المباراة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

   فتحت عينى بصعوبة بعد سهرتنا الطويلة الصاخبة بليلة الأمس, كنت أقف مشرئبا بمنتصف ملعب كرة قدم, على نقطة البداية, بمنتصف الدائرة المخطوطة بالأبيض ووجهى شطر المرمى مباشرة, أرتدى بدلتى الكاملة ورابطة عنقى الأنيقة القابضة على تفاحة آدم دافعة إياها لأعلى, كان الجاكت لامعا مناسبا لسهرة حافلة, والقميص مجسما لجسدى وحذائى الجلدى أملس لا تمسه الأتربة, اقترب منى الحكم وقطب جبينه وهو يشير إلى بسبابته أن أبدأ, ثم أشار لساعة يده موضحا أننا تأخرنا عن الموعد المحدد, أطلق نفيرا متكررا من صافرته المستقرة بين شفتيه, شعرت أننى يجب أن أجاريه وامتثل لطلبه, فقررت أن أبدأ, لم أجد كرة بين قدمىّ, اقتربت حثيثا من الحكم وقلت له " أين الكرة؟ أنا لا أجدها", انفعل الحكم ووقع نظرى على ركبتيه العاريتين فكتمت ضحكة داخلى بينما قذف الحكم بصافرته من فمه حتى طارت خلفى وصاح معنفا "ابحث عنها يا أخى." جريت على الأرض المعشوشبة ويبدو أن أحدهم قد رطب أرضية الملعب ببعض قطرات الماء فشعرت بأقدامى تنغرس قليلا بين الأعشاب, ظل الحكم يترقبنى ويركض بجوارى ولكنه أبقى على المسافة التى تفصل بيننا, تعثرت فى رجل افترش الأرض بجوار زوجته وأمامهما صينية بدت ساخنة من فرط الدخان المتصاعد من بين ضلوعها محملا برائحة ورق العنب, تجنبت الرجل والتفت إليه معتذرا فصدمت ولده وهو يلعب مع أخيه ويحفران بأرض الملعب... فككت رابطة عنقى وما لبثت أن طارت أثناء جريي بحثا عن الكرة الضائعة. استوقفنى صوت يصيح باسمى, فألتفت إلى يمينى, كان المدرب ينادى علىّ من خارج الملعب, قال بلهجة حماسية " تقدم.. تقدم", ولكننى توقفت لأتأمله, كان حليق الرأس تماما, ظننت لوهلة أنه من أولاد حسن, غيرت وجهتى وتقدمت نحو خط التماس مقتربا منه بابتسامة طفولية شاردة وغاصت يدى بجيب البنطلون بحثا عن الكاميرا لألتقط لى صورة مع نجم طفولتى, عبس الكابتن وعلا صوته المبحوح بالصراخ والشتائم, أشار إلى بوسطاه وقال مجددا" تقدم إلى الأمام .. تقدم". عدت لأتقدم باتجاه المرمى مرة أخرى, عبرت بين مجموعة من الفتيات الحلوات اللاتى اعترضن طريقى, اصطدمت بأجسادهن عمدا ودون قصد, عطلونى قليلا قبل أن أمد يدى وأضم إحداهن واخذها بطريقى, لم أتبين ملامحها جيدا إلا بعد أن جرينا بعض الأمتار. نظرت خلفى إلى الفتيات, لمحت سمراء نافرة النهدين, كدت أفلت يدى من بين يد فتاتى عائدا إلي السمراء, لكنها لوت ذراعى حتى كاد ينكسر بين قبضتها, دفعتنى إلى الأمام غصبا فأطعتها.

  أثناء جريي وعند اقترابنا من حدود منطقة الجزاء, لحقت برجل عجوز, نظر إلى عندما سمع صوت لهاثى وسألنى بصوت متقطع مرهق “هل وجدتها؟”, سكت لدقيقة ثم قلت “ما هى ؟”, فأجابنى “الكرة يا ابنى, الكرة” !

  كنت قد نسيت أمر الكرة برمته, نسيت أننى أبحث عنها, وكان اهتمامى بالركض فقط. على دائرة منطقة الجزاء جلس شاب طويل الشعر يشرب الخمر ويضحك وهو يردد بصوت متقلب من جملة لأخرى ” لا توجد كرة, لقد أوهموكم.. الملعب يخلو من الكرات.” لمحت شابا يضاجع فتاة شقراء على خط المرمى, صوت تأوهاتها وصلنى عبر منطقة الجزاء, كانت تمارس عهرها دون أى خجل من النظرات المتابعة, تسمرت للحظات أتابعها حتى خطفت نظرى نيران مشتعلة بجوار راية الكورنر اليمنى, كان رجلا قد أشعلها ورفع راية بجوارها وأعلن استقلاله عن باقى الملعب, قال أنها أرض أجداده, علق أحد المارة قائلا ” لا بد أن جده كان روبرتو كارلوس.” لقد تاهت فتاتى ولم ألحظ تيهها إلا متأخرا, لم أعبأ, النساء هنا كثيرات والرحلة مرهقة وطويلة. أوقفت شابا يدخن سيجارة مستوردة, وسألته عن الكرة فسألنى بعين نصف مفتوحة “أى فريق تتبع ؟؟”. أوووف, كيف فاتنى أن أسأل هذا السؤال, كادت المباراة تنتهى دون أن أعرف أين الفريق الذى ألعب له, هل كان يجب على أن أجرى بالاتجاه المعاكس!! ولكن الكابتن أشار إلى أن أتقدم وهو خبير بتلك الأمور. كان علىّ أن أسأل الحكم, غير أنه أختفى وسط الجموع.

 

  منعنى ضابط من دخول منطقة الست ياردات, قال لى أن دخولها يتطلب تصريحا من المسئولين عن إدارة الملعب, سألنى عن رقم فانلتى, تحسست بدلتى واعتذرت له أنى لا أملك رقما, فكاد يقبض على قبل أن أعطيه خمسة جنيهات ثم أضفت خمسة أخرى. عندما اقتربت من خط الست ياردات, أدركت أن من يضاجع الفتاة الشقراء هو حارس المرمى, لم يكن يرتدى إلا قفازه المميز, لقد ترك المرمى خاويا وانغمس فى حضنها الساخن.

 

  الجو حار جدا بمنطقة الجزاء, قال لى أحدهم أن منطقة الجزاء تمر بالقرب من خط الاستواء. وقف رجل بذقن مهندمة على حدود المنطقة مخاطبا جماهير تحيطه, دفع رشوة إلى مساعد الحكم على خط التماس فأعطاه دكة البدلاء, صنع منها منصة ووقف فوقها وبدأ يصيح بهم ثم رفعه بعضهم على الأعناق وهتفوا باسمه وهتفوا للقدس حتى هاجمتهم قوات الأمن المركزى مرتدين فانلات فريق برشلونة بالخطوط الحمراء والزرقاء, مغطين رؤوسهم بالخوذ وحاملين عتادهم, وألقوا على المتظاهرين قنابل مسيلة للدموع. مازلت لا أجد الحكم. انضممت إلى جمع يصلى صلاة المغرب, خلعت بدلتى وحذائى واستقمت بين الصفوف, صلينا ثم ذهبت لأصافح الإمام, بدا شبيها جدا بباراك أوباما, ابتسم ابتسامته الشهيرة ورد تحيتى بالإنجليزية. ذهلت وتحركت بالجوار دون أن أرتدى ما خلعته من ملابسى.

   بالكورنر الأيسر تجمع بعض الشباب بجوار راية الزاوية بينما تغطيهم سحب من الأدخنة, سحبت كرسيا وأشرت إلى النادل طالبا كوبا من الشاى, نسيت سبب وجودى هنا مرة أخرى, بحثت فى أركان ذاكرتى دون جدوى, طرطقت أذنى آملا فى التقاط أية معلومة عن الهدف من تلك المباراة, سمعت رجلا يتحدث عن فرح سيقام الليلة عند نقطة الجزاء, تحدث الرجل عن زجاجات البيرة وراقصات من كل صنف ولون وأغان مبهجة. تركت عملتين معدنيتين للنادل على الكرسى الخشبى ورحلت متجها نحو نقطة الجزاء, بدا الطريق مزدحما, كانت الأنوار والزينة تمتد حتى حدود منطقة الجزاء, وقفت على حدود الفرح حيث علا صوت الأغانى الشعبية, أعطانى شاب أسمر زجاجة من البيرة الساقعة, لم أشرب أى كحوليات من قبل, رشفت من الزجاجة لأول مرة, تجولت بالظلام, كان الضباط المحاصرون للست ياردات مندمجين مع أنغام الفرح, تسللت بينهم دون أن يلحظونى, عبرت فوق جسد حارس المرمى العارى الذى كان يضاجع فتاة أخرى, لامست خط المرمى الأبيض بأطراف أصابع قدمى متخوفا, تركت زجاجة البيرة على الأرض وخطوت فوق الخط بقدمى كاملة, عبرته وحاصرتنى الشباك والقائمان والعارضة, وجدت بأرضية المرمى مجموعة من الحفر الطولية, غلبنى الفضول لاكتشافها, هبطت بإحداها, كان طولها مساويا لطولى بالضبط, حيث تساوت قمة رأسى مع أعشاب الملعب. قام حارس المرمى من فوق صديقته, لف وسطه بفوطة صغيرة, بدا منزعجا, أحضر بعض الطين من كومة بجوار المرمى ورماها فوق رأسى وعندما نفضت الطين عن رأسى منفعلا, أجاب سؤالا لم أسأله وقال أنه سيغلق علىّ الحفرة حتى الصباح ثم سيزيل عنى الطين ويطلق سراحى, كان صوت الفرح قد أصابنى بالصداع, كما أن الخمر قد أصابتنى بالدوار فشعرت أننى بحاجة لراحة فعلا, أرخيت مفاصل جسدى وساعدته فى مساواة الطين فوق رأسى منتظرا أن يأتى الصباح, تذكرت أننى كنت أبحث عن الكرة ولكننى لم أقو على النداء على الحارس, تثاءبت وانغمست فى نوم طويل.

………………………..

*من مجموعة (أحلام الدوبلير) الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة آخبار الأدب

 

مقالات من نفس القسم