ـ أمطرت البارحة بغزارة، أنها تنبىء بموسم جيد..
هكذا تحدث مع نفسه, وهو يحاول أن يلف لفافة تبغ, لمح ضوء فوانيس القرية الصغيرة, مع رائحة التبغ شم رائحة الروث.. تقدم بهدوء وحذر.. لم يكن قد حدد وجهته بعد.. حين عبر بالقرب من جامع القرية حيث جلس الشيخ على دكة محاطا بالرجال.. رآه يقرأ لهم من كتاب في يديه, سمعه يقول:
ـ أشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتة, ثم تعدوا ذلك الى أكل صغار بني أدم, حتى صار بحكم المألوف لا يستحق العجب..
استغفرت حلقة الرجال بصوت عال.. تركهم ومضى.. عند آخر دار صادفه في الطرف البعيد, من القرية الطينية, تناهى الى سمعه صراخ مكتوم.. أقترب نحو الصوت المستغيث.. وقد تحفزت أعصابه المشدودة من البرد والخوف.. حاول أن يميز الصوت, إنه صوت امرأة..
كان ما يزال يتحدث مع نفسه, اقترب من الكوخ المنعزل.. تلمس الجدار الطيني, دفع الباب الخشبي بهدوء وحذر, تطلع من زاوية الباب الموارب, ثمة ضوء خافت, ينبعث من فانوس معلق على الحائط المقابل له, تمددت امرأة نحيلة على حصيرة من سعف النخيل, تتلوى بألم واضح ملتفعة بعباءة سوداء, مّد رأسه نحو الداخل, حين أبصرته سألته بصوت غليظ:
ـ من أنت ؟
احتار في الإجابة عن سؤالها.. في لحظة.. أجاب:
ـ كنت مارا من هنا, وسمعت صوت الصراخ..
بنبرة متوسلة, وهي تصك على أسنانها من ألألم قالت:
ـ أأأأأأأأأأأأأرجوك ساعدني..
ـ هل أنت مريضة؟
ـ ألا ترى بطني المنتفخة, أني في حالة الطلق..
بدا كمن وقع في فخ, حاول أن يضحك في سره ساخرا من نفسه, دوى صوتها, تشنجت عضلات بطنها, تكاد تقضم قطعة النسيج بين فكيها..
ـ أرجوك أوقد نارا, وضع عليه قدر الماء..
بحث عن الحطب، عثر عليه خلف الباب, أوقد النار.. عاد بقدر الماء من خارج الكوخ, الدخان ملأ الغرفة البائسة, شعر بالدفء, تابع حديثه معها بسؤال:
ـ ألا توجد في قريتكم قابلة؟
ـ لا
ـ هل هناك أحد أستدعيه لك ؟
ـ أرجوك لآ تتركني… الآن فقط عاهدني أنك أخي..
بتلقائية الريفي الغيور, قال:
ـ ربي يعلم ذلك.. لكن ألا يوجد أحد معك وأنت بهذه الحالة ؟
ـ قبل يومين ذهبنا الى المدينة, أخبرتنا الطبيبة, سألد بعد أسبوع, لكن المخاض فاجئني الآن.. أطلقت صرخة أخرى تصبب العرق من وجهها الشاحب.. فكر أن يمضي بعيدا عن هذه الورطة..
آلامها المبرحة وهي متلوية بشدة, انفرجت ساقيها بقوة, الدم يسيل تحتها.. استوقفته..
الطفل ملفوفا بخرقة بيضاء, متمددا بجوار أمه, باكيا.. احتاج الرجل أن يسألها مرة أخرى قائلا:
ـ أين زوجك يا امرأة؟
ومن تحت ركام وجعها أجابت بصوت واهن:
ـ انه لص, خرج البارحة ولم يعد لحد الآن..
تابعت وقد علت الصفرة وجهها الذاوي,
ـ يبدو أنك غريب عن قريتنا
لم يجد مناصا من أن يخبرها بالحقيقة..
ـ أنا أيضا لص.. خرجت من أهلي البارحة ولم أرجع لهم حتى الساعة
مضى خارجا, السماء صافية, وصياح الديكة يسمع من بعيد..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صالح جبار
قاص – العراق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للفنان: عمر جهان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة