءة تفوق حميمية القراءة من المخطوطة، فيد الشاعر تمتد لتحيي القارئ.