الكتابة عن الإسكندرية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم عبدالمجيد

الإسكندرية ليست مجرد هواء يهب من البحر، إنما هواء أرسله التاريخ العجيب للمدينة.. تاريخ التمرد والنزق والتسامح.. والكتابة عن هذه المدينة أفق مفتوح تبحر فيه كل السفن الممكنة.. إنها بلورة سحرية تعطيك من كل ناحية عشرات الصور.

فى طفولتى وصباى كنا نسكن فى حى كرموز العتيق أقدم أحياء الإسكندرية والمسافة بين كرموز والبحر المتوسط لا تستغرق أكثر من ثلث ساعة على الأقدام، لكنها كانت بالنسبة لنا نحن أبناء الحى الفقير رحلة، فى كل خطوة فيها تتغير أشكال الناس التى تقابلنا، حتى إذا وصلنا إلى محطة الرمل، وجدنا رائحة البرفانات والفتيات والفتيان يتهادون على الكورنيش، وكافيتريات لامعة خلفها ناس بيض البشرة يشربون الجعة وعربات الحنطور تمرح بالأحباء. هذه هى الإسكندرية «المارية» أى المبتهجة السعيدة التى كانت السمة الغالبة على شعبها طوال التاريخ رغم التندر على الحكام فتسلطوا عليه حتى كادوا يبيدونه. لقد اجتمع عليها الحكام والطاعون والزلازل، لكن الشعب السكندرى مازال يتندر على الحكام، ولم يعد ممكنا إبادته.

ليست الكتابة عن الإسكندرية بالأمر السهل، فهى ليست مجرد مدينة ممتدة تتحرك فيها الشخصيات، بقدر ما هى حالة وجودية ليس أولها الحزن وليس آخرها الثورة!

والكتابة عن الإسكندرية لم تكن يوما حقلا من حقول الاستشراق كما حدث بالنسبة لمدن كالقاهرة ودمشق وتونس والقيروان. اقرأ فورستر أو كفاكيس أو داريل. الكتابة عن الإسكندرية تختلف إذن عن الكتابة عن المفدن الأخرى، الكتابة عن الإسكندرية أفق مفتوح تبحر فيه كل السفن الممكنة إلى ممالك المستحيل من الفن.

والكتابة عن الإسكندرية لا يمكن أن تكون مجرد كتابة عن مدينة محددة الملمح. إنما هى كتابة عن بلورة سحرية تعطيك من كل ناحية عشرات الصور. أكاد أقول إن دخول الإسكندرية فى أدب كاتب عظيم مثل نجيب محفوظ ساعد كثيرا فى القفزات التجريبية والنزوع الشديد، بلا حدود، نحو التجديد منذ رواية اللص والكلاب، التى هى فى رأيى حالة سكندرية،

أتذكر سؤالا وجهه لى معد فيلم قصير عنى للتليفزيون الفرنسى وأنا أقف على حافة المحيط الأطلنطى فى مدينة لاروشيل عام 2001. كان السؤال: ما شعورك وأنت تقف على المحيط الأطلنطى؟ وهل يختلف عن شعورك وأنت تقف على البحر المتوسط؟ على الفور أجبت: عندما أقف على المتوسط أشعر بالتاريخ يتحرك بقيامة الماضى، والحضارات القديمة ترتفع أعمدتها من حولى وأشعر بالقوة والثقة فى النفس والرغبة فى الحركة. دائمًا يحدث هذا معى وأنا أقف بالميناء الشرقى بالإسكندرية، أما هنا، وأمام المحيط، فأشعر بغموض هائل وخوف عظيم، أكاد أدخل فى بعضى. مدينة العالم التى لم تتكرر. لم ينس الذين خرجوا من المدينة، ولا المصريون الباقون، العلاقات وقصص الحب الجميلة معهم أيضّا، والآن فإن عشاق الإسكندرية من الأجانب لهم رابطة وروابط كثيرة فى العالم، ويلتقون معا كل عام فى بلد ما، ويتذكرون الأيام الجميلة للمدينة، ويكتبون عنها الكتب، إنها مدينة تستحق ما كتبه عنها عالم النفس اليهودى جاك حسون، إن من يغادر الإسكندرية لا يغادرها أبدًا، ولقد خرج حسون مثل الكثيرين غيره من اليهود بعد عام 1956 ضحية إرهاب وغطرسة دولة إسرائيل وغباء الحكم الذى لم يفرق بين إسرائيل ويهود مصر.

وعاش فى باريس يعمل ويكتب كتابًا جميلاً عن المدينة التى يشعر أبدا بالاغتراب إلا حين ابتعد عنها.

الأمر على نحو أعمق وأشد مع اليونانيين والإيطاليين الذين خرجوا بعد إجراءات التمصير والتأميم. هؤلاء وغيرهم كثيرون لم يشعروا أبدًا أنهم فى مدينة غير مدينتهم، والإسكندرية تعطى دائما هذا الإحساس للغريب، هواؤها أبيض، وفضاؤها مفتوح، وتاريخها مجنون، وظل أهل الإسكندرية دائما يميزون بين من جاء يستعمرهم ومن عاش بينهم كواحد من أهل البلاد ؛ لذلك لم تنقطع ثوراتهم ضد الاستعمار، ولم ينته تسامحهم مع الغرباء. لم تكن هناك مشكلة فى تحرير الاقتصاد ومقدرات الأمة ولكن المشكلة صارت فى التخلص من الثقافة الإنسانية بدءا من أبسط الأشياء مثل النظافة إلى البناء والحفاظ على البيئة. تم اعتداء كبير غاشم على البيئة بردم بحيرة مريوط- لم تعد لأغنية محمد قنديل بين شطين وميه أى معنى الآن – الإسكندرية التى كانت بين البحيرة والبحر صارت بين البحر والصحراء فتغير مناخها واحتبست فيها الحرارة وتم الاعتداء على الخضرة حولها وأقيمت العشوائيات والأزقة. وجرى ذلك بمصر كلها للأسف وبالذات منذ السبعينيات. ثم هب على الإسكندرية أكثر من غيرها هواء التخلف والسلفية والعقيدة الوهابية. كان أهلنا فى الريف قديمًا يأتون من قراهم فيصيرون فى الإسكندرية سكندريين وتغير عاداتهم الريفية ولكن ذلك لم يعد يحدث الآن.

فى الإسكندرية يكون الأمر أكثر ألما لأن الإسكندرية التى كانت تولى وجهها شطر أوروبا صارت تولى وجهها شطر الصحراء. انظر الآن إلى الإسكندرية القديمة التى عاش فيها أعظم متصوفة وعلماء الإسلام، وتركوا خلفهم أعظم المساجد ورغم ذلك ظلت تحتفظ بروحها الإنسانى وانظر إليها الآن ترتفع فيها المساجد كل يوم وفقدت فى نفس الوقت روحها الإنسانى. لم يكن أبوالعباس المرسى ولا سيدى العدوى ولا سيدى ياقوت ولا سيدى جابر ولا سيدى القبارى ولا غيرهم وما أكثرهم فى الإسكندرية كفارا أيها الناس كانوا رموزا إسلامية عظيمة يعرفون أن الإسلام دين التسامح.

لقد جاء على الإسكندرية وقت فى سبعينيات القرن الماضى بدأ فيه هدم كل سينمات الأحياء الفقيرة وتحويلها إلى ورش ومخازن أو عمارات. وامتد الأمر إلى السينمات الراقية أو المتوسطة. اعتبرت حرامًا بينما الإسكندرية كانت المدينة الثانية فى العالم التى عرض بها شريط سينمائى بعد عرض الأخوين لوميير فى فرنسا عام 1895. أما المسارح والملاهى على الكورنيش فقد أغلقت كلها بحجة الإسلام كأنها كانت خطيئة وبها انتهت الخطايا. مدينة عاشت أكثر من ألفى سنة تستوعب الدنيا كلها صارت تضيق بأهلها من الأقباط. يا إلهى. ولا تحدثنى من فضلك عن الاستعمار والصهيونية والأيادى الأجنبية. الأرض هناك الآن مهيأة لهذا كله كما هى فى سائر الوطن. الأمر فقط فى الإسكندرية يدعو للحسرة وألم أكثر من غيرها من المدن.

وفى النهاية أذكركم بالحكاية الجميلة عن الإسكندر الأكبر الذى حين أراد أن يرسم تخطيط المدينة على الأرض لمهندسيه، لم يجد المادة الجيرية البيضاء ليخطط بها ففعل ذلك بالحبوب التى راح ينثرها على الأرض يحدد مكان البيوت والسوق والمعبد والسور. فجأة اقبلت الطيور من السماء وأكلت الحبوب كلها فوقف متشائما. ولكن رجاله قالوا له لا تحزن فهذا يعنى أن المدينة ستكون للشعوب من كل الدنيا. وطبعا صدق الإسكندر. الآن بعد أكثر من ألفى سنة كان محقا فى تشاؤمه. أكلت طيور الصحراء المدينة.

هذا التاريخ كان وراء الروايات الثلاث الكبيرة عن الإسكندرية. كيف كتبت كلا منها؟ هذه حكاية أخرى.

…………..

* نشر النص في كتاب «ماوراء الكتابة.. تجربتى مع الإبداع» عن الدارالمصرية اللبنانية

مقالات من نفس القسم