الكتابة الآن

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود الغيطاني*

ربما حينما يتناهى إلى سمعنا جملة الكتابة الآن تثير داخل رؤوسنا العديد من التساؤلات والتأملات الكثيرة، والتي هي في حاجة ماسة وحقيقية لتأملها والإجابة عليها.

فماذا تعني الجملة الاسمية- الناقصة- الكتابة الآن؟

هل نعني بها شكل الكتابة الحالي؟ وهل اختلفت الكتابة الآن عما كانت عليه من قبل؟ أم نقصد بها الكتابة ومشاكلها، أم المقصود كيف تطور الشكل الكتابي؟

ولكن مثل هذه التساؤلات لابد أن تجرنا لتساؤلات أوسع وأعمق فنجد أنفسنا قد غرقنا في بحر عميق من التأملات، ومنها ما المقصود بالكتابة هنا؟ هل هي الكتابة على عمومها من مقال وإبداع ونقد وغيره؟ أم هي الكتابة التي تمثل جيل مفرد-إذا ما انسقنا لفكرة تقسيم الأجيال الكتابية- يُشكل ظاهرة كتابية بعينها؟

لعلّي حينما فكرت في الكتابة عن موضوع "الكتابة الآن" تساءلت الكثير من هذه التساؤلات؛ ومن ثم رأيت أنه لابد من تنظيم تلك التساؤلات.

فإذا ما تناولنا الكتابة من حيث شكلها الإبداعي فهي بالتأكيد اختلفت كثيرا عما كانت عليه من قبل، ولكنها في ذات الوقت لاقت الكثير من العسف الذي قابله بها جمهورها من القراء؛ نتيجة عدم قدرتهم على استيعاب الكثير من الاختلاف عما كانت عليه من قبل الكتابة الكلاسيكية؛ فالمبدع الآن- وربما أنا أتحدث هنا عن جيلي من الروائيين- بات أكثر حرية اجتماعية وأخلاقية عما كان عليه من قبل- ولعله مارقا من وجهة نظر البعض، ولكن هذا يعود للأخلاق ونسبيتها من مجتمع لآخر ومن شخص لغيره-، ربما كان السبب في ذلك الكثير من الأمور منها الانفتاح الشامل والواسع على ثقافات مغايرة لم تكن متاحة من قبل للعديد من الأجيال السابقة، وربما لأننا جيل من المبدعين الذين انهارت عندهم القضايا الكبرى والقوميات فباتوا أكثر التصاقا بذواتهم وأكثر تعبيرا عنها، وربما للكشف والفضح- سواء على المستوى الذاتي أو الاجتماعي- عند الكثيرين من المبدعين الآن- الأمر الذي لم يكن يحدث من قبل لدى العديد من الكتاب خشية المجتمع وسطوته- مما أدى إلى رفض البعض من القراء بل والنقاد لما يتم إنتاجه من إبداع تكتبه الأجيال الجديدة التي هي في حقيقة الأمر أكثر جرأة وأقل زيفا مما كان يفعله السابقون. وبالتالي بتنا أمام ازدواجية خطيرة يمارسها علينا النقد قبل العُرف الاجتماعي، ولم يعد أمامنا سوى أمرين، إما أن نضع المجتمع الخانق بمعاييره- القاتلة للكتابة الإبداعية- كرادع أمامنا حينما نمسك القلم، أو نطيح به عرض الحائط كي نكتب ما يُمليه علينا- ما أسميه أنا- ضميرنا الإبداعي ولتذهب كل تلك (القيم) الزائفة للجحيم في سبيل كتابة حقيقية وصادقة في المقام الأول، ولعل الخيار الثاني هو ما حققه الكثيرون من الكتّاب المجايلين لي مما أدى إلى اتهامنا أننا جيل يسعى للشهرة السريعة لا من خلال الإبداع الجيد، بل من خلال كسر جميع التابوهات- التي هي في حقيقة الأمر مكسورة وليست في حاجة إلى من يفعل بها ذلك- .

ولعل هذا الاتهام المُوجه إلى جيلي من الكتاب من الخطورة بمكان نتيجة ترديده في الكثير من المحافل والندوات الثقافية، وبالتالي فالأمر في حاجة حقيقية لإعادة النظر في إنتاجنا من خلال نسق جمالي وظروف ثقافية راهنة ومغايرة للفكر الكلاسيكي الذي يفكر به هؤلاء النقاد الذين يُطلقون مثل هذه المقولات.

كما أن خطورته تنبع من أمر آخر وهو الأخلاق الزائفة التي يتعامل بها المجتمع مع ذاته، فأن يستمتع أحد الأشخاص بما تكتبه- لا أقصد هنا بالاستمتاع فعل الاستمناء بقدر ما أقصد الاستمتاع الفني- ويشيد به كثيرا ثم يقول ولكنك تكتب لمجتمع وبالتالي فلا بد أن يكون لديك سقفا، فهذا أمر لابد أن يدعو إلى الدهشة والتأمل؛ فأي سقف يجب أن يكون في عقلي حينما أكتب بالتأكيد سيكون عائقا أمامي كي أخلق عالمي الإبداعي الذي أراه، لأني حينما أحاول أن أخلق عالما إبداعيا- على اتساع مفهومه- فأنا أكتب ما يشبه مقطعا من حياة، وبما أن الحياة بها كل شيء – ما يمكن تخيله ومالا يمكن- فلابد أن أحقق أولى أدواتي الإبداعية وهي الصدق الفني الذي سيجعل القاريء متفاعلا معي؛ لأنه إذا افتقدت الكتابة لهذا العنصر الأساسي والأول فلقد فقدت قارئي وبالتالي كان العالم مصنوعا. كما أني لا يمكن تخيُل الكتابة ذات مفهوم قيمي أو أخلاقي أو ديني، بمعنى أني كروائي أو قاص لست داعية دينية أو منظرا أخلاقيا أو رجل اجتماع كي يجيء أحد الأشخاص ويقول لي ما هو الهدف القيمي أو الأخلاقي الذي تهدف إليه من روايتك مثلا؟ مثل هذا السؤال ينفي عني تماما صفة الروائي ليدخلني في محيط آخر لا علاقة لي به أساسا؛ لأني إذا ما كنت أهدف إلى مفهوم أخلاقي ما أو ديني لكنت قد اخترت أن أكون داعية أو رجل أخلاق مثلا، وليس روائيا.

هذا من جهة، ولكننا إذا ما تأملنا ما يحدث في الكتابة الآن- خاصة في مصر- لوجدنا أن اتساع فرص النشر للكثيرين متضافرا مع الفراغ الكبير وحالة الاكتئاب واللاجدوى واللامعنى وغيرها من اللاءات الأخرى التي كان السبب فيها الكثير من العبثية التي يعيش فيها المجتمع المصري نتيجة سقطات حكوماته المختلفة لاسيما حكومة رجال الأعمال، التي أفقدتنا الرغبة في أي شيء، أقول أن هذه الأمور قد أدت إلى إفراز كتابة أخرى مغايرة ومختلفة وخطيرة على مستقبل الكتابة والثقافة ذاتها، وهي ما يطلق عليها الكتابة الساخرة، أو الأدب الساخر أو ما أسميه أنا بالمسخرة.

هذا التيار الذي بدأ يظهر منذ فترة ليكتسح كثيرا في سوق النشر ومن ثم يحقق رواجا غريبا بالرغم من أن هذه الكتابات أشبه بأوراق الكلينكس- ما أن تستعملها إلا وتلقيها في سلة المهملات، بل وتنسى أنك قد قرأتها أساسا- فظهرت لنا العديد من الكتابات التي بدأها عمر طاهر ليستمر من ورائه عددا كبيرا ممن يرون أن من سيحذو حذوه لابد أن يكون كاتبا مجيدا بالرغم من أن هذه الكتابات لا قيمة جمالية أو إبداعية لها، بقدر ما هي تسلية وازجاءا للوقت لا معنى له إلا قضاء وقت الفراغ.

وهنا ظهرت لنا موضة جديدة مجايلة لمثل هذه الظاهرة وهي موضة البيست سيلر تلك الظاهرة التي لا تعني سوى الفراغ الفكري واللامعنى، لأنه ليس معنى أن هذه الكتب تحقق الكثير جدا من المبيعات أنها ذات قيمة، وإذا أردنا مثالا على ذلك فلننظر إلى كتابات الكاتبة الأمريكية دانيال ستيل التي حققت مبيعاتها أكثر من 550 مليون نسخة على مستوى العالم ولكنها بالرغم من ذلك ليست بقيمة أدبية أو فنية من الممكن أن تعلق بالذاكرة أو يذكرها التاريخ الفني أو الأدبي، وقس على ذلك الكثيرين من الكتاب الذين يفخرون ويتباهون أن كتاباتهم تحقق الملايين والآلاف من المبيعات، وإذا ما حاولنا القياس مرة أخرى فلننظر إلى مجال السينما وتلك الظاهرة المسماة بشباك التذاكر والتي لا تعني على الإطلاق أن الفيلم الذي حقق الملايين من الجنيهات لابد أن يكون فيلما جيدا والا كان فيلم اللمبي للمخرج وائل إحسان من الأفلام العلامات في تاريخ السينما المصرية وبالمقابل يكون فيلم عرق البلح للمخرج رضوان الكاشف من أسوأ الأفلام على الإطلاق لأنه لم يستمر عرضه أكثر من أسبوع نتيجة عدم الإقبال عليه.

إن تلك الظاهرة الخطيرة تدل على تدني الذوق الفني لدى الكثيرين، وانسياق البعض من الكتاب خلفها يعني عدم الوعي بما يفعلونه ومحاولة تزييف الحقائق، لأننا جميعا نعلم أنه ليس كل ما يلمع ذهبا، وكذلك ليس كل ما يطلق عليه صفة ساخر هو أدبا جيدا أو يعلق بالأذهان.

إن الكتابة الآن بالفعل اختلفت اختلافا بينا عن الماضي، ولكن إلام سيؤدي مثل هذا الاختلاف؟ أعتقد أن الوقت هو خير حكم على ما نراه الآن وبالتالي سيسقط الكثيرين ويبقى القليل مما هو جيد وعنده المقدرة على الاستمرار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* روائي وناقد سينمائي مصري

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم