الفيل النونو

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

  أمل رضوان

"الفيل النونو

والفيلة.. برضه النونو

عاشوا في الغابة في تبات ونبات"

-: "بس يا ماما بطلّي قلش"..

 وتبدأ المعركة..

 

كل ليلة.. قبل النوم.. أبدأ حدوتة جديدة لا تعجب "علي".. أعصر ذهني كي أتذكر "حواديت زمان" بعد يوم طويل من العمل في مكانين والذهاب للكلية والتحضير للماجستير.. أجلس بجواره على سريره الصغير.. في حجرته الصغيرة، وأحاول أن أتذكر تلك القصص السحرية التي طالما جعلتني أبتسم في منامي وأنا أحلم "بالأميرة أم الضفاير" و"البئر المسحور" و"القلعة ذات الأسوار".. أو أسكب الدموع الغزيرة على "الأميرة النائمة" و"الأمير الحزين"، أو الحكايات الأخرى التي تجعلني أرتعد من الخوف، وأدفن رأسي في الوسادة، وأجذب الغطاء حتى لا يراني "الغول" أو "التنين ذو الرءوس الخمسة" أو تمسني ألسنة النيران المندفعة من فمه.. كل هذه المعاناة ولا يعجبه شيء.. يبدأ في الاعتراض والامتعاض ثم الاستهزاء و"التريقة" ويتعجَّب من ذوقي!.. يُحدِّثني عن "مركبات الفضاء" و"المحارب الآلي" و"الرجال ذوي السترات السوداء" و"ملفات إكس".. وأتعجب من ذوقه.

 حاولتُ كثيرًا مشاهدة قناة "سبيس تون" حتى اتثقف ثقافةً فضائيةً تليق به ولم أفلح.. ظلت "الحدوتة" بالنسبة لي قمرًا فضيًّا وبساطًا سحريًّا وأميرًا يُحلق بي فوق صهوة حصان في كل البلاد.

 نهضتُ مرةً ثانية من مقعدي في قاعة الانتظار في المطار.. دققتُ في الشاشة الزرقاء الصغيرة.. لايزال رمادُ البركان الذي اندلع في أيسلندا يعطل جميع الرحلات لليوم الثالث على التوالي.. أنا هنا حبيسة في مطار "هيثرو" اللعين أحاول العودة بعد أن تركتُ العمل قبل أن ينتهي.. و"علي" هناك.. مُسجّى على سرير في مستشفى بارد في العجوزة إثر تعرضه لحادث وصفه والده بأنه "بسيط"، وبكتْ أمي وصمتت عندما أردتُ منها أن تقسم إن الحادث فعلاً "بسيط".

 

أيُّ أمٍّ تترك ابنها وتذهب للعمل في كل دول العالم (من دون فارس أو حصان).. لم أكن بجواره عندما دخل المدرسة أول يوم.. لم أكن في البيت عندما خطا خطواته الأولى.. وعندما أصيب بالحصبة وتركتْ نقاطًا حمراء على وجهه رسم وجهًا على ورقة بيضاء، ووضع نقاطًا بالقلم الفلوماستر الأحمر حتى يُريني كيف كان وجهه وهو مريض.. أخذتُ الورقة وصنعتُ لها بروازًا ذهبيًّا وعلقتها في غرفتي.. لم أحتفل معه بكل أعياد ميلاده.. أحيانًا أسافر يوم وقفة العيد أو شم النسيم.. يقبلني قبل أن أغادر ويؤكد لي أنه سيُحسن التصرف عند جدته ولن يشرب البيبسي أو الكولا كما طلبتُ منه.. لم أودِّعه وهو ذاهب للجامعة لأول مرة الشهر الماضي.. ولم أكن موجودة حين أصيب في حادث منذ ثلاثة أيام وهو يقود سيارته الجديدة التي اشتريتُها له.. والأسوأ من ذلك لم أكن أجيد حكي الحواديت التي يحبها.

أخيرًا رُفع الحظر الجوي ووصلتُ مطار القاهرة.. رميتُ نفسي في أول سيارة أُجْرة وانطلقت إلى العجوزة..

كان المستشفي قابضًا صامتًا بالليل.. الرواق طويل لا نهاية له.. الممرضات نائمات وبعض المرضى يتأوَّهون، أدَرْتُ مقبض باب الغرفة ودخلت.. لم أشأ أن أُضِيءَ المصباح حتى لا أوقظه.. على ضوء النيون الخافت المنبعث من شاشة المونيتور المتصلة بصدره شاهدتُ "علي".. كان وحيدًا في غرفته الواسعة الباردة.. بجوار السرير يتدلى كيسان متصلان بأنابيب رفيعة تنفذ من جسده.. أحدهما ممتلئ إلى نصفه بالبول المختلط بالدم والآخر به بعض سنتيمترات من الدم فقط.. ذراعه اليمنى موصلة بمحاليل معلقة على عارضة حديدية، وعلى يده اليسرى "كانيولا" مثبتة بلاصق طبي.. كانت قدمه اليسرى موضوعة في الجبس ومشدودة إلى أعلى بينما يوجد أنبوب ذو فرعين في فتحتي الأنف.

وضعتُ كفي بهدوء على جبينه وملت عليه كي أقبِّله.. شعر "علي" بأنفاسي وأنا أقترب منه. فتح عينيه الجميلتين الواسعتين فرآني أمامه.. ابتسم بوهن شديد وقال لي بصوت خفيض:

-ماما سبتي شغلك وجيتي ليه

"........."

-: "أنا كويس.. ما تعيطيش"

"......."

-: "طب احكيلي حدوتة"

"........"

"إن شا الله حتى حدوتة الفيل النونو"

"بس انت ما بتحبهاش"

"أقول لك على سرّ.. أنا كنت بحبّها قوي.. بس كنت بحب أضايقك.... احكي يا ماما"

احتضنتُه بقوة آلمَتْهُ.. صفَّقتُ بيدي.. مسحتُ دموعي وبدأتُ أحكي:

"الفيل النونو

والفيلة برضه النونو

عاشوا في... ... ..."

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة مصرية ـ والقصة من مجموعة "شوكولاته سودا" صادرة مؤخرًا عن دار العين المصرية 

مقالات من نفس القسم