الكارثة: إعادة اختراع الحياة

مينا ناجي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مينا ناجي

ثلاثة وثلاثون هو السن الذي صُلب ومات فيه المسيح. هذا الرقم موجود في نقطة ما في لاشعور كل مسيحي، ربما كعلامة على اكتمالٍ أو نهاية. وكما أشار فوكو بذكاء، فإن عبر طريق الآلام الطويل الذي تبعه المسيح، والذي أخذ فيه على نفسه وَصْمة طبيعة السقوط، كان الجنون هو المرحلة الأخيرة للآلام قبل الموت؛ لم يختَر يسوع فقط أن يُحاط بالجنون، بل أن يُرى في أعين من حوله كمجنون، وبذلك يكون قد اِختبر في تجسده، كل معاناة التعاسة الإنسانيّة. أصبح الجنون إذن، ‘الشكل الأخير، الدرجة النهائيّة للإله في صورة الإنسان، قبل اكتمال وخلاص الصليب’.

يصلح ثلاثة وثلاثون أن يكون رقمَ منتصفِ عمرٍ حقيقيٍّ، بسيمتريّة الرقم المقدس الذي يختص بها. ببلوغي هذا السن، سن صَلب وموت المسيح، أتساءل: ما الخلاص؟ ما مضمونه وطريقه؟ يجيب فرويد في ‘الحضارة وكروبها’ أنه لا توجد نصيحة مفيدة للجميع، كل واحد عليه أن يكتشف لنفسه كيف يمكن أن يُحقِّق الخلاص، فعوامل متنوعة، مُتصادفة، تتدخل في الأمر وتوجِّه اختياره، والنجاح غير مضمون أبدًا.

لذلك، فهذا المشروع هو محاولة تلمُّس وإيضاح طريقي الشخصي للخلاص، وسط أشكال التعاسة والمعاناة الإنسانيّة التي يكلِّلها الجنون، عبر الكتابة. هذا المشروع، الذي يبحث ويحلِّل ويشرح في جانبٍ منه، ويسرد ويحكي ويعرض في جانب آخر، علاقتي الطويلة برُهاب الأجورفوبيا، ظلَّ في مخيلتي لسنوات طويلة، لكن وصول هذا السن، هذا الحَد، أو الخَط اللاهوتي الفاصل، بمجموع أرقامه الذي يساوي رقم ترتيبه بين كتبي، كان موعد لقائي به، والذي أعلن مجيئه قبلها ببضعة أشهر، وفاة ماما المفاجئة.

أتى الموعد، أخيرًا، مع حضور رَهبة وحُزن. رَهبة الكتابة وحُزن الحِداد. لكن أي رَهبة؟ رَهبة من الكتابة عمومًا؟ رَهبة من الكتابة عن الموضوع الذي طالما أخفيته، خجلًا وخوفًا، عن الأعين وبين سطور نصوصي الأدبيّة والشعريّة ومقالاتي؟ أو من عدم إيفاء الموضوعين، الأكثر إيلامًا، حقهما؟ الرَّهبة من مواجهة الموضوعين أو التفكير فيهما؟

مع ذلك، حين أصبح ذلك الكتاب -أي الموضوعين معًا- ‘مشروعًا’ للكتابة بشكل رسمي، أصبحتُ أفكر فيه طوال الوقت. نومي أصبح قصيرًا وسيئًا؛ أنام بصعوبة بضع سويعات مرتين في اليوم. أتجنب لحظة الكتابة وأقضي وقتي بين المكالمات الدولية والمحليّة عبر الإنترنت، والمشي، وسماع الموسيقى الإيرانيّة، ومشاهدة مسلسلات كوميديّة أجنبيّة على اللابتوب. أو أفكر في سِلسِلة المُصادفات التي قادت المشروع ووجهته، قبل حتى أن أدرك شيئًا: رأيت وأنا مارٌّ في معرض الكتاب صورة رولان بارت على كتاب ذي قطع كبير. أحبُّ رولان بارت. توقفت واقتربتُ والتقطتُ الكتاب. كان ‘يوميّات الحداد’. تصورت من الغلاف أنه كتاب عن بارت، مع ذلك تشجعت واشتريته. عصفت بي عذوبته وذكاؤه. لكنِّي تشاءمت. بالفعل، رحلتْ ماما في سبتمبر من نفس العام. وتتالتْ الصُّدَف التي قادتني إلى تلك النقطة.

كان الحدث الذي دشَّن حضور الموعد هو نفسه الذي حماني من تلك الرَّهبة؛ فأنا لا يهمني في الواقع، أو جزء مني على الأقل، أن أبوح بما كتمته طويلًا، ولا يهمني كيف سيُستقبل أو يُستَغَّل – لمعرفتي بمجتمعنا الذي لا يرحم الضعف- فماما لن يصلها خبرٌ ولن تحزن على شيء.

كأني كنتُ أنتظر رحيل ماما حتى أتكلم. كي لا أسبب لها أي نوع من الحرج. فأنا في الأصل أردتُ كتابة هذه الشهادة في نقطة ما في المستقبل، حين أكون تخطيت الأمر، وأطرحه كخبرة ماضية، لكن يبدو لي الآن أن هذا هو الوقت المناسب، أو ربما لا يوجد في الأصل وقت مناسب؛ الحزن والأسى جمَّدا قلبي، ولم أعد قلقًا من هذا القدر من التبعات.

وهناك سببٌ آخر: أنني مُتُّ حقًا كمسيحي بار في سن الثلاثة وثلاثين.

لكني لا زلت أعيش. ولذا فعليَّ أن أُعيد اختراع الحياة: هذه المهمة الشاقة تستدعي إعادة تأسيس التاريخ الشخصي، والذي أربطه هنا، عن وعي، بكوني كاتبًا. هذا التأسيس يأتي عبر كتابة أكثر حدثين مؤلمين في حياتي: وفاة ماما والأجورافوبيا.

يتناول جزء ‘الجنّة هي المكان الذي فيه ماما’ الحدث الأول، وهو الذي بدأ كتطبيق – واختبار حقيقي- لفكرتي عن الكتابة كطريقة للتعايش والنجاة، بتسجيلي يوميَّات وخواطر ونصوص شعريّة وذكريات، وتحوَّل بعد ذلك تدريجيًّا إلى مواجهة أمر الموت وتأمل علاقتي بماما. لذلك كان الترتيب الزمني للفقرات والنصوص ذا دلالة، بالأخص أن الحِداد عمليّة زمنيّة أساسًا؛ في أول شهرين لم تُدوَّن تواريخ الكتابة، كانت الكتابة تلقائيّة دون أي ترتيب أو تحضير أو حتى فكرة النشر. الشهور الباقية، حتى اكتمال العام على الرحيل، فبها تأريخ لوقت الكتابة لأني اعتبرتها يوميات تخص حالتي وأفكاري تجاه فقد ماما. 

أما جزء ‘الأجورافوبيا والكتابة’ فيغطي الحدث الثاني عبر الشهادة المطوَّلة ‘ماذا يعني أن تكون “أجروفوبي”’ التي الغرض الأساسي منها، من ضمن أغراض أخرى، التعريف بحالة الأجورافوبيا ونشر الوعي حولها. نُشرت الشهادة في نسخة مُبكرة ومُختصرة على موقع ‘ختم السُّلطان’ في أكتوبر 2018 باللغة الإنجليزية. لم أستطع الكتابة عن الموضوع بالعربيّة. كان قريبًا ومؤلمًا لي بشكل زائد فعل ذلك في لغتي، كما أني حاولت أن أحدَّ من عدد قُرَّائه. مُحاولة التعريف ونشر الوعي من خلال خبرة ذاتيّة، مُحاولة عمل تاريخ شخصي أفهم من خلاله كيف وصلت إلى تلك النقطة، وكيف أعيد انطلاقًا منها اختراع الحياة، وما يرتبط بهذا التاريخ من أبعاد جغرافيّة، تستدعي بالضرورة ما هو اجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ وعُمراني، هي ما جعلني أقرِّر أن أُخرج النص في شكل شهادة شخصيّة. أضفت إلى الشهادة مقال ‘الوجه الآخر لفرانز كافكا’ – المنشور على موقع ‘كتب مملة’ في إبريل 2019- لأنه يُكمِل فكرة التعايش بالكتابة، رغم المَرَض والتعاسة، أو ضد المَرَض والتعاسة، بالحديث عن كاتبي المفضل، الذي أتماس معه إنسانيًّا وروحيًّا بشكل كبير، بالذات فيما يخص بحثه البائس، لكن المستمر، عن خلاص ما.

حاولتُ أن أفهم الحدثين من خلال مفهوم الكارثة: الأول كارثة لحظيّة، قاطعة، تشمل كل شيء – انتظارها والخوف منها كان طويلًا. وكارثة متطاولة، ممتدة، تقع في كل لحظة، حتى في غيابها. والنتيجة هي ما قاله موريس بلانشو في ‘كتابة الكارثة’: حياة هاربة من نفسها وملتبسة بكارثة وقت دون حاضر نحتمله بالانتظار”. فتأثير الأجورافوبيا ببساطة هو حياة غير مُعاشة، بل حياة انتظار. “وحين نكون صابرين، يخص الأمر دائمًا بلاءً لا نهائيًّا لا يصلنا في الحاضر.” كما يقول بلانشو في نفس الكتاب. ولذلك فإن الخلاص، في نهاية الأمر، بالنسبة إليَّ، يكمن فيما أسميه ‘الانتظار الفعّال’، أي الذي يُحاول، بلا أمل حقيقي، لكن دون يأس، أن يحلَّ اللغز الذي تمثله الكارثة.

ما يجمع بين الكارثتين هو الجنون. كان عندي أكثر من سبب لأظن فترة من حياتي أني شخص مجنون. كانت مهمتي وقتها هي إخفاء جنوني، وكتكوين عكسي أصبحتُ شخصًا عقلانيًّا. كرهتُ الجنون واعتبرته خصمي فترة طويلة، وأخذني صراعي ومقاومتي له في رحلة شكلتني إلى ما أنا عليه.

مع الوقت عرفتُ أن أفرِّق بين جنوني، الذي تقنَّن وتحدَّد مع خوف كامن من انفجاره لأي سبب، وبين الرُّهاب العُصابي الذي يرتبط به، لكنه مع ذلك ليس هو، كما أثبتت لي التجربة الدوائية. توقعت أن حدث وفاة ماما (أو بابا) سيكون أحد الأسباب التي يمكن أن تنزع فتيل هذا الخطر الحاسم. في أحد مداخل اليوميات أجدني أتحدث عن هذا بالفعل. هذا كله جعل الجنون نوعًا من المصيبة له طابع خاص: مصيبة وقعت منذ البداية (كنوبات فزع رهيبة وغير مفهومة، متكررة ومستمرة بمصاحبة وأفكار ومخاوف لا منطقية ملحّة وقهريّة)، وتكمن في الظِّل كاستشراف طويل لوقوعها، أي “انتظار مصيبة ليست ستأتي لاحقًا، بل كانت دومًا بالفعل قد أتت علينا، ولا يمكن أن تكون حاضرة.” (بلانشو).

 

ما هو، إذًا، هذا الانتظار الفعّال؟ ما أقصده بالانتظار الفعّال هو تأهيل الذات بأقصى ما يمكن لتحسين شروط التفاوض مع الكارثة. اللعب مع اللغز الذي لا يُحل كأنه رحلة ستحل نفسها بنفسها. أفضل ما يعبر عن الانتظار الفعَّال هو ما يقوله أدورنو، متحدثًا في سياق حياته المُحطمة، بأنه “ليس من علاجٍ إلا التشخيص الثابت للذات والآخرين، المحاولة، عبر الوعي، إن لم يكن الهروب من البلاء، على الأقل سلبه عُنفه المروِّع، الذي يخص العَمَى.” فإذا كان لا يوجد منفذ للخروج من بلاء الكارثة، فالتفكير والتحليل أو ‘التشخيص الثابت’ بتعبير أدورنو، هو ما يسحب الرعب الغَفل الذي يصاحبها، ويمكن أن يجعل الواحد في موقف تفاوض أفضل، حتى لو كانت تفاوض خاسر بشكل مُسبق. فالعمى، العمى الذي يغشى العقل، الجنون بلفظ آخر، يُعتبر قلب عنف الكارثة الخاص والمروِّع. عُنف مُهين ومُمزِّع للكرامة الإنسانية التي تنعكس في الإرادة الحرة وقدرتها على أخذ أفعال مؤكِّدة ومُنمية للحياة.

تناقض رؤيتي للجنون هذه، رؤية أخرى شائعة حاليًّا، تنبع من حركات الافتخار بالجنون والمرض العقلي، تنظر إليهما بطريقة رومانسية أو مُبدِعة فنيًّا في ذاتها، رغم عدم وجود دليل واضح على ذلك، كميراث ما بعد حداثي مُشعْبَن للفكر الرومانسي والقراءات السطحية لنيتشه وغيره من الكتّاب، مع تأثيرات كتابات حركة ضد-الطب نفسيّة في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي يقول حتى أحد أعلامها الفرنسيين، ميشيل فوكو، في خاتمة كتابه ‘الجنون والحضارة’ -الذي لا أتفق مع أطروحته الرئيسيّة رغم ألمعية بعض المواضع الانعكاسيّة فيه- إن الجنون هو القطيعة الكاملة مع العمل الفني، وإنه يشكِّل اللحظة التأسيسيّة للإبطال، التي تذيب في الزمن حقيقة العمل الفني، ويرسم الحافة الخارجيّة، خط الانحلال، الكونتور المواجه للفراغ، بحسب كلماته.

لا تكمن القيمة في رأيي، كما يشار بشكل ضمني أو صريح في تلك الرؤية الشائعة، بمختلف تنويعاتها، في الحضور المحض للمَرَض العقلي أو الجنون، أو كل ما هو يمثِّل السلبيّة بشكل عام (ننزع دائمًا بشكل تلقائي إلى جعل الضحايا أبطالًا، بالأخص الضحايا الذين لهم سمات تراجيديّة كالمرضى العقليين و‘المجانين’) بل ماذا تفعل الذات في مواجهة هذا السلب، أو الفراغ من المعنى؛ ‘العمى’. ولا بد لذلك أن تحافظ المحنة/المصيبة/الكارثة على سلبيتها الراديكاليّة، كي يتم تشكيل محتوى إيجابي منها. فالذات نفسها تتشكل بحسب تفاعلها مع السلب المؤسِّس لوجودها، وبما تفعله، عبر عملها، تصبح هي (هذا ما سعى هيجل وشيلينج فلسفيًّا للتوكيد عليه بطرقهما المختلفة). إلغاء السلب وملء الهوَّة المؤسِّسة، لا يعني الحضور الكلي للإيجابي، بل بالعكس، إنه إلغاء لمعناه ووجوده ذاته، ممّا يفقد القيمة قيمتها. وهذا تحديدًا ما يُبعد تلك الرؤية عن شبح المازوخيّة: إن القيمة تأتي مما يفعله الإنسان لا من الكارثة نفسها.

يمكن للكارثة بالطبع أن تدمر الإنسان تمامًا، حتى على الرغم من إرادته ومحاولاته، أو كما قال فريدريك كارل مؤرخ سيرة كافكا في معنى ما هو كافكاوي، “إنك تناضل ضد التاريخ، والتاريخ يدمرك”، ما يعتمد على ظروفه، مصادفاته التي تكلم عنها فرويد: غياب أو حضور ‘العناية الإلهيّة’ –‘المعجزة’ بالتعبير الديني.

هل هذا يعني أن المحتوى الإيجابي، النشاط الذي تقوم به الذات لرأب الصَّدع أو إدماجه في منظومتها، لا يوجد به سلبيّة؟ يعرِّف الفيلسوف الألماني شيلينج ‘الفهم’ بأنه “جنون منظَّم”، ويضيف أن الرجال الذين ليس لديهم جنون داخلهم، فهمهم فارغ وعقيم. هذا الجنون المنظَّم هو ما يقصده بلانشو حين يعلق على أنه “حين يسمح كافكا لصديق أن يفهم أنه يكتب لأنه بغير ذلك سوف يجن، فإنه يعرف بالفعل أن الكتابة هي جنون، جنونه، نوع من اليقظة، غير متصلة بأي صحو إلا النوم: الأرق.” هذا الصحو، هذا الذي يتشكل في قلب السلبيّة -النوم، هو الأرق الذي يمثّل الفهم. هذا الفهم هو جنونٌ خاص. جنون منظَّم يقظ، مُشكَّلًا في الكتابة، ينتزع الذات ويحميها من الجنون المُظلِم الذي يغشي العقل بعماه المروِّع.

يُتضح من هذا أن هناك نوعين من الجنون، وليس مجرد ‘جنون ضد عقلانيّة’، نوعين متضادين من الجنون. “الجنون ضد الجنون، إذن.” يكمل بلانشو، ويوضِّح الفرق بين النوعين: “لكنه يؤمن بأنه يتسيَّد على الأول بالتخلي عن نفسه له؛ الآخر يخيفه، وهو خوفه؛ إنه يمزقه، يجرحه ويثيره.” التسيّد هنا هو شرط الجنون الإيجابي، والذي يستوفيه، بصورة جدليّة، التخلي والاستسلام له. خروج عن الذات إلى الذات، عبر الاستسلام للجنون الذي في الكتابة. وهو ما يُطلق نوعًا من العقلانيّة النقديّة والجماليّة، أكثر توسعًا وعمقًا من العقلانيّة الفارغة التي تضع نفسها في مقابل الجنون بشكل شامل، مثلما أوضح شيلينج. أنقذ كافكا نفسه من ‘خوفه’ الدائم من الجنون عبر الاستسلام لجنون آخر منظَّم: الأدب. خوفه كان من النوع الثاني، الجنون السالب للعقل وللإرادة الحرّة، فهو مخيف ومروِّع، يمزق الذات ويجرحها ويثيرها.

هذا ما أشار إليه المُحلل النفسي جاك لاكان في المجلد الثالث والعشرين من محاضراته عن العَرَض ‘Le Sinthome التي يتعرض فيها لكتابات الكاتب جيمس جويس. فلاكان يرى العَرض هو الحلقة التي تتموقع خارج المعنى وتربط بين أبعاد الرمزيّ، والخياليّ، والواقعيّ المهدَّدة بالتفكك داخل العقدة البورومينيّة التي تمثِّل الذات، وأن جويس استطاع تفادي الجنون بتشكيل فنّه وكتاباته ليكونا تلك الحلقة الرابطة العبثيّة والذهانيّة الخاصة به. فهو يتساءل أكثر من مرّة إذا كان جويس مجنونًا، ويؤكد أن ما كان يحاول عمله هو أن يعطي لنفسه اسمًا−ذاتًا متماسكة.

هناك مقولة شهيرة لسلفادور دالي توضح ما يعنيه ذلك: “الفرق الوحيد بيني وبين المجنون أني لستُ مجنونًا”. ولكن توماس برنهارد في ‘صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين’ أكثر دقة في وصف الفرق بينه وبين صديقه في المصحة العقلية المجاورة لمشفاه: “الفارق الوحيد بيننا أن باول ترك الجنون يُحكم قبضته عليه إحكامًا كاملًا، بينما لم أسمح قطّ، لجنوني -العظيم كجنونه- أن يتحكم فيَّ تحكّمًا كاملًا؛ لقد التهمه جنونه، في حين أني استغللت جنوني طوال عمري، وتحكّمت فيه”. الفرق إذًا، وبوضوح، هو التسيُّد والتحكُّم والتوجيه.

كيف يمكن للكتابة أن تكون منقذًا من الجنون وهي نفسها جنون منظّم؟ يقول المصوِّر الإيطالي أنطوان دي آجاتا في مقابلة معه أن فنّ التصوير بالنسبة إليه هو طريقة لمواجهة العالم، أن يكون جزءًا منه، وأن يأخذ مكانًا فيه، العالم الأقوى والأكثر جنونًا منه بكثير. يعني هنا آجاتا أنه باستخدام فن التصوير يُدخل نفسه إلى نظام الأشياء العام، في حركة نحو الخارج تتخلى عن الجنون، الذي هو لحظة الذاتية الخالصة؛ بلفظ آخر، الوضع الذُهاني.

بالنظر إلى فعل الكتابة نفسه والإبداع بشكل عام، يمكن رؤيته كفعل اشتباك مع/في العالم. ذلك يتطلب، تلقائيًّا، نوعًا من الغيريّة كي يتشكّل ويكتمل. بالنسبة إليَّ، استمرت الكتابة في أن تكون الرابط الأساسي بيني وبين الآخرين ممثلين في المجتمع، بصفتي أنتمي إلى جيل تعرَّض لاغتراب وانفصال عنه في بداية وعيه بالحياة بسبب فساده وانحطاطه، وفي مرحلة تالية لفشل طموحاته الاجتماعية-السياسيّة. هذا الرابط هو ما جعلني أحافظ على اهتمامي بما هو أوسع مني، أي بالمشكلات والأزمات التي يعيشها المجتمع والتي تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على كيفية حياة الأفراد داخله.

هذه الغيريّة لا تعني فقط الكتابة من أجل الآخر، أي من أجل محاولة فهم الحياة المشتركة وقول شيء ما عنها، لكن أيضًا وضع الذات مكان الآخر في حوار يعيد صياغة الأمور الأساسية. وهو ما يستدعي تواضعًا حقيقيًّا، وخروجًا عن الذات، لأن فهم المشترك يتطلب تواجد طرفين على قدم المساواة. وبهذا يتم تحدى فرضيّة مركزية، والتي أسميها ‘الفرضيّة الشِّعريّة’، في كتاباتنا الأدبيّة وغير الأدبيّة، وهي أن ‘العاطفة مركز الحقيقة’؛ يندفع ‘الشاعر’ بسُلطة المشاعر بإقامة حُجَج الحقيقة، يَفهم بها ما حوله ويحاكمه في نفس الوقت، يُشهِر أمام وجوه الجميع ألمه وخسارته الشخصيين ويقيم بهما أساس شرعيته وسُلطته. وهو ما تمنعه الغيريّة بوضع الذات مكان الآخرين ومحاولة رؤية الأشياء من منظور أوسع من منظور الذات الضيق. وبذلك، في نهاية المطاف، تنقذ الكتابة بالفعل من جنون الذات ونرجسيتها.

لكن الجنون موجود أيضًا في العالم، العالم الأقوى والأكثر جنونًا بكثير. ‘جنون موضوعي’ لو نقدر أن نسميه كذلك. وهو ما يعيد نفي الإنسان، كشر مطلق، إلى نفسه. يمكن بالطبع أن تتضمن الكتابة مساحة شخصية تنأى عن جنون العالم، و“للرجل الذي لم يعد له وطن، تصبح الكتابة مكانًا للعيش”، كما يقول أدورنو. لمن يختار الكتابة كمهنة أو طريقة حياة، يكون الأمر أشبه بمن ينجب أطفالًا وفي رأسه إشباعات ومكاسب معينة، ومع الوقت يكتشف أن الموضوع بالأساس هو تضحية لشيء خارجه وأوسع منه. حساب الأمر بلغة المكاسب الشخصية سيبدو كخسارة أكيدة، ما يعني أن الكتابة الجديّة، الكتابة التي تستحق أن يتم تناولها من قِبَل الآخرين، تستدعي أخلاقيات تنفي الأداتيّة التي تعود بمنفعة مباشرة على الذات، لأنها ستفقد معناها بذلك. يختتم أدورنو فقرة جملته السابقة هكذا: “المطالبة بأن يتماسك الواحد ضد الشفقة على الذات [أي التمركز حولها] تتضمن الضرورة التقنية بالتصدي لأي تراخٍ للتوتر الفكري بأقصى تنبه، وحذف أي شيء يغطي العمل أو يسرح دون غاية، الذي ربما في مرحلة مبكرة ساعد، كنميمة، على توليد مناخ دافئ يفضي إلى النمو، لكن الآن خُلِّف للوراء، مسطحًا وباليًا. في النهاية، لا يُسمَح حتى للكاتب أن يعيش في كتابته”.

ما العلاقة بين الجنون كسلب محض، والجنون المنظّم، والجنون الموضوعي؟ يمكن القول في نهاية الأمر إن الكتابة ليست أداة للنجاة، بل هي أداة أو إستراتيجية للا-نجاة؛ يتم عبرها احتمال اللا-نجاة، احتمال إغفال الأمل. الكتابة إذن هي وسيط اللا-نجاة / اللا-تجاوز/ اللا-أمل في علاقتها بالكارثة؛ أكتب كي أعيش الكارثة، لا أن أتجاوزها. ويمكن عبر معايشة الكارثة بهذه الطريقة أن نكون أخلاقيين؛ تحدث بريتون في مانيفستو السورياليّة الأول عن أن “إمكان خطأ العقل، هو احتمالية الخير. وهناك يبقى الجنون: ‘الجنون الذي يحبسه الواحد’”. هذا الجنون، السلب المحض، يدفعنا دفعًا إلى مساءلة رؤيتنا الشاملة للعالم، لمساءلة أفكارنا ومعتقداتنا وقيمنا وإحساسنا بذاتنا وهويتنا، يحثّنا على توسيع رقعتنا وخلخلة حدودنا التي نسكن فيها وننظر من خلالها إلى العالم. هذا العنف المروّع، الحُزن الرهيب، المصيبة التي كانت دومًا بالفعل قد أتت علينا، كارثة الوقت الذي بدون حاضر، تعصمنا من الانجراف في جنون العالم، الشر المحض، عبر الاحتماء بجنون مقنَّن ومنظّم، جماليًّا وفكريًّا، بحبسه داخل الواحد والسيطرة عليه وتوجيهه كاحتماليّة خير؛ وقتها يمكن التحدُّث عن خلاص هو انتظار فعّال.

يسترجع أدورنو في المقطع المعنوّن ‘نكوصات’ أغنية أطفال عن أرنبين يلهوان في العشب ضرب الصياد عليهما النار، وحين أدركا أنهما لا زالا حيانِ، هربا بسرعة. يستخلص أدورنو من الأغنية عِبرة أن الصواب يمكن فقط أن يدام في حالة اليأس والخطر العظيم؛ “يحتاج العبث، كي لا يسقط ضحية للجنون الموضوعي.” ويشير إلى أن الانفتاح غير المقيد للتجربة يؤدي إلى هجر الذات الذي يعيد فيه المهزوم اكتشاف نفسه. لكن يرجع ويشير إلى أن “العالم معتل بعمق، والذي يكيّف نفسه باحتراس عليه أن يشارك بذلك الفعل نفسه في جنونه؛ وحده الشخص غريب الأطوار يمكن أن يثبت مكانه ويطالبه أن يكف عن هذيانه. هو فقط يقدر أن يقف ليفكر في ‘وهمية الكارثة’ و‘لا واقعية اليأس’ ـ ويدرك ليس فقط أنه لا زال حيًّا، بل إنه لا زال هناك حياة”.

نوفمبر، 2020

………………………..

*مقدمة كتاب “33 عن الفقد والرهاب”، دار المرايا، 2021

مقالات من نفس القسم