الغياب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

 شحاتة حسّان 

خرج نحو فراغٍ يشوبه الضجيج

أمام البيتِ أُفعوانية ترتفع لتصل لحافة الدنيا

ثُمّ تهبطُ لترتطم بقاعِ الموت

يَمرُ بائعُ  الأحلام فينادي بصوت مبحوح:

  أحلامٌ مؤجلة ، أحلامٌ ذابلة ، أحلامٌ قيدَ الفقد ..

كُل أحلامي هُنا فاسدة ،

 راكدةُ كبحر ميت.

وزبائني يشربون الخمر الرخيص؛

ينظرُ نحوه بعيون زائغة،

ويبتسم

فتبرز أسنانُ بنية مثل طاولات الحانات العتيقة

يُخرِج من كيسِ الأحلام صورة لفتاةٍ سمراء

 تقفُ على صخرة وتنظرُ نحو الفراغ "فراغٌ يشوبهُ الضجيج" .

يعطيها له ويمر بقدمٍ عرجاء .

.....

يدقق النظرّ في الصورة الفوتوغرافية

في الأعليّ مكتوبُ بخطٍ دقيق "إنكّ لا تُشبهُ أحداً سوى رأسي..

رأسي المُعبأ بالجثث والشوارع "

يُطوي الصورة ويحشرها في جيبهِ الخلفي المُعبأ بالتبغِ والأقراصِ المخدرة

يعبر الشارع باتجاه المقهي،

لا يلحظُ الدماء علي الرصيف،

ولا صوت سيارات الشرطة

لا يشم رائحة الغاز المسيل للدموع

 ولا الحائط المثقوب بالرصاص

غريبٌ يمر خفيفاً دون عفرة يخلفها

 يبحث عن شيء ما

لا تلحظه المدافع المصوبة

ولا يلتفتُ إليه الضابط المُكلف بالقبضِ على المُنتحرين

يجلس على كرسي كُسرت إحدي أرجلهُ الخلفية

ويطلب شاياً بدون سكر ، لا جريدة ليقرأ أخبار الأمس أو اليوم

لا غيوم في السماء ليُشكل منها أفراس نهرٍ أو فراشات..

لا حيزّ للافكارِ التقدمية علي مقهي كُل رواده مُعتقلين ..

فقط عاملُ يجلس علي طاولة مجاورة يُفكك حياتهُ بتأن

براغٍ ، مفاتيحَ بأحجامٍ مختلفة ، ذكريات متناثرة ، ساعات متواصلةُ من الانحناء على آلات متنوعة

سجائر محلية ، وخوف غائر كجروح الساعدين التي لا تندمل

يدفع حساب الشاي ويمشي..

 (2)

 

يمشي نحو شيء ما..

هو لا يعرف في أي طريق تضرب قدماه الأرض،

لا يعرفُ إلي اي  عالمٍ سيعبر..

الممرات ممتلئة بالاشلاء ، والخوفِ ، واللعنات

كساد العُمر أم هو كساد البضائع ما يسوقه ؟

تضخم الحُزنِ ، أم ارتفاع سعر الدولار ما يدفعه نحو المجهول ؟

هو لا يعرف عن الحياةِ الا انها قبيحة..  قبيحة مثل جندي " الامن المركزي" حينما يطلق الخرطوش من البندقية.

وعِفنة كرائحة الحجز في اقسام الشرطة،

محتالة كالحكومات،

ومترهلة كالحكام.

تقوده الخمرة الي افاق اخري،

عوالم مغايرة تولد الدهشة فيها مع كُل خطوة،

والابتسامات مُعلقة مع حبات الندي علي سنابل القمح.

ثمة صوت يقترب

 يزداد اقتراباً ..

صوت مرعوب يستنجد برب مُجيب لكنه غفي لوهلة .

الربُ احياناً يغفو،

الا ان غفوته اللحظية تُضل الباحثين عنه،

فينزلقون في وحدة مريرة يتبعها عذاب مقيم

الصوت يستنجد وكأن غولاً يطارده.

يلتفتُ وراءه ليجد العامل الذي تركه على المقهي

 وقد اخترقت رصاصة جبهته المتعرجة كغصن الصفصاف..

يجري خلفه كلبان بوليسيان يحملان في فكيهما خبزاً وماءً وأصفادً فضية..

العامل يَمدُ يده أمامه ويضرب الفراغ "الفراغ الذي تشوبهُ الضجة"

 ولإجلِ أن تكتمل الدراما،

تتعثر قدمه اليسري في حجرٍ كان يأخذُ قيلولة قبل أن يعود للاشتباكات في الشوارع الرئيسية..

العينين البنيتين لصاحب الوجنتين الشاحبتين تلتقطانِ السقوط الاخير وكأنهما مشهد دراماتيكي في احد أفلام "بيلا تار" .

وجهُ مدمى وعيون غائرة انطفئت لمعتها منذ مدة طويلة..

أذنانِ طويلتان يغطيهما زغب كثيف

 وربما تسكنهما جنية الحواديت التي اعتادت أن تٌلقي في آذان العمال أُحجية قديمة عن أُناسٍ يأكلون في الجنةِ رُماناً وتوتاً ولا ينحتون من الجبال بيوتاً يسكنها الجنرلات .

شفتان غليظتان ربما لم تُقبلهما سوي كلمات المصانع الجافة ،

ووجه في مجملهِ يسقط في هوة سحيقة من الالم والاغتراب.

لكنه يبدو ولو مرة واحدة رغم الدماء التي تكسوه ..صافيا

مألوفاً، ويمتلكُ إبتسامة رائعة تحجبها مداخن المصانع ، وشحوم التروس ، ومخاوف الموت في فرن المالك.

تلتقط العينان المشهد وتُخزنهُ في ذاكرة مخمورة ومجهدة لا تخلو ابداً من اعطاب.

يمد بصره بإتجاهِ الامام او الفراغ " الفراغ المشوبُ بالضجيج"،

 ويخرج علبة السجائر من جيبهِ الخلفي

ويتحسس الصورة التي اعطاها اياه بائع الاحلام 

ويمشي.. يمشي نحو شيءٍ ما..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 شاعر مصري 

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم