المال الثقافي وصرعة الجوائز الأدبية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في شهر مايو سنويا ينتهي موسم توزيع الجوائز الأدبية في العالم العربي. الأدق أن نقول موسم جوائز الخليج؛ فبعضها بحكم آلة دعائية نفطية، وتنظيم متقن مرتبط بمؤسسات عالمية راسخة، دفع إلى الظل جوائز أكثر قدما، وربما قيمة بالنظر إلى الفائزين بها. من يذكر الآن جائزة أبي القاسم الشابي في تونس؟ وجائزة الأركانة العالمية للشعر في المغرب؟ وقد فاز بالأخيرة شعراء أجانب وعرب بارزون.

في اختبار القدرة على الزهد في جوائز الدكتاتور العربي لم ينجح إلا الإسباني خوان جويتيسولو. رفض «جائزة القذافي العالمية للآداب»، في دورتها الأولى والأخيرة، وأعلن أنه لا يستطيع قبولها، وقال في رسالة لعضو لجنة التحكيم المصري عراب جوائز الخليج وشعراء الملايين: «أرجوك بشدة أن تتفهم الأسباب التي تدفعني لعدم قبول هذه الجائزة… انتقدت بلا توقف الدكتاتورية والعائلات الملكية الجمهورية التي تحكم بينما تجعل شعوبها في فقر وجهل». وبعد افتخار مصري بالفوز بها، قال جويتيسولو: «لا يمكن أن أحمل جائزة تحمل اسم دكتاتور، وأنا أكتب عن الحريات والديمقراطية في كل مكان».

المصري الذي تسلم جائزة القذافي في أبريل 2010، كتب بعد عودته من ليبيا أن رحلة الجائزة ردت إليه «ما ضاع من صورة وطني». كان يحلو له التباهي برفض زيارة العراق تحت حكم دكتاتور، ولم يتردد في قبول جائزة دكتاتور ينقصه العقل. سوف يتضح أنه أرسل مع مثقفين عرب مرموقين برقية إلى صدام حسين، أثناء مشاركتهم في مهرجان المربد عام 1985، جاء فيها: «لقد رأينا يا سيادة الرئيس كيف تقذفون بالحق على الباطل بكلمة «لا» فإذا هو زاهق. وكيف تشمرون عن سواعدكم بكلمة «نعم» لإضاءة موطن المستقبل العربي… وليس لنا نحن الأدباء والشعراء العرب المشاركين في مهرجان المربد السادس إلا أن نتوضأ بماء النصر الذي قدتم العراق إليه، فحملتم به عبئا عنا وقدمتموه لنا هدية، هي هدية التاريخ للأجيال القادمة ضوءا وأمثولة وفداء».

هو نفسه الذي حشد 247 مثقفا، في يونيو 2008، لمساندة فاروق حسني لمنصب اليونسكو. وقال في بيان: «موقف المساندة هذا نابع من أن فاروق حسني لديه مشروع ثقافي للتصالح بين الثقافات، والتوفيق بين الأضداد، والتصالح بين الإنسان والطبيعة والإنسان ونفسه». حمل بيان الدعم توقيعات كتاب من مصر والكويت والأردن وفلسطين ولبنان والمغرب والسودان والعراق وتونس، بعضهم ضيوف دائمون على أي مؤتمر للوزارة، في الشعر والمسرح التجريبي والترجمة والرواية، لا يهم.

ليس هذا تفتيشا في دفاتر قديمة، فمع تخبط الثورات العربية، وخيبة آمال الجماهير في تغيير يوهم بأن ثورة ما على وشك النجاح، لا يريد الحرس القديم أن يعتذر ويعتزل، لكنه نقل نشاطه من جوائز الدكتاتور إلى جوائز تمنحها مؤسسات حكومية وشبه مستقلة. كيف يقتنع عاقل بمساندة نظام عشائري قبلي لثورة خارج أرضه؟ أو رعاية جوائز ثقافية إلا بهدف «كسر عين» الحاصلين عليها، وخصوصا ممن ظلوا يتهمون هذه الأنظمة بالرجعية، حين كانت النظم الرجعية هي العدو الثاني بعد إسرائيل؟

في بلد يسجن شاعرا بسبب قصيدة، أو يسحب جائزة من كاتب بسبب مقال، أو يضع تحت الإقامة الجبرية مخرجا ويحظر عليه حقه في العمل، في مثل هذا البلد لا تكون الثقافة ـ مطبوعات ومراكز وندوات وجوائز ـ إلا مجرد برستيج.

في نوبة صراحة، وقد ثقلت الرؤوس، قال لي مثقف غير خليجي مستشار جائزة خليجية، تفسيرا لمنح الجائزة لرواية متواضعة: إن الجائزة تقررها الهيئة المانحة، بفلوسهم ومن حكم في ماله ما ظلم. أما لجنة التحكيم فهي قناع، ترسل الكتب إلى المحكمين/الأقنعة، ويختارون أعمالا، الأصح أنهم يرشحون أعمالا للفوز، ويرسلون التقارير، ثم يحضرون الحفل.

 المال الثقافي خلق طبقة من عرّابي الجوائز، مثقفين محترفين عابرين للأنظمة. ومن جنايات هذا المال الثقافي أن النقاش تجاوز الإبداع إلى الجوائز: شروطها غير المكتوبة، وإكراهات استشراقية مطلوب تحقيق نسبة منها لكي يرضي العمل ذائقة خواجة في لجنة التحكيم، وآخر ربما يكون في هيئة الجائزة. لا يهم أن يكون العمل ذا طابع إنساني، يصمد لاختبار الزمن، الأهم أن  تؤتي صرعة الجوائز ثمارها، ليكون السؤال: أليس إنفاق فائض المال في هذا الباب خير من تبذيره في الملاهي؟ سؤال فخ ينتظر الإجابة الأخلاقية: «بلى»، ولكن الإجابة الأكثر أخلاقية تنتصر لجوهر الإبداع: «نعم»؛ إنفاقه في الملاهي هو الخير؛ فاللهو أمر شخصي يخص اللاهي، ولا يفسد القيمة، ويهدر المعنى، ويهين شرف الإبداع، ويضع قيدا لا شعوريا على الخيال، لكي يكتب الكاتب ما يطلبه المانحون.

………………….

*افتتاحية مجلة “الهلال” يونيو 2015 

 

مقالات من نفس القسم