سارة مرشوح
لطالما كانت أعمال يواكيم ترير، التي يشارك في صياغتها العبقرية إسكيل فوغت، بمثابة أغاني الروك الهادئة لجيل كامل عالق بين ضباب القلق ووهج البحث عن الذات. لكن في فيلمه الأخير sentimental value، نجد أنفسنا أمام شيء أكثر ثقلاً وحميمية: أمام جرعة نقية من الذاكرة العائلية السامة والجميلة معاً.
إن العبارة الخالدة للفيلسوف فريدريش نيتشه: “لدينا الفن لتجنب الموت بسبب الحقيقة”، لا تبدو في سياق الفيلم مجرد مقولة فلسفية، بل هي الخيط السردي غير المرئي الذي يربط بين شخصياته المنكسرة. هذا الفيلم، بكل ما فيه من برودة نرويجية خارجية ودفء داخلي ملتهب، هو التجسيد السينمائي لـميكانيكية الهروب النيتشويه هذه.
بالنسبة للمخرج الأب، الفن ليس مهنة، بل هو جهاز تنفس اصطناعي. هو يدرك أن الحقيقة القاسية لعائلته المتصدعة—حقيقة فشله كأب، حقيقة التباعد، وحقيقة الموت القادم—ستكون قاتلة إن واجهها مباشرة. لذلك، يلجأ إلى إنتاج فيلم عن هذه الحقيقة بالذات. هنا، يتحول الفن إلى قناع ميتافيزيقي: إنتاج الفيلم هو محاولة أخيرة ليصنع من الحقيقة المدمرة شيئاً جميلاً يمكن العيش معه، أو بالأحرى، شيئاً يمكن الهروب خلفه وتجنب مواجهة المشاعر العارية التي يحملها أفراد عائلته.
أما نورا، التي تمثل الجيل التالي، فصراعها أكثر تعقيداً. هي لم تختر الفن كدرع، بل ورثته كحمل ثقيل. حقيقتها هي أنها جزء من هذا الإرث السام الذي حول علاقاتهم إلى مادة خام. إن أداء رينسف يجسد محاولتها اليائسة للبحث عن حقيقة خارج الفن، حقيقة بسيطة غير درامية وغير قابلة للتحويل إلى مشهد سينمائي. لكنها تكتشف أن الهروب مستحيل؛ فـ”القيمة العاطفية” لعائلتها هي قيمة مشروطة بالفن الذي أبدعه والدها. كل محاولة للتخلص من هذا العبء الفني هي بمثابة “موت جزئي” لها. إنها تجسد الصراع الأنثوي الحديث: كيف نجد صوتنا الخاص ونحن محاطون بـصخب الموروث الأبوي؟
يوجد مشهدان في الفيلم أثرا بي بشدة وكسرا حاجز الشاشة ليطعنا الوجدان: الأول هو مشهد التدخين الهادئ مع والدها، حيث كانا يتواصلان بالعين ويبتسمان في صمت متواطئ. كانت تلك الابتسامة، ذلك التدخين المشترك، بمثابة هدنة كاذبة، لحظة نقاء معلقة خارج الزمن، تُنسيك سمّ العلاقة، وتُشعرك بأن الحب ما زال موجودًا تحت ركام الفشل. والمشهد الثاني الذي كان له وقع غريب على قلبي: مشهد الأختين حين ضمتها نورا بعد قراءة السيناريو. هنا، لا يوجد ضحك، بل صدمة عارية ومشتركة. ذلك العناق لم يكن عناق مواساة، بل احتضان للناجين من حطام العائلة. لقد تحولت الحياة التي عاشتاها إلى نص، ومشاعرها الحميمة إلى ملكية فنية عامة لوالدها. في تلك الضمة، انهار حاجز الفن ليُبقي على الحقيقة المؤلمة والوحيدة: أن الفن يمكن أن يكون مرآة جميلة، لكنه أيضا سكين حاد يشق الذاكرة ويجعل من أحبائك مواد خام لا قيمة عاطفية لها إلا في سياق الدراما.
ف Sentimental value ليس مجرد فيلم عن عائلة تفككت وتجتمع. إنه تأمل نقي في علاقة الفن بالحياة.
الفن كـ”آفة”: هل الفن الذي يبتلع حياة الفنانين ويحول ذويهم إلى مواد خام هو علاج أم مرض؟
الذاكرة كـ”مادة”: هل يمكننا تصفية التجارب العاطفية وتحويلها إلى سرد موضوعي، أم أن كل محاولة للتوثيق هي خيانة بسيطة للتعقيد الحميم؟
ما يفعله ترير ببراعة، هو أنه يضعنا نحن، المشاهدين، في موقع نيتشه. نحن نبحث في هذا الفيلم عن الفن الذي يسمح لنا بالتعايش مع حقائقنا العائلية الخاصة. نحن لا نشاهد فيلماً عن عائلة نرويجية، بل نشاهد بناءً فنياً مُتقناً عن الألم. هذا البناء هو ما يمنعنا من “الموت بسبب الحقيقة” التي نعرفها جيداً: حقيقة أن العائلة قد تكون مصدراً للجمال وللدمار في آن واحد.
وهنا يكمن سحر العنوان. خرجنا من الفيلم محاصرين بعنوانه، لأن Sentimental value لم يكن مجرد اسم، بل تحول إلى قيمة مستخلصة من مشاعرنا نحن المشاهدين. لقد نجح ترير وفوغت في تجاوز مجرد السرد العائلي ليقدما لما مرآة ذات بعدين. البعد الأول يعكس قصة شخصيات الفيلم وقيمتها الموروثة والمدمرة، أما البعد الثاني والأكثر إثارة، فهو ذلك الذي يفرض علينا إعادة تقييم ما نعتبره نحن “قيمة عاطفية” في حياتنا الخاصة. هل هي الماديات التي نتمسك بها، أم هي تلك الذكريات المسمومة والجميلة التي ورثناها؟ الفيلم لا يقدم إجابة، بل يجعلنا ندرك أن القيمة الحقيقية للأشياء في النهاية ليست في ما هي عليه، بل في ثمنها العاطفي الباهظ الذي ندفعه للحفاظ عليها أو التخلص منها.
في النهاية، يتركنا الفيلم مع استنتاج لاذع: القيمة الحقيقية لأي شيء، سواء كان لوحة، أو فيلماً، أو علاقة، لا تُقاس بقيمتها السوقية أو حتى الفنية، بل بـ “الوهج الخفي” الذي يتركه في أعماقنا، ذلك الوهج الذي لا يمكن للمنطق أن يفسره. إنه نقد للذات الفنية، ومرثية رائعة لجيل يحاول أن يجد “قيمته العاطفية” الخاصة، بعيداً عن ظل العظماء.
تقدم رينسف أداءً أشبه بـأقحوانة متفتحة في جليد الشتاء. إنها لا تمثل، بل تتنفس الغموض العاطفي. عيناها، تلك النوافذ الشفافة، تعكسان التوتر بين الولاء للأب المبدع والنزوع الفطري نحو فك الارتباط بهذا الإرث المثقل بالكمال والغرور الفني. أغرمت بها منذ اللحظة التي رأيتها فيها تتوهج ك “جولي” في فيلم the worst person in the word.





