ليس المراد هنا هو الدخول في متاهات تحديد ماهية الكتابة وأنماطها. هذا موضوع خاض فيه ذوو الاختصاص طولا وعرضا، ومازال الجدل والتفكير قائمين فيه إلى اليوم. ومن الأكيد أنه سيظل كذلك، طالما الإنسان يكتب أو يشعر بضرورة الكتابة، أو يبدع أنماطا وأنواعا جديدة من الكتابة أو التواصل بصفة عامة.
الكتابة التي أعني، والتي تشكل محور اهتمامي منذ مدة، هي ذلك النوع الذي يمكن تسميته الكتابة-البوح، أو الكتابة-الخلاص. هي كتابة كمبضع الجراح يمر على بؤرة أو ورم متعفن منتفخ، فيشرطه سطحا، مطلقا العنان للصديد وكل ما تعفن داخل الورم للخروج وتخليص الجسد منه.
الكتابة التي أعني ليست بالتأكيد ذلك التأسيس العقلاني، مع سبق الإصرار والترصد “لتحريف” (أي جعلها حروفا) أفكار أو خواطر أو معلومات أو بيانات، وخطها على الورق في نسق مدروس موجه بعناية إلى نوع محدد من القراء.
الكتابة-البوح أو الكتابة-الخلاص هي إفراغ تلقائي لتراكمات أحاسيس ومشاعر، وصلت إلى حد من الاحتقان بدأت تظهر معه أعراض كبتها وحبسها على تصرفات الجسد وعافيته.
الكتابة التي أعني، لا تكتب أساسا بنية أن يقرأها أحد. يكفي أن تخرج إلى الوجود، وهذا هو كنهها وفحواها.
الكتابة-الخلاص لا تتقيد بأي أسلوب إبداعي معين، ولا تراعي قواعد النحو والصرف والإعراب. الأسبقية الأولى فيها لخروج المشاعر والأحاسيس والأفكار، وخطها كلمات، ثم بعد ذلك، وليس إلزاما، يمكن تنقيحها وتشذيبها، إذا كانت توحي بأن هناك جدوى لإعادة قراءتها.
هذا الخروج-الولادة هو أهم مرحلة، أو بالأصح، أصعب مرحلة في هذا النوع من الكتابة. لأنه بمجرد ما يجلس الإنسان لمكاتبة نفسه حتى يتلبسه، دون أن يشعر بذلك، هاجس القارئ المتلقي المفترض لكتاباته. فيمارس، تلقائيا، وبدون وعي منه رقابة ذاتية ونقدا خفيا لمشاعره، فلا يسطر ككلمات إلا ما يمر عبر زاوية هذه الرقابة الخفية، أو ما يعتقد أنه سيجد قبولا ورضى لدى القارئ المفترض. وهذا يتنافى كليا مع القاعدة الأولى والأساسية للكتابة-الخلاص التي تدعو إلى إطلاق العنان للأفكار والمشاعر والأحاسيس أن تخرج بكرا وفياضة دون رقابة أو نقد أو تشذيب.
ولأن الكتابة-الخلاص البكر هي أصدق الصور عن ما يعتمل داخل النفس، فإنها تشكل أهم المداخل المعتمدة لفهم ودراسة بعض الحالات النفسية التي يستعصي فهمها حتى على كبار الأخصائيين في علم النفس، وذلك بسبب الشحنة الكبيرة من الصدق والتلقائية التي تطبع هذا النوع من الكتابة، والتي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تتوفر في الحديث المباشر مهما كانت درجة الشخص المخاطب.
إن الجلوس إلى ورق أبيض بكر، ومباشرة عملية الكتابة-الخلاص بهذا الشكل التلقائي، دون ضوابط أسلوبية أو تحريرية أو حتى لغوية (يمكن الكتابة بأي لغة وحتى باللهجة الدارجة)، أصبح الآن أحد الوسائل المهمة المتبعة في معالجة بعض الاختلالات النفسية الناتجة عن ظروف خاصة أو اجتماعية. وكأي مخاض للولادة، فإنها لاتطلب الإذن، بل تفرض نفسها في الوقت المناسب، أي عندما تتوفر كل الظروف الموضوعية المهيأة للخروج. وككل ولادة فإنها تكون عادة مصحوبة بآلام، وقد تحتاج في بعض الأحيان إلى عملية قيصرية لإخراج بعض الأفكار والأحاسيس المستعصية، ولكنها في نهاية الأمر وعندما تنتهي طقوس خروج المولود الجديد، فإننا ننظر إليه بغبطة وسرور كإبن شرعي كيفما كان شكله.
الدارالبيضاء: أكتوبر 2007