أميرة مصطفى محمود
من حين إلى آخر نصادف حديثا أو رأيا لكاتبة تتناول فيه موضوعا شائكا كثر ما تتعرض له الكاتبات على وجه الخصوص والحصر، وإن كان بات مطروحا في الآونة الأخيرة بشكل لافت، مما قد يعكس بشكل ما إصرار الأطراف أو وجهات النظر الأخرى، ولن نقول المعادية، على ملاحقتهن بطرحه مهما كنّ، وكانت من قبلهن سوالفهن، خضن فيه بالدفاع والتوضيح ألا وهو: نسوية الكتابة.
يصر البعض على مجابهة الأقلام النسائية بتلك الإدانة ولو من باب التشويش، فيما تتأهبن هن للدفاع وتبذلن كل جهودهن وأدلتهن في الرد، لدرء تلك التهمة عن أفكارهن وأعمالهن الأدبية ولا سيما الروائية. فيبالغن في المواجهة، وتخلصن في الشرح والدفاع كما لو كانت تهمة فعلا!
وأحب أن أناشدهن جميعا الآن أن رفقا بأنفسكن. فهي لا يجوز اعتبارها سُبة أو تهمة على أي حال.
فترى ماذا يعنون فعلا بذلك النسب وتلك الصفة: كتابة نسائية؟
إن كانوا يقصدون بها اتهام المرأة الكاتبة بالانحياز لجنسها والتطرق إلى معاناته ومشكلاته ومنغصاته، فما من منطق يحرّم أو يعيب على القلم النسائي أن يصدح ويصيح بصوت صاحبته العمومي. وما من منطق يعيب عليه لو توجع بأوجاعها وفجّر مكتوم صراخها وجنسها ومعاناتهن وطالب بحقوقهن. فإن لم يفعل من عساه سيصرخ عنهن؟ الرجل؟!
من عساه سواها يحس ويعبر عن خفايا الضغوط النفسية الواقعة عليها وأحرجها.. تلك التي لا يدركها أو يستوعبها أصلا أقرب الرجال صلة بها؟!
فمن سواها المخول بالدفاع عن نفسها وجنسها في كنف مجتمع شرقي نعلم جميعا ما يضمره في ثناياه ونشأ وتربى عليه ويعتنقه من أفكار وقيود جمة متغلغلة، تخصها!
ومن ذا الذي يحاول إحراجها وإقناعها بأن قلمها الذي هو صوتها العالي.. ولسان واقعها.. الناطق والمُجلجل بأثقالها، كفئة وجنس، وأوزار بيئتها ومجتمعها ضدها التي لا تنفك تعانيها حتى الآن، ومن ثم إرباكها واتهامها بذلك بالتحيز لجنسها كتهمة بحد ذاتها وسُبة فظيعة تُحسب عليها!
فإن لم تناصر نفسها وجنسها فمن ذا الذي يناصرها؟!
ولا ننكر أن ثمة أقلام ذكورية عديدة عادلة وعاقلة ونزيهة لا تتوانى عن الدفاع عنها والمطالبة بحقوقها. كما لا يعني ذلك أبدا أن تكون غاية القلم النسائي هي التعبير عن نفسه والنطق بصوته فقط. ولا أقصد أبدا أن تقتصر لغته على ذاتيته، وإلا لكانت لجأت إلى أي متنفس قلميّ آخر غير الأدب. والقلم عموما بجنسيه منوط به أن يتعرض ويطرح ويتناول ويتبنى كل القضايا الإنسانية. ذلك أن الإنسان بوجه عام هو مكمن الكتابة وجوهرها. كما أن المعاناة في الأساس ليست حكرا على جنس دون الآخر، والرجل غير معصوم منها كما إنه غير منزوع المحاسن.
وأما إن كانوا يقصدون بها اتهام المرأة، بالتورط بالكتابة، في سب وقذف الصورة الذكورية وتشويه سمعتها، فإن كانت لا تزال بعض الأقلام النسائية معنية بشكل كبير أو ربما تظل عن عمد تحرص على إخراج الرجل بالصورة الفظة، للسيد أحمد عبد الجواد، فذلك لأن تلك الصورة التي أخرجها نجيب محفوظ بكل حيادية وواقعية، لم تنقرض بعد ولا تزال حية ترزق إلى يومنا هذا وعصرنا هذا وقرننا هذا. وعليه، فليس من العنصرية أو التعسف في شيء أن يحاصرنها ويسلطن عليها أقلامهن عسى تختفي وإن كانت أبدا وبكل موضوعية لن تختفي.
حتما هن مدفوعات إلى ذلك دفعا من واقع تجارب حية محيطة ملحة على القلم ومستفزة له وإن كنت لا أدافع عن كل تلك الأقلام في المطلق فلربما كان من بينها من يتخذن الأمر على محمل عنصري عدائي محض يضر بنزاهة القلم النسائي وينأى به عن صفة الإبداع وصنعة الأدب.
فلطالما تمحورت أعمال نجيب محفوظ حول المرأة اللعوب، الأمر الذي تسبب في مواجهته شخصيا بتلك الحقيقة بصيغة الاستنكار أو ربما التهمة، فهل يعد هذا تجنيا صريحا منه على المرأة المصرية الشعبية! وقد وجاء رده في هذا الشأن بما معناه أن المرأة الفاضلة لا تنطوي حياتها على ما يثير ويغري الأدب بعكس النموذج الآخر حتى وإن كان استثنائيا. ومن واقع وجهة نظر الأديب الكبير، يعد ذلك تصريحا أدبيا ضمنيا للمرأة الكاتبة بل والرجل على حد سواء، باستغلال النماذج الذكورية الشاذة.. المنتشرة.. أدبيا كمادة خام متجددة لا تفنى. فعلى الأقل لها من الانتشار والشيوع ما يمنحها الشرعية الأدبية مقارنة بنموذج المرأة إياه بوجهة النظر المحفوظية.
وجدير بالذكر جدا أن ثمة أقلام ذكورية تقمصت وتناولت المشاعر الأنثوية بطريقة مدهشة أمثال باولو كويلو وإحسان عبد القدوس كما أن ثمة أقلام نسائية برعت بشكل مدهش كذلك في تلبس مشاعر ودواخل الرجل مثل أحلام مستغانمي. فتقمص دور الآخر والتعبير عن إحساسه أمر وارد جدا ومثير وإن دل على شيء فيدل على مدى براعة ورهافة وحرفية كاتبه.
أتوقع أن ليس ثمة شبهة كتابة ذكورية تواجه الأقلام الرجالية، ذلك أن الواقع هو كون الرجل الطرف المسؤول أو المسيطر، على الأغلب بأرض الواقع والعنصر البارز فيما يخص تلك الإشكاليات والنزاعات. وأتصور أن لو كانت للمرأة اليد العليا الباطشة والقامعة والمتسلطة عليه والمتحكمة به بشكل عام وتقليدي، لكان بالتأكيد علا صوت الرجل، في الأدب وغيره، بالشكوى والتظلم وبنداء المساواة والحرية بما كان سيتم تصنيفه حتما بالكتابة الذكورية.
بالنهاية الأدب هو انعكاس للإنسان.. للحياة، ومجسم للواقع بشكل أو بآخر. هو معني بالإنسان على وجه العموم. والواقع يثبت بالتجربة أن فكر الإنسان رهن قضاياه الأولية الملحة والمؤرقة التي تحول دون استقراره الآدمي اللازم المادي والمعنوي، فكيف وإن كانت تلك اللفظة: نسوية، بما لها من تبعات حقيقية مؤذية لازالت تطارد المرأة.. الكاتبة.. شخصيا ولم تتجاوزها بعد، فكيف لقلمها أن يتجاوزها هو ببساطة؟!