الفلسفة المسلية (نصان)

حسان الجودي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسان الجودي

النص الأول

كنت أتنزه مع صديقي الباحث العلمي بعد أن انتهينا من الاحتفال بعيد ميلاده الستين.
تركنا خلفنا الأصدقاء والكعكة الشهية والضحكات الصافية وفتحنا باب الصخرة ثم دخلنا إلى الظلام.
اتضحت الرؤية لنا بعد برهة، فقد سطعت شمس ضخمة غريبة في المكان، وصار بإمكاننا التجوال في الممرات الغامضة والمساحات الكبيرة بين جزيئات الصخر، وصرنا نتناقش حول ماهية نوع الصخرة، ونحن نسير الهوينى كمن يستمتع بنزهة ربيعية صباحية.
لكنني بدأت ألاحظ شبحاً يتابعنا من بعيد ، كان يترصد خطواتنا باهتمام واضح، ثم كان يموه ظهوره بطريقة لم أفهمها. التفتُّ إلى صديقي بقلق:
– هناك من يلاحقنا…
– لا تشغل بالك. إنه الموت.
شعرت بالخوف من كلماته المفاجئة. وسألته باضطراب:
– كيف عرفت ذلك؟ ولماذا لست خائفاً منه؟
أجابني بطريقة مدرسية:
– تبدو دون خبرة أيها الشاعر!
هذا الموت مختلف عن الموت الذي تتحدث عنه في قصائدك ، ذلك الموت الذي ينال من سكان الأرض قاطبة دون استثناء. أما هذا الموت فله شأن آخر.
– اشرح لي من فضلك!
توقف صديقي برهة ثم أمرني:
– اسقط أرضاً وتظاهر بالموت. هيا لا تناقش وافعل ذلك!
تهاويتُ على جانبي واستلقيتُ دون حراك. فسمعتُ خطوات راكضة باتجاهي. ثم رأيت شبح الموت واقفاً فوق رأسي وهو يقول لصديقي:
– لماذا تنتظر؟
هيا أنقذه، وقم بإجراء تنفس اصطناعي له!
تظاهر صديقي بذلك، فتظاهرت بعودة الحياة. فغادرنا الموت وهو يصفر لحناً شائعاً.
قال صديقي:
– هل فهمت الآن؟
إنها الحياة متنكرة في قناع الموت.
– ولماذا تفعل ذلك
– لأنها تخاف من الموت وهي تتنكر بهيئته كي تخدعه .
– وهل هو عاجز عن إيجادها؟
إنه كما أعرف ماهر كصياد في الاقتناص. ولم يسبق له الفشل.
– إلاّ هنا يا صديقي الشاعر . إلا هنا…
فلا يمكن للموت الدخول إلى فضاء هذا الصخرة.
نحن هنا بمنجى منه.
– أخبر الحياة بهذا كي تكف عن الخوف من الموت إذاً!
تردد صديقي ثم قال:
-لا يسمح لي ضميري العلمي بذلك. فلست أملك هذا اليقين!
ثم إن فيزياء الكم قد تشير إلى وجود الحياة والموت في صورة واحدة.
ثم همس:
-ربما تحدثنا قبل قليل مع الموت وليس مع الحياة، وقد تنكر على صورة الحياة ليستطيع دخول الصخرة.
طلبت منه الشرح، فحدثني بشغف:
-قد يأتي مثلًا نحات إلى هذه الصخرة، فيصنع منها تمثالاً خالداً. أو يأتي مزارع فيصنع منها فأساً وشفرات لذبح الحيوان أو لتقطيع الأشياء.
أو تبقى هذه الصخرة مئات السنين حتى تغطيها المغما البركانية ذات يوم فتنصهر فيها.
أو يأتي حفّار قبور فيصنع منها شواهد لموتاه.
نعم ….الحياة والموت في صورة واحدة.
والموت هو غياب الحياة، والحياة هي غياب الموت.
قلت له :
-والليل هو غياب النهار، والصمت هو غياب الصوت.
قاطعني صديقي الباحث العلمي مؤكداً:
– لكن المادة لا تفنى ، والصخرة مثل الأهرامات الفرعونية لن تزول!
قلت له ” أنت تربكني”
ثم ركضتُ بسرعة إلى حيث رأيت الحياة/الموت فاقدة لوعيها قرب إحدى ذرات الصخر.
لحقني صديقي وهو يقول دون مبالاة:
– ضربة شمس، سرعان ما تصحو.
كان الموت هامداً، بدا صديقي واثقاً من عودته للحياة. أما أنا فانصرفت إلى إعطائه قبلة الحياة كما أفعل في قصائدي.
وانتبهت أخيراً إلى أن فيزياء الكم التي عرّفني صديقي عليها أعادت مجد الميتافيزيقيا، وجعلت من صديقي الباحث العلمي، وجعلتني معه ، شكاكاً محترفاً تجاه قضايا وجودية كبيرة
وبدا لي الأمر مسلياً بشكل كبير!

**

النص الثاني

لقد احترقت كفه اليمنى. كان يشوي قطعة الخزف الأخيرة التي عمل على صناعتها أياماً طويلة. فرأى النار تلتهم كفه بسرعة كبيرة. تحولت يده في ثوان إلى رماد أسود، تناثر فوق أرضية المشغل. تحامل على ألمه، وأسرع إلى جمع الرماد بالمكنسة الكهربائية.
تناول مسكناً للألم ، وأشعل لفافة وجلس يتأمل ذراعه دون كف. ثم أسرع إلى تنفيذ فكرة خطرت بباله. أخرج رماد كفه من المكنسة الكهربائية ، ثم عجنه مع صلصال من النوع الممتاز ، وشكله كفاً أخرى تشبه كفه المحترقة.
لكن الصلصال أبى التشكل على الصورة التي أرادها الخزّاف. وكان دائماً يعود إلى حد السيولة ، ويصبح كرة لدنة دون ملامح.
كان الأمر مؤرقاً للخزاف البارع. فهو قد صنع الآلاف من قطع الخزف الجميلة، ولم ترفض كتلة طين له طلباً واحداً من قبل. ثم لاحظ الخزَّاف أن كتلة الطين بدأت تتشكل لوحدها، وبدأت تظهر عليها ملامح وجه مألوف لديه.
فرح الخزاف حين رأى صورة وجهه ظاهرة على كتلة الطين، فنهض إلى تشذيبها وتنعيمها وإضفاء ملامحه الحقيقة عليها. ثم دفع بها إلى فرن الشوي وهو نافد الصبر لاكتشاف نتيجة عمله الفني.
اندفعت النار من فرن الشواء ، وأخذت بإهاب الخزاف، الذي تحول بسرعة إلى رماد. بينما خرج خزاف آخر من الفرن، وأسرع إلى شفط الرماد بالمكنسة الكهربائية ، وهو يصفر لحناً مرحاً ، فقد وجد المعنى في حياته.

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال