المتوالية السردية في “وظائف أخرى في الآخرة” للدكتور طارق الزيات

ahmed farahat
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دكتور أحمد فرحات

الغرض من سرد الرواية أنها ليست مجرد قصص للتسلية والترفية؛ بل وثيقة خيال إنساني، تجسد الصراع الحتمي بين الإنسان والضمير، حيث يمثل الضمير في الرواية الصورة المثلى للسلوك الإنساني وما ينبغي عليه أن يكون، وتمثل الشخصيات الأخرى السلوك الإنساني كما هو واقع في الحقيقة. ومن هنا تنشأ تصادمات بين الصورتين وأحيانا يشذ السلوك الإنساني عما هو مقدر له، كشخصية مرمر والرجل السبعيني أو شخصية مرزوق وشخصية سعفان. ويتماهى الصراع في الرواية بين الخير المطلق مجسدا في الضمير والشر ممثلا في الشخصيات التي تفعل الشر وتودي بنفسها إلى الهلاك. ويتجلى الخيال في العمل بتلقائية واحترافية عالية، فصنع الروائي من خياله عالما موازيا لعالم الحقيقة بمهارة عالية بغية فهم العالم بشكل دقيق وصادق.

الرواية من حيث اللغة جاءت بلغة فصحى سليمة من الركاكة والعامية سواء في الوصف أو الحوار. واعتمد فيها الروائي على السهولة التي لا تهبط بها والفصاحة التي تتردد عبر الوصف فيقول:

كانت ساعات الصباح الأولى قد كسرت عتمة الليل، بينما الأفق مكتس بلون الشفق الصباحي المهيب. ص57.

لجأ الروائي إلى المنولوج الداخلي كصوت يشبه صوت الضمير فيقول على لسان مرمر:

يارب تب علي .. يارب أنا لم أخلق لهذا ، أنا أكره نفسي.. مشمئزة ياربي مما أفعله، أنت أدرى بحالي يارب. آه.. آه يارب إني خاطئة، كم كنت أتمنى أن أعيش عيشة عادية! ماذا لو تركني طليقي أعيش وأربي ابني المريض .. ص 67.

اللغة رشيقة، مكثفة، مليئة بالإشارات الدينية الحلال والحرام.  وفي لغة الرواية يكمن التشويق كعنصر مهم في جذب انتباه القارئ، ويرفع من قيمة العمل الفنية، والتشويق متغلغل في كل القصص التي تناولها الراوي/الضمير لأن الروائي لا يتناول الشخصية إلا من خلال موقف هو الأشد والأخطر في حياتها. ثم يلقي عليه الضوء من خلال تصرفاته وسلوكه؛ من خلال نرابط غير خطي فالقصص أو الحكايات لا تتبع سردا زمنيا أو مكانيا صارما.   

   على الرغم من شخصية متكررة (وجدي) فإن صوت وجدي كراو قد شاركته أصوات أخرى تعددوا في بنية العمل الروائي مما جعل الراوي متعددا على لسان الشخصيات المتناولة. فكل قصة أو حكاية تحمل صوت راوي معين، بجانب صوت وجدي. والشخصيات هي عصب النص الروائي والعمود الفقري للرواية ولكل منها صوت، وقصة، ومصير، وغالبا يكون المصير نتيجة سير الأحداث وفقا لسلوك الضمير الأخلاقي والديني.   

وظف الروائي تقنية الإطار توظيفا جيدا، وذلك بجعل الفصل الأول لحياة وجدي في البيت والعمل هو إطار كبير انبثقت منه عدة أطر لحكايات مختلفة لشخوص مختلفة. فكان كثيرا ما يرتبط وجدي بحياته الدنيا وارتباطه بتفاصيلها. مما سبب له توبيخا ولوما من رئيس إدارة الوظائف الروحية من جهة ، ومن جهة أخرى بدا العالم الخارجي بعيدا كل البعد لكن الصراع الداخلي هو الأساس.

استطاع الروائي د. طارق الزيات أن ينشئ عالما موازيا للآخرة قائم على عدة أقسام مختلفة كل منها له وظيفته المنوط بها عمله، وهذه الأقسام تحت رقابة رئيس قسم الوظائف الروحية في الآخرة بمسماه. وهذه الأقسام هي: 

  • قسم الضمير
  • قسم الفكر الإبداعية
  • قسم الذكريات
  • قسم الرحمة
  • قسم السلام النفسي
  • قسم استرجاع الذكريات

وكل قسم له وظائف تختلف عن القسم الآخر.

  لا توجد حبكة تقليدية واحدة، بل تتكوّن الرواية من حوالي ست قصص أو حكايات تمثل عصب الرواية وهي:

  • قصة الطفل شنودة
  • قصة شريف أمين تاجر الدجاج الفاسد وحكاية مرمر العاهرة الفاضلة
  • الداعية محب حامد وبيري
  • مرزوق المرتشي هو وسعفان .. ربنا سترهما
  • قصة نزيه عبد الجواد حزب النهضة القومي

وكل مقطع سردي يمثل سيرة شخصية. مستقلة برأسها لا يجمعها إلا الضمير المشترك وجدي.

“وظائف أخرى في الآخرة ليست رواية أحداث بقدر ما هي أغنية طويلة عن أنماط الناس المختلفة، عن المصائر الصغيرة التي تشكّل تاريخًا أكبر. رواية تنتمي إلى أدب الوعي، وأدب التجريب.

مفهوم المتوالية السردية هي أحد المفاهيم الحديثة في تحليل النصوص السردية، ويشير إلى مجموعة من الحكايات أو المقاطع السردية التي ترتبط ببعضها من خلال خيط موضوعي أو فني مشترك، لكنها تحتفظ بقدر من الاستقلالية في البنية أو الشخصيات أو الزمان.

تعريف المتوالية السردية

المتوالية السردية هي: “شكل سردي يتكوّن من عدد من القصص أو الفصول أو المشاهد التي يمكن أن تُقرأ كلاً على حدة، لكنها تتكامل في ما بينها لتشكّل بنية روائية أو سردية موحدة.[1]

أهم خصائص المتوالية السردية

كل الأجزاء تدور حول فكرة أو ثيمة واحدة (مثل: الحلال والحرام،الغربة، الحرب، الحب، الانكسار..(

قد تتغير الشخصيات وأنماطها  أو الزمان أو أسلوب السرد من مقطع لآخر.

يمكن أن تُقرأ بعض الحكايات كوحدات مستقلة: مثل شخصية تتكرر، مكان واحد، صوت سردي موحَّد، أو جملة افتتاحية ثابتة.[2]

نماذج من المتواليات السردية

كتاب “ألف ليلة وليلة”

من أشهر المتواليات السردية في الأدب العربي. تتوالى فيه الحكايات التي ترويها شهرزاد، كل واحدة مستقلة، لكن يجمعها سياق الحكي العام وخوفها من الموت.

رواية “حديث الصباح والمساء” لنجيب محفوظ

مقاطع سردية قصيرة لكل شخصية، تروي حكايتها الخاصة. الشخصيات تتقاطع، لكن لا توجد قصة واحدة تقليدية.

 رواية “الحب في المنفى” لبهاء طاهر

تقدم سردًا متقطعًا بين مشاهد الحاضر واستدعاءات الماضي. ليس هناك خط سردي واحد، بل مشاهد متتابعة تشكل صورة كلية عن الغربة والمنفى والحب.

       رواية “دُمية النار” لبثينة العيسى

تحتوي على سرد مقطّع لمشاهد حياتية متنوعة، تُكوّن معًا ثيمة عن القهر النسوي والمقاومة.

متى تُستخدم المتوالية السردية؟

  • في النصوص التي تسعى إلى:
    • تفكيك الزمن.
    • استكشاف وجهات نظر متعددة.
    • عرض تجارب إنسانية متنوعة ضمن قضية واحدة.
    • كسر القوالب التقليدية للرواية الكلاسيكية.

تمنح المتوالية السردية الكاتب حرية أكبر في عرض التجربة الإنسانية، وتسمح بتعدد الأصوات والمواقف داخل إطار واحد. هي تقنية أدبية قوية تُستخدم في الرواية، القصة القصيرة، أو حتى السيرة الذاتية.

الفرق بين المتوالية والمتتالية السردية:

هناك فرق دقيق لكنه مهم بين مصطلحي المتوالية والمتتالية في السياق السردي أو الأدبي، رغم تشابه الجذر اللغوي. إليك التمييز بينهما:

أولاً: الفرق اللغوي العام

لغويا المتوالية هي شيء يتتابع ولكن يرتبط بعلاقة عضوية (ترابط فكري أو فني واضح).

أما المتتالية فهي تتابع كمي أو رقمي أو زمني دون شرط وجود ترابط بنيوي أو دلالي عميق.

بمعنى آخر:

المتوالية  = تتابع فيه وحدة أو انسجام.

المتتالية  = تتابع رقمي أو ميكانيكي، مثل متتالية رياضية.

في الأدب والسرد:

المتوالية السردية هي مجموعة نصوص/مشاهد/قصص ترتبط بوحدة موضوعية أو فنية رغم استقلالها الجزئي، وتشكل في النهاية بنية سردية موحدة.

أما المتتالية السردية فقد تُستخدم لوصف سلسلة سردية تعتمد التتابع الزمني أو التسلسلي دون الترابط العميق، وأقل شيوعًا كمصطلح فني.

لهذا السبب، “المتوالية” هو المصطلح الأدق والمستخدم في الدراسات النقدية، أما “المتتالية” فغالبًا ما تُستخدم خارج الأدب، خصوصًا في الرياضيات أو الفيزياء.

أمثلة توضيحية:

نقول: متوالية قصصية : فيها قصص ترتبط بمكان واحد مثلًا (مدينة، أو حي شعبي…)، أو بثيمة واحدة (الحرية، أو الحرب…(

أما “متتالية” أدبية فقلّما تُستخدم إلا بشكل مجازي أو غير دقيق، وقد تعني ببساطة تسلسلًا زمنيًا.

إذن؛ المتوالية السردية: مصطلح نقدي معترف به يُشير إلى ترابط فني/دلالي بين وحدات سردية مستقلة نسبيًا.أما المتتالية: فهي أقل دقة أدبيًا، وغالبًا لا تُستخدم في السياقات النقدية إلا بوصف عام للتتابع.

……………………….

[1] انظر: محمد معتصم، مناهج تحليل النص السردي (فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2021) ص113.

[2] انظر: حميد لحمداني، بنية النص السردي من منظور أدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991م)، ص25 وما بعدها.

مقالات من نفس القسم