الكائنات المُعَولَمة في حلق صيني لا ترتديه ماجي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جهاد الرنتيسي

تجتهد الروائية والقاصة ضحى عاصي في إعادة الظواهر إلى أسبابها، بحثا عن أسرار التحولات التي أدت إلى أزمات إنسان القرن والمنعطفات التي تواجهه بين الحين والآخر، دون إغفال انعكاساتها على التفاصيل اليومية لحياة البشر.

قد تكون قصتها “ترويكا” الأكثر تعبيرا عن روح مجموعتها الاخيرة “حلق صيني لا ترتديه ماجي” التي صدرت مؤخرا عن دار دوّن، وتتوزع أحداثها على مناطق مختلفة من شرق وغرب العالم.

تدور أحداث القصة في موسكو مع بداية تسعينيات القرن الماضي، التي شهدت انهيار الاتحاد السوفيتي، لتفسح المجال أمام فقدان حالة التوازن النسبي، التي استمرت خلال ما عرف بسنوات الحرب الباردة. 

تربط القصة بين افتتاح مطعم “مكدونالدز” الذي كان واحدا من مظاهر الانفتاح والتفكيك التي عرفت في حينها بـ “البروسترويكا” والحرب الأوكرانية التي جاءت بعد عقود، من خلال ملابسات انتحار الأوكراني “ستنسلاف” بإلقاء نفسه من شرفة منزل “ايلينا” تاركا قصاصة ورق كتب عليها مصطلح ترويكا.

ترصد قصة “حلق صيني لا ترتديه ماجي” التي تحمل اسمها المجموعة التحولات من زاوية أخرى، حيث يتنقل الحلق المصنوع في الصين في أكثر من مكان، عبر حركة التجارة العالمية، ليعود إلى الصينية “ماجي” التي يتضح أنها لم تخرم أذنها لارتداء حلق بعد.

تكتمل ملامح الخراب التي ترصدها قصص المجموعة مع ظاهرة ما بات يعرف بالعولمة، التي جاءت إفرازا للانهيارات والتموضعات الدولية التي أعقبت انهيار المنظومة الاشتراكية، واختلال النظام العالمي مع خضوعه لهيمنة نظام القطب الواحد.

تطل العولمة برأسها في قصة “منظمو الحفل” التي تدور حول ما صادفته الساردة خلال زيارة إلى عاصمة اوروبية لحضور أحد المؤتمرات التي تقام هناك بين الحين والاخر، حيث وجدت نفسها أمام الجار المختلف، القادم للمشاركة في ذات المؤتمر، والذي تحمل ملامحه والحوار المقتضب الذي دار معه في المطار ايحاءات واضحة بأن المعني كان قادما من الكيان الصهيوني.

للعولمة دلالاتها غير الخافية في القصة، يتم التقاط هذه الدلالات من منظور مختلف، له حساسيته العربية، البعيدة بعض الشيء عن محاولة التعويم التي ظهرت في قصتي “ترويكا” و”حلق صيني لا ترتديه ماجي” فهي مرتبطة بالتطبيع مع الكيان الذي تحرص الشخصية على تجنب الوقوع في حبائله، ولا تخلو من الشعور بالدونية تجاه الآخر ممثلا بالأوروبي، علاوة على الحرمان من متعة مشاهدة الاختلافات.

تتشظى تفاصيل العولمة التي أفرزتها التحولات والانهيارات، لتتجاوز المشاهدات النخبوية البعيدة بعض الشيء عن الحياة اليومية للمواطن العربي، وتجد حضورها بشكل أو بآخر في القصص الأخرى التي تضمنتها المجموعة.

بين هذه المظاهر الاستعداد المضمر للتعايش مع السذاجة، التماهي مع التسطيح المبرمج للمفاهيم، والاستخفاف بالوعي، ظهرت هذه الاختلالات في شخصية قصة “مقامرة الأسئلة الخمسة” حيث تجيب الخمسينية على أسئلة المسابقة دون اكتراث بتفاهتها للحصول على الهاتف الخلوي و”ظلت لعدة أشهر تجري مسرعة للرد على أي رقم غريب بلهفة في انتظار مكالمة الفوز بالآيفون” في دلالة على تلاشي الوعي المتراكم على مدى خمسة عقود.

يتسلل الوهم إلى العلاقة مع الجسد في قصة “المارد” حيث تجد شخصية القصة جسدها الذي تتوق إليه في كتلة ظلها “لا أرى تجاعيد وجهي، ولا شيب شعري، أراني شابا مشدودا كأنني فتى العشرين” وتظهر قصة “سرقة غير ممكنة” الحاجة إلى صدمة ما لاستعادة الإحساس والملامح المفقودة في عمليات التجميل، من خلال الإشارة إلى شق الدموع “طرقها في الوجه” لترسم من جديد بعض الخطوط التعبيرية المفقودة.

يحتفي زمن العولمة وافرازاته المنظورة واللامنظورة بالتزييف، ففي وصفها لقدرات الصحفي المتحذلق تشير الكاتبة في قصة “قلم مميز” إلى أنه “مع تركيز الكاميرا وبعض الكلمات المختصرة من قلمه المميز سترى الشبق في وجهها أو ستتخيله” وفي قصة “ليلة رقصت فيها الأرض” أخذ المحامي مكواة ملابسه عند هروبه من الزلزال، أدرك ذلك عندما هدأ، وتصدر بعد سنوات شاشات التلفاز وبرامج التوك شو، مما يعني أن المساهمة في “كي الوعي” كانت رغبة دفينة في شخصيته، وجدت مكتشفها وموجهها في ثورة الاتصالات، وليست مفتعلة.

تشيؤ الإنسان سمة أخرى من سمات العولمة كما يظهر في قصة “خناقة أسرية” التي تدور حول لغة للحوار بين الأجهزة الكهربائية في البيت، وردت على لسان الشخصية المحورية في القصة عبارة “لأنني الوحيد الذي تعاطف مع الأجهزة لا أعرف كيف جاءتني الفكرة أن انخرط في حديثهم، ربما أتحول أيضا إلى جهاز حتى يسمحوا لي بالحديث معهم” وبذلك تخرج الأمور عن سياق أنسنة الآلة إلى مكننة البشر.

تطال الظاهرة أيضا علاقة الإنسان بزمنه كما جاء في قصة “معطف رث في مقهى اكسليسيور” حيث تستغرب إحدى الشخصيات ارتداء شخصية أخرى “التاريخ الذي لا تنتمي إليه” مما يجعلها تبدو وكأنها قطعة أثرية خارجة من المتحف، ويأتي الرد على لسان الأخرى بأنها تدرك جيدا أن المعطف لا يناسبها وأنه رث وأن الجو في الخارج مشمس ولكنها تشعر فيه بالدفء من صقيع لا يشعر به غيرها.

المستقبل مرعب في الزمن العولمي، كما جاء في قصة “بوليصة التأمين” التي وقعها المهندس أحمد القادم من الخليج لتعليم اولاده، فهو يخشى البقاء على الحياة الذي يحرم أولاده الاستفادة من البوليصة، فيما تناقش قصة “تسعة أيام في مقاومة الحنين” إمكانية التعامل مع شعور الحنين باعتباره فائضا عن الحاجة، هناك وصفات للتحكم به، وربما الاستغناء عنه.

وكان لافتا للنظر في قصتي “بوليصة تأمين” و”المشرط” بعض التحول في مشكلات العاملين في الخليج، التي تطفو على سطح الكتابة، فالمشكلة التي واجهها المهندس أحمد في القصة الأولى لم تكن موجودة أو معروفة في عقود سابقة، فيما يخشى الأب أن يقال عنه “آدي آخرة اللي بيسيبوا عيالهم ويجروا ورا الفلوس” في القصة الثانية.

للمكان غربته أيضا في زمن العولمة، تجد الساردة ملامح هذه الغربة في نمط حياة سكان مدينة الشيخ زايد، الذين اعتبروا الإجراءات الأمنية المبالغ فيها أمانا، في الوقت الذي تراه الساردة قمة الخوف، الذي يأخذ في القصة شكل تغريب المكان.

تحفر قصة “وطن بديل” في تغريب المكان، من زاوية اخرى، حيث يغامر شخوص القصة لاستبداله بمكان آخر رغم الكلفة العالية للمغامرة، ويتحول الانسلاخ عن الوطن الأم إلى رغبة إذا قوبل بشروط حياة أفضل، تتناول القاصة في قصتها الذين سافروا بتأشيرات سياحية بناء على وعد بتوفير فرص عمل بمرتبات مجزية ـ تليق بالذين لا يخافون الحروب ـ والحصول على جنسية إن عادوا من الجبهة أحياء، في إشارة واضحة إلى الذين التحقوا بالحرب الأوكرانية، أملا في مزايا بينها التجنيس.

يعاني كائن العولمة في مجموعة “حلق صيني لا ترتديه ماجي” من حالة اغتراب عن الذات والمكان والزمان ـ علاوة على غربته عن الآخر المفترض ـ أقرب إلى التشيؤ والاستلاب، المصاحب لصدمة انهيار الجدران التي كانت تتيح الاحتفاظ بخصوصية ما، وذوبان ملامح تميز ذلك الكائن عن الآخرين.

 

 

 

مقالات من نفس القسم