القبر

موباسان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

غي دي موباسان

ترجمة نزار سرطاوي

في السابع عشر من تموز/ يوليو، عام ألفٍ وثمانمائةٍ وثلاثةٍ وثمانين، في الثانية والنصف صباحًا، استيقظ حارسُ مقبرةِ بيسيرز، الذي كان يعيش في كوخ صغير يقع على حافة حقل الموتى ذاك، على نباحِ كلبِه الذي كان حبيسًا في المطبخ.

نزل بسرعةٍ ورأى الحيوان يتشمَّم الشّق الذي في الباب وينبح بشراسةٍ كما لو أن مُتشردًا كان يتسلل حول المنزل. لذا أخذ الحارسُ فِنْسنتْ بندقيتَه وخرج.

سبقه كلبُهُ وانطلق يعدو من فوره باتجاه شارع جنرال بونيه، ثم توقف عند النُصب التذكاري لمدام تومواسو.

تقدم الحارس بحذر، وسرعان ما لمح ضوءًا خافتًا على جانب جادة مالينفار. تسلل بين القبور، وإذا به يواجه عملًا تدنيسيًا فظيعًا.

كان رجلٌ قد استخرج نعشَ امرأةٍ شابةٍّ دفنتْ في الليلة السابقة، وطفِقَ يسحبُ الجثةَ من النعش.

أضاء هذا المشهدَ البشعَ نورٌ ينبعث من فانوسٍ صغيرٍ داكنٍ فوق كومة من التراب.

وثبَ فينسنتْ على الرجلِ البائس وطرحَه أرضًا، وقيّدَ يديه واقتاده إلى مركز الشرطة.

كان الرجلُ محاميًا شابًا ثريًّا ومحترمًا في المدينة، واسمه كورباتيه.

أدخلوه إلى المحكمة. افتتح المدعي العامُ القضيةَ بالحديث عن الأعمال الوحشية للرقيب برتراند.**

اجتاحتْ قاعةَ المحكمةِ موجةٌ من السخط. وعندما جلس القاضي صرخ الحشدُ المتجمع هناك: “الموت! الموت!” وبصعوبةٍ بالغة تمكّنَ القاضي الذي يترأس الجلسة من أن يجعلَ الصمتَ يسودُ المحكمة .

ثم قال بوقار: “أيها المتهم، ما الذي لديك لتقوله في دفاعك؟”

نهض كورباتيه، الذي كان قد رفض تعيين محامٍ. كان رجلًا وسيمًا، فارعَ القامةِ، حنطيَّ البشرةِ، سَمْحَ الوجه، بالغَ الحيوية، تبدو في عينيه مخايلُ الشجاعة. 

لم يعبأ بالصفيرِ في الغرفة، وشرع في الحديثِ بصوتِ خفيضٍ ومكتومٍ في أول الأمر، لكن صوتَه غدا أكثر حَزْماً حين تابع حديثه.

“سيدي الرئيس، أيها السادة المحلفون: ليس لديّ الكثيرُ مما أقول. المرأةُ التي انتهكتُ قبرَها كانت حبيبتي. لقد أحببتُها. أحببتُها، لا حُبًّا حِسّيًّا ولا بقلبٍ وروحٍ رقيقَين فحسب، بل حبًّا مُطْلقًا كاملًا وشغفًا طاغيًا.

“أنصتوا إليّ:

“عندما قابلتها للمرة الأولى انتابني إحساسٌ غريب. لم يكن دهشةً ولا إعجابًا، ولا كان ذلك الذي يُطلَقُ عليه الحبُّ من النظرة الأولى، بل إحساسًا بالسعادةِ اللذيذة، كما لو أُلقيَ بي في حمّامٍ دافئ. أغرتني إيماءاتُها، وسحرني صوتُها، وكان مجردُ نظري إلى شخصها يبعث في نفسي سرورًا لا حدود له. خُيّل إليّ أنني رأيتها من قبلُ وأنني أعرفها منذ أمدٍ بعيد. كان في داخلها شيءٌ من روحي.

“بدت لي كأنها الاستجابةُ إلى صرخةٍ فاهت بها روحي – تلك الصرخةِ الغامضةِ الموصولة التي ننادي بها الأمل طوال حياتنا.

“حين عرفتُها أكثرَ، كان مجردُ التفكير في أنني سألتقيها مرةً أخرى يملأني بارتباكٍ رائعٍ وعميق. كانت ملامسةُ يدِها حين تضعُها في يدي أعظمَ بهجةً عندي من أي شيءٍ يخطر ببالي. ملأتني ابتسامتُها بفرحٍ مجنون ورغبةٍ في أن أعدو وأرقص وألقي بنفسي على الأرض.

“وهكذا غدونا عاشِقيْن.  نعم، بل أكثر ذلك: كانت هي حياتي ذاتُها. لم أبحث عن أي شيءٍ آخرَ على وجه الأرض، ولم تكن لديّ أيةُ رغبات أخرى. لم أكن أتوقُ إلى أي شيءٍ آخر.

“ذاتَ مساءٍ حين ذهبنا في نزهةٍ طويلةٍ بعضَ الشيء لنتمشّى على ضفةِ النهرِ، داهَمَنا المطرُ وأصابها البردُ. ثمّ تطور في اليوم التالي إلى التهابٍ رئويٍّ، وبعد أسبوعٍ ماتت.

“خلالَ ساعاتِ معاناتِها، حال الذهولُ والفزعُ بيني وبين الفهم والتفكُّرِ في الأمر. لكن حين ماتت، استولى عليّ اليأسُ حتى لم يبقَ لديَّ ما أفكّر فيه، فبكيت.

“أثناء إجراءاتِ الدفنِ المريعةِ كان حزني الشديدُ والجامحُ أقربَ إلى الجنون، كان حزنًا حِسّيًّا جسديًّا.

“ثم لمّا مضَتْ، لمَا صارت تحت التراب، استيقظ عقلي مرّةً أخرى، ومررتُ بسلسلة من حالات المعاناة الأخلاقية التي كانت مريعةً إلى درجة أن الحبَّ الذي مَنحَتْنيهُ كان غاليًا بهذا الثمن.

“ثم خطرت ببالي الفكرة الأكيدة، وهي أني لن أراها مرةً أخرى.

“عندما تسيطر هذه الفكرةُ على المرء يومًا كاملًا، ينتابه الشعور بأنه قد مسّه الجنون. فكِّرْ في الأمر! هناك امرأة تعشقُها، امرأةٌ فريدة، لأنه في الكون كلّه ليس ثمّةَ امرأةٌ أخرى مثلها. فهذه المرأةُ منحتك نفسَها وكوّنتْ معك تلك الوحدةَ الغامضةَ التي تُسمّى الحب. تبدو لك عينُها أعظمَ اتساعًا من الفضاء، أشدَّ جمالًا من العالم – تلك العينُ الصافيةُ تبتسم برقّتها. هذه المرأة تحبُّك. حين تتحدثُ إليك يفيضُ صوتُها بالفرح.

“وفجأة تختفي! فكّرْ في الأمر! إنها تختفي، ليس فقط بالنسبةِ لك، ولكن إلى الأبد. إنها ميتة. هل تفهم ما يعنيه ذلك؟ لن تكون موجودة أبدًا، أبدًا، أبدًا، ولا في أي مكانٍ آخر. لن تنظرَ تلك العينُ إلى أي شيءٍ مرةً أخرى، ولن ينطقَ هذا الصوتُ، ولا أي صوتٌ يشبهُهُ، بأيةِ كلمةٍ بالطريقةِ نفسِها التي كانت تنطقُ بها.

“لن يُولدَ أبدًا وجهٌ يشبهُ وجهَها. أبدًا، أبدًا! نماذجُ التماثيلِ تُحفظ، والقوالبُ تحفظ ليتمكن المرء من صنعِ أجسامٍ بالخطوط والأشكال عينِها. أما ذلك الجسدُ وتلك العينُ فلن يُبْعثا من جديد على الأرض. وعلى الرغم من ذلك سيولد الملايين والملايين من المخلوقات، وأكثر من ذلك، أما هذه المرأة الفريدة فلن تظهر مرةً أخرى بين النساء جميعًا في المستقبل. هل هذا ممكن؟ إن التفكير في هذا الأمر يدفعُ بالمرء إلى الجنون.

“لقد عاشتْ عشرين عامًا لا أكثر، واختفت إلى الأبد، إلى الأبد، إلى الأبد! كانت تفكر بي وتبتسم لي وتحبني. والآن لا شيء! الذباب الذي يموت في الخريف هو مثلُنا في هذا العالم. والآن لا شيء! وخطر ببالي أن جسدَها، جسدَها الطازج، بكل ما فيه من دفءٍ وحلاوةٍ وبياضٍ وجمالٍ سيتعفنُ هناك في ذلك الصندوق تحت الأرض. وروحُها وفكرُها وحبُّها – أين كل ذلك؟

“فكرةُ أنّني لن أراها مرةً أخرى – فكرةُ أنّ هذا الجسدَ المُتَحلّلَ الذي يمكنني أن أعرفه الآن سكنَتْني. أردتُ أن أنظرَ إليها مرةً أخرى.

“خرجت أحملُ مجرفةً وفانوسًا ومطرقةً ؛ قفزتُ فوق جدارِ المقبرة وعثرتُ على القبر، الذي لم يكن مُغلقًا بإحكامٍ بعد. فتحتُ التابوتَ ورفعتُ لوحًا. رائحةٌ كريهة – رائحةُ التعفّنِ النَتِنَةُ استقبلتْ أنفي. أواه، كان سريرها معطّرًا بالسوسن!

“ومع ذلك، فتحتُ التابوتَ، ورأيتها، وأنا أمسك بالفانوس المُضاء وأدخله فيه. كان وجهها أزرقَ، منتفخًا، مخيفًا، وقد خرج مِن فيها سائلٌ أسود.

“هي! نعم إنها هي! استولى عليّ الرعبُ. لكنني مددتُ ذراعي لأديرَ هذا الوجهَ الوحشيَّ نحوي. ثم قُبِض علَيّ.

“طوالَ الليلِ بقيتُ محتفظًا بالرائحةِ الكريهةِ لهذا الجسدِ المُنتِن، رائحةِ حبيبتي، كما يحتفظُ المرءُ بعطرِ امرأةٍ بعد عناقِ الحب.

“افعلوا بي ما شئتم”.

بدا أن الصمتَ الغريبَ يهيمنُ على الغرفة. بدا أنهم ينتظرون شيئًا أكثر. انسحبَتْ هيئةُ المحلفين للتداول.

عندما عادوا بعد بضعِ دقائقَ، لم يُبدِ المتهمُ أيَّ خوفٍ ولم يَبدُ عليه أبدًا أنه كان يفكر في شيء.

صرّحَ الرئيسُ مع اتبّاع الإجراءات المعتادة أن القضاةَ أعلنوا أنه غيرُ مذنب.

لم يتحركْ من مكانه وضجت القاعة بالتصفيق.

—————————–

الهوامش:

* نُشرتْ قصة القبر في مجلة “جيل بلاس” الباريسية في 29 يوليو، 1883.

** النائب العام هنا يشير إلى الرقيب فرانسوا بيرتراند (1823 – 1878)، الذي كان يلقب بمصاص دماء مومنتبرناس. وكان فرنسوا هذا يخدم في الجيش الفرنسي، وقد اعتقل بتهمةِ مجامعةِ الجثث، وحكم عليه بالسجن لمدة عام.

———————————-

نبذة عن المؤلف:

غي دي موباسّان كاتب فرنسي ينتمي إلى المدرسة الطبيعة ويعتبر أعظمَ كاتبِ قصةٍ قصيرةٍ في فرنسا. ولد 5 آب/ أغسطس 1850 في بلدة دييب الساحلية في إقليم نورماندي، وكان والده تاجرًا ثريًّا ووالدته من عائلة نبيلة.

في عام 1869 بدأ دراسة القانون في باريس، وكان طالبًا لامعًا، لكنه لم يلبثْ أن تطوّع للخدمة في الجيش خلال فترة الحرب الفرنسية البروسية. وكان لتلك الحرب تأثير عميق عليه. وبعد الحرب عاد إلى باريس، حيث عمل  بين عامي 1872 و 1880 موظفًا حكوميًا في وزارة الشؤون البحرية، ثم انتقل للعمل في وزارة التربية والتعليم.

في عام 1875، التقى موباسّان بالروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، الذي أصبح معلمَه وصديقَه وشجّعه على الكتابة وساعده على تحسين مهاراته في الكتابة. وقد حققتْ قصته القصيرة “كرة من الشحم” أول عمل نشره موباسّان، نجاحًا فوريًا ورسخ سمعته ككاتب.

على مدى العقد التالي، نشر موباسّان أكثر من 300 قصةٍ قصيرة وستَّ روايات. وقد تناولت قصصه في معظمها موضوعاتِ الحبِّ والعاطفة والعلاقاتِ الإنسانية. وكان معروفًا بأسلوبه الواقعي والطبيعي. وكان أيضًا بارعًا في وضع النهايات الملتوية لقصصه، وغالبًا ما يفاجئ القراء بتقلباتٍ غير متوقعةٍ في الحبكة.

على الرغم من النجاح الذي حققه موباسان في الكتابه، والذي أتاح له أن يعيش في رفاهيةٍ وبذَخ، فإنه ظلّ يعانى من مرضٍ عقليٍّ طوالَ حياته. وقد تم تشخيص إصابته بمرض الزهري عام 1877، وأصابته نوبات من الاكتئاب والبارانويا. وأمضى سنواته الأخيرة في حالةٍ من التدهور العقلي والجسدي دفعته في عام 1992 إلى محاولة الانتحار. وتوفي في مصحة خاصة في باريس عام 1893 عن عمر يناهز 42 عامًا.

من أشهر أعمال موباسّان:

– “كرةٌ من شحم” (1880): هي أول عمل نُشرَ له، وهي قصة قصيرة عن الحرب الفرنسية البروسية.

– “بل عامي” (1885): أشهر روايات موباسان، وتحكي قصة صعود شابٍّ إلى السلطة في المجتمع الباريسي من خلال تلاعبه بالنساء الثّريّات وصاحبات التأثير.

– “بيت تيليي” (1881): مجموعة من القصص القصيرة تدور أحداثها في بيتٍ للدعارة تديرهُ مدام تيليي، وتتمحور حول موضوعات الحب والعاطفة والعلاقات الإنسانية.

– “بيير و جان” (1888): رواية تدور حول شقيقين يرِثان ثروةً كبيرة وما ينشأ بينهما من توترات ونزاعات.

– “حياة” (1883): رواية تحكي عن حياةِ شابةٍ من شبابها إلى شيخوختِها، وتستكشف القيودَ المفروضةَ على المرأةِ في المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر.

– “الهورلا” (1887): قصة قصيرة على شكل مذكرات لرجلٍ فرنسي يُخيّل إليه أنه مطاردٌ من قبل كيان غير مرئي يفضي به إلى الجنون.

 

مقالات من نفس القسم