اللذة.. رعشة الروح، طيران الجسد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

اللذة، حيث الروح والجسد يصلان معًا إلى واحدة من أعلى وأجمل حالاتهما، تردّ كلاً منهما إلى حالته النقية، فيشهق الجسد، يُنبت أشجارًا وحقولا، تجرى فيه مياه، حيوانات، أطياف، ترفرف طيور، تسبح أسماك، يتشكّل سحابًا وأمطارًا، مع اللذة تشعر الروح أن لها جسد، تتحسس نفسها، وتفرح بأن لها جسم ملموس يراه العالم، مع اللذة يُحلّق الجسد ويرى نفسه أثيرًا يلفّ الكون.

مثل كل الأشياء النادرة والغالية فى الكون، عمر اللذة قصير، يمكن أن تكون لحظة واحدة، طرفة عين، شهقة، ضربة برق، لكنها ستكون كافية، تحفر عميقًا فيك، ترشّ الحياة على أغصانك الصفراء، تُطلق وحوشك الكسلانة، وتتفتح معها كل ورودك النائمة، اللذة، خُلاصة أسرار وأرواح وأجساد كثيرة، مثلما تجمع النحلة رحيق آلاف الورود لتصنع قطرة عسل، فإن الكثير من أسرار العالم ومشاعره تتجمع لتصنع لحظة من اللذة، مثلما تتغذى “القزّ” على الآلاف من أوراق التوت لتصنع خيطًا من حرير، تجمع الحياة الكثير من سحرها، لتصنع لمسة من اللذة.

يمكنك ببساطة أن تقول لشخص ما: “استمتع”، ويقول لك: “سأفعل”، لأن بإمكانه أن يحصل لنفسه على المتعة، لكنك لن تقول له “تلذّذ”، لأنه لا يمكن الحصول على اللذة بسهولة، ليست متاحة، هى غير متوقعة، ربما لا تجدها عندما تخطط لها، ربما لا تجدها فى الأماكن والحالات التى تتوقع وجودها فيها، اللذة تفاجئك، تخطفك، تسحبك رويدًا، تجذبك من روحك إلى العمق، حيث ذلك الدغل المفزع، الآمن، عندما يفكر أحدنا فى لحظات اللذة التى مرت بحياته، يكتشف أنها جاءته بشكل مفاجئ، حتى لو أنه توقعها أو خطط لها، لا يمكن لأحد أن يضبط إيقاعها أو اللحظة التى تتجلّى فيها، لا يمكن إدراك حقيقتها، وكيف تعمل خلال الروح والجسد معًا فى اللحظة ذاتها.

“المتعة”، حالة مفهومة، عادية، يمكن التخطيط لها، يمكنك أن تحصل على ساعات متواصلة من المتعة، هى أيضًا شعور جماعى فى بعض الحالات، مُعْدية، وفى النهاية ننساها، آمنة، بريئة، على الأقل فى معظم حالاتها، وفى حالات أخرى تكون ساذجة، بينما اللذة مؤذية فى كثير من حالاتها، ذلك الأذى المحبوب، الذى يُشعرك بأنك على قيد الحياة، فى صلب الحياة، اللذة خطرة، يمكنها أن تدفع شخصًا ليخاطر بحياته لأجلها، شقية، شريرة، عصيّة، مغوية، هى شعور شخصى جدًا، حتى لو حصلت عليها بمشاركة شخص آخر، فلكل منكما إحساسه الشخصى بها، لحظات اللذة لا تُنسى، تترك علاماتها فى الروح، والجدران الداخلية للجسد، “المتعة” هى السمكة التى تظهر فى شِباكك مع كل رحلة صيد عادية، اللذة هى السمكة التى تفاجئك وتقفز إلى قاربك بعد أن تُبحر عدة إبحارات بعيدة وغامضة.

اللذة، لا بد أن يصاحبها ألم، ليس ذلك الألم المفهوم، العادى، وغير المرغوب، إنما لها ألم شهىّ، غامض، ومحبوب، لا تريد أن يفارقك، ولا تريد له نهاية، ألم خاص بها، ينبع من عمق الروح والجسد معًا، لا من خارجهما، يأتى من ذاكرتنا، رغباتنا العميقة، أحلامنا، لهفتنا، أوهامنا، تجاربنا التى خضناها بالفعل، وتلك التى لم نخضها بعد، ألم يعضّ لحمك بأطراف أسنانه، يدغدغ روحك، يبعثر الموسيقا تحت جلدك، يُشعرك بأسى جميل، يدفع تيارًا شفيفًا من الدموع فى عينيك، أن تبكى من اللذة، أو تضحك، تلامس الجنون، أو الحكمة، تجتاحك تلك القشعريرة الخفيفة الرهيبة، تغمرك موجة البرد الجميلة، كأنما ينهار فوقك جبل من جليد، أنت الماء والنار معًا.

“المتعة” لا تكون إلا فى الأوقات التى تستدعى الفرح بطبيعتها، أما اللذة فيمكنها أن تفاجئك فى لحظات الحزن، يمكنك أن تشعر بها بينما يموت بين يديك أحب الناس إليك، لو أن هذا الميت نظر إليك نظرة حب، وضغط على يدك فى لحظاته الأخيرة، عندها تشعر باللذة، وعندما تستعيد هذه اللحظة فيما بعد، تتذكر أنك شعرت بتلك اللذة الرمادية، الأسْيَانة، حتى فى ذلك الوقت الذى كنت تودع فيه أحب إنسان إلى قلبك.

 يمكنك أن تستمتع بالمشى فى شارع ما تحبه، لكن لذّتك ستكون فى نقطة محددة أو مكان محدد من هذا الشارع، يمكنك أن تستمتع باللعب مع عدد من  الأشخاص، أو فريق من اللاعبين، لكنك لن تشعر باللذة إلا مع شخص واحد منهم، لاعب واحد، فى كل قطعة موسيقا تحبها هناك جملة أو أقل تشعر معها باللذة، يرتعش لها جسمك وتطير معها روحك، داخل أية قصة، قصيدة، رواية تعشقها هناك مقطع تشعر معه باللذة، أو حتى جملة واحدة، فى كل إنسان تحبه بشكل خاص، هناك شىء تشعر معه باللذة، ربما تكون طريقة نطق هذا الشخص لحرف ما، شكل ابتسامته، لحظة تعبيره عن دهشته، انثناءة فى جسده أو علامة صغيرة، تشكيل أصابع يديه، رائحته الخالصة عندما تزيح كل الضجيج الخارجى وتكشف عن نفسها، إيقاع ضحكته، نور خافت لامع تعرفه فى عينيه، أو أقل من ذلك، حتى إن اللذة، تلك المتمردة، لن تكون موجودة فى كل مرة تُجرّب فيها الشىء نفسه، هى الحريصة أن تبقى سرًا، غير مفهومة، وغير متوقعة، الحقيقة الوحيدة المعروفة عنها أنه لا يمكن لأحد أن يعرف حقيقتها.

هذه اللعوب، يمكن أن تأتى بأهون سبب، لمسة يد، مرور طائر، سقوط قطرة ندى، نظرة، كلمة، تأتى أيضًا بلا سبب، تنبع من داخلنا مثل عين ماء تتفتح من أعمق نقطة فى الأرض، أرضك، عمقك، فتُبهج روحك، وتتلاشى من تكوينك فكرة الموت، هى بهذه القدرة، كيف يمكنها أن تفعل ذلك؟ كأن روحك تقطر مطرًا وسكر، كأن رياح العالم تندفع إليك من ثقب فى صدرك أو عمودك الفقرى، كأنك تمتزج بمفردات الكون وحالاته جميعًا، أن تشعر بالفناء وتمام الوجود فى اللحظة ذاتها، كيف يمكنها ذلك؟ تلك الشريرة، المحبوبة، والجميلة.

اللذة، ترقّى فى مدارج الروح، مدارات جديدة للجسد، ميلاد جديد لهما فى كل مرة، ورغم أنها تُغيّبنا فيها، تخطفنا من العالم، تسلبنا أرواحنا إلا قليلاً، فإننا نتذكر كل تفاصيل العالم وقت تجلّيها، الرائحة، الأشكال، الأصوات، الألوان، الأبعاد، ندرك أشياء جديدة عن روحنا المخطوفة، ونرى بعض أسرار العالم، اللذة من أعلى الحالات التى يمكن لها أن تكشف لنا عن أنفسنا، وبها نعرف ما تعشقه أرواحنا فى هذا العالم، وكيف يعشق العالمُ أرواحَنا.

مقالات من نفس القسم