الكتابة

الجن..الدراجة.. والمراجيح.مقطع من "ألف جناح للعالم"..رواية تصدر قريبا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخرانى

أيهما بدأ العالم: الحكاية أم الإنسان؟؟

الكتابة: أجمل وأصدق طريقة للحكى عن الوجود، الواقعى والخيالى، بداية من أول نور أو ظلام ظهر للحياة، أول نسمة هواء تنفسها العالم، حكى الإنسان عن نفسه وللكائنات من حوله، حكى الجدات والأمهات، الرحالة والمسافرين، البحر والمطر، الريح والسحاب، حكى مفردات الكون لبعضها البعض، حتى أن السؤال سيظل معلقًا للأبد: "أيهما وجد أولا الحكاية أم الانسان؟"، لن يعرف أحد، ما هو معروف أنه لا يوجد انسان بلا حكاية، ولا توجد حكاية بلا انسان.

لماذا فى أى وقت وأى مكان يتم التعامل مع الكتابة على أنها أنثى افتراضية؟ هل لأن العالم رجل افتراضى يحتاج لهذه الأنثى لتستوعبه؟ لتفهمه؟ ليغامر معها؟ ليضع فى حضنها آلامه وسعادته؟ لأنهما معًا سينجبان المزيد من الجمال والحيوات والأفكار والعوالم التى لم تكن لتوجد أبدًا لولا هذه الأنثى/الكتابة؟

هل هى بالفعل افتراضية؟ لماذا تبدو غير ذلك؟

الأنثى المحبوبة.

المغرورة، الأنانية، صعبة الإرضاء، التى تؤثر شخصيتها فى كل من يعيش معها، فلن يخلو كاتب/ كاتبة بشكل ما من أنانية وغرور فنى، وأن يكون صعب الإرضاء، تلك الأنثى التى لا تقبل أية أعذار من أى أحد، فهى تبحث عن “كتابة” تليق بها فى أى مكان مع أى أحد، لن تضيف درجة واحدة زيادة تعاطفًا مع أى كاتب لأن ظروف مجتمعه غير خلاّقة أو تعوق الكتابة بأى شكل، لا تقبل غير كتابة تليق بالعالم، تحقق أحلامها، وترضى شغفها بالحياة والتحليق، فتظل تبحث وتفتش حتى يقال عنها مجنونة أو مسحورة، ومثلها يفعل كل الكتاب الذين يعيشون معها، لا يتوقفون عن البحث والتطلع، لا يتوقفون عن الحياة والعالم، وبهذه الطريقة وحدها -الاستمرار فى الحياة والعالم- يستطيع الكاتب/ الكاتبة التأثير فى شخصيةالكتابة واللعب معها، وأن يطلق روحهفيها.

لو حدث لكاتب ما أن قرأه كل انسان فى العالم، ألن يفكر فى أن الجن لم يقرؤه بعد؟ ثم فى النجوم؟ ثم الحصى بالشوارع والأسماك فى الماء؟ أنا سأفكر فى ذلك، أقصد أنه لا نهاية لطموح الكاتب، لن يتوقف أبدًا عند نقطة ما، لن يتوقف عن الجموح والمضىّ بعيدًا.

فى رأيى أن علاقة الكاتب بالعالم هى ما يحدد كل شىء فى النهاية، فلو أن هناك كاتبًا موهوبًا، استطاع أن يخلق لنفسه علاقة مميزة مع العالم فإنه سينتج أجمل كتابة ممكنة، “علاقة الكاتب بالعالم”، تلك العلاقة التى يعمل عليها الكاتب طوال الوقت، وفيها وبها يفهم العالم ويصاحبه، قد يثور ويغضب منه، من المهم أن يثور ويغضب، يضربه بالحائط ويرميه فى البحر، لكنه وهو يفعل ذلك سيظل محتفظًا بمحبته له، ولن يطرده من قلبه أبدًا، هو يجعل من مفردات الكون أصدقاء وعشاقا، وأحباء، وإخوة له، المطر، البحر، الأشجار، الشوارع، الأفيال، الغزالات، الغابات، الصحراء، يخلق لنفسه مع كل شىء قصصًا وحكايات، واقعًا وخيالات، وحوارات لا تنتهى، يحادثها ويلاعبها طوال الوقت، حتى يكون قادرًا على الإحساس بها وسماعها وفهمها بسهولة حتى لو تحدثت كلها فى وقت واحد، وكثيرًا ما تفعل ذلك.

ومهما كان الكاتب موهوبًا، وليست له علاقة مميزة مع العالم ستظل روحه الإنسانية والإبداعية ناقصة، وبالتالى كل ما يكتبه سيفتقد لأهم وأجمل شىء يحتاجه، حتى أن هذه الفكرة لا تتعلق فقط بالكتّاب، فأى انسان عندما يصنع علاقته المميزة مع العالم سيكون ” موهوبًا إنسانيًا”.

علاقة الكاتب بالعالم ستحدد شكل علاقته بمفردات الكون حوله، وطريقة تعامله معها وتعاملها معه، فكلها كائنات لها قلب وروح على طريقتها، وتستطيع أن تبادله الحب إذا أحبها بلا استثناء وبلا شرط، وضمن هذه العلاقة هناك طريقة استقبال الكاتب للعالم، فالكاتب سينتج العالم بنفس الطريقة التى يستقبله بها.

 

هذه العلاقة ستختار للكاتب لغته التى يكتب بها حتى ولو كان ينوع عوالمه ولغته من عمل لآخر، ستختار له طريقة التفكير، ورؤيته للأفكار والمخلوقات من حوله، تمنحه إحساسه المختلف بكل نبضة فى العالم وفى كتابته، ستطلق فى كتابته تلك الروح التى لا تتوقف عن الحياة والحب والمغامرة والحرية.

“محبة العالم” هى أجمل وأذكى ما يمكن أن يقدمه أى انسان/ كاتب لنفسه.

الأنثى الجموح.

الكذّابة جدًا، الصادقة جدًا، الحقيقية مثل مطر يغمر العالم، المراوغة مثل سراب يغمر العالم، الفضولية التى لا تتوقف عن الأسئلة والاكتشاف، الشبقة التى لا تتوقف عن ممارسة كل ألوان وأوضاع الحب، سريعة الملل التى تهرب من قصص الحب المكررة، المزاجية التى يمكن أن تمنحك نفسها وتدفع لك كنوز العالم، أو تحرمك مجرد أن تشمها ولو دفعت لها كنوز الدنيا، المخادعة وكأنما لا شىء فى العالم غير الخداع، المخلصة وكأنما لا شىء فى العالم غير الإخلاص، الطموحة التى لا تقبل إلا بالأحلام الكبيرة والطموحات اللانهائية، العبقرية التى لا تتوقف عن الابتكار والتجريب، خطّافة القلوب ونجوم السماء وفاكهة الغابات، أنهار العسل والملح، نار الجبل وجليد ما وراء الجبل، رسوم السحاب وألوان قوس قزح، حرارة الشمس وضوء القمر ولآلىء البحر.

هناك نوعان من الكتّاب: أحدهما من يصادف جبلا فيتوقف فى مكانه ليتأمله من بعيد لبعض الوقت وكأنما يكتشف وجوده لأول مرة فى العالم، ثم يقترب منه بهدوء حتى يصل إليه فيتوقف جاعلا بينهما مسافة، ليتعرف عليه عن بُعد أولا، ثم يقترب منه خطوة خطوة، يدقق فى الجبل بداية من أقدامه، يتأمله ويدقق فى أحجاره حجرًا حجرًا ويظل يتطلع إليه معجبًا مبهورًا، يدقق فى كل ذرة بالجبل وكل نبتة صغيرة بين صخوره، يدور حوله بتأنى عدة مرات ويصاحبه، ومن وقت لآخر يتطلع باحترام لهذا الكائن الهائل الذى يتداخل مع السماء، هو لن يفكر فى صعود الجبل: هذا كاتب متأمل له قلب طفل.

النوع الآخر من الكتاب: يصادف جبلا فيندفع إليه جريًا، وكأنما كان يبحث عنه، يتحسسه بيديهفتجرحهما الأحجار، لكنه سيكون سعيدًا بدمه وهو يسيل على جسم الجبل، هذا الكاتب يدور حول الجبل بسرعة، وينظر لأعلاه ويدرك حجمه بسرعة دون أن تتراجع عينيه أمام تلك الشمس القوية التى تنظر له، سيعرف أن الجبل لا يتداخل مع السماء، يخلع ملابسه بسرعة ويرميها، يصعد الجبل بيديه وقدميه، ويتعمد أن تجرحه الصخور وأن تفلت يداه وقدماه ليسقط ويتدحرج عدة مرات، ويعاود الصعود من جديد مرات كثيرة، سيستمتع بلسعات الشمس لجسده، يتعرف على أنواع الصخور وكل الشقوق عندما يلمسها ويجرب طعمها وملحها وعذبها وهى تتناثر حوله وفى جروحه، فهو يريد أن يعيش الجبل بنفس الرغبة التى يريد أن يكتبه بها، سيصل لقمة الجبل ويقف على قمته ويصرخ بعلو صوته، ثم يصمت تمامًا لبعض الوقت، وينظر ليعرف ما بعد ذلك، فإذا كانت غابة سيدخلها جريًا، لو كان بحرًا سيلقى بنفسه إليه، له طريقته فى التأمل، وهى أن يجرب، هو لا يتأمل/ يعيش بعقله أو قلبه فقط، وإنما بكل شىء فيه: هذا كاتب شبق بالعالم له قلب مغامر.

الأنثى الحرة.

الطليقة، التى لا تقبل الترويض، ولا تتعامل مع القابلين للترويض، العنيدة وكأنما لن تأتى أبدًا، المطيعة وكأنما لن تغادر أبدًا، متهورة تخرج للصيد فى أى وقت، لقيطة لا تنسب لأحد،أبدية كمصاصة دماء،أهم مشاعرها: أن تجرب كل المشاعر وتخترع مشاعر جديدة، أهم أفكارها: أن تجدد حياتها دومًا.

أن تصلح كتابتك لأن تكون مشروع حياة، فتقبض منها بيدك وترمى فى الفراغ لتنبت أحلاما، بشرًا، أمطارًا، بحرًا، بيوتًا، شوارع، مشاعر، حكايات، اختراعات جميلة، وعوالم جديدة.

أن تصلح حياتك لأن تكون مشروع كتابة، فيكون لها سحر وجمال وجموح الإبداع والكتابة.

 

أن تكتب العوالم التى تستوعبك فنيًا وإنسانيًا.

أن تعمل بكامل طاقتك الإنسانية والفنية طوال الوقت فتحول مفردات العالم لكتابة، وتحول مفردات الكتابة لعالم.

أن تحاول طوال الوقت أن تحسّن علاقتك بالعالم ومفرداته، فيعاملك العالم بالمثل ويعمل على تحسين علاقته بك طوال الوقت، فتتبادلان الحب والأسرار، ويتواطأ معك لأجلك.

الأنثى اللعوب.

التى لا تتردد أن تفعل ما يخطر ببالها، وتتصرف كما يحلو لها، فلا تترد أن تقضى ليلتها كعاهرة، عشيقة، مجنونة، وحش، قطة بلا مأوى تتمسح بك، ملكة، متشردة، ساحرة، مسحورة، وكأنها غابة مسكونة بكل الاحتمالات، وبغير المتوقع، بكل الإناث، والألوان، والموسيقى، بكل ما ينتهى بتاء التأنيث، وما يمكن التعامل معها على أنها أنثى افتراضية.. هل مازالت افتراضية حتى الآن؟

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم