العقرب

عبد الرحمن أقريش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

عجيب هو عالم الأسماء، أقصد الأسماء التي يحملها البشر.

وعجيبة أكثر تلك الألقاب التي يطلقها الناس على بعضهم البعض، فتحل محل أسمائهم الحقيقية، ألقاب بألف عنوان، ولكن محركها الأساسي هو الحب والكراهية.

بعض الأسماء تبدو جميلة، هادئة ومنتقاة بعناية.

بعضها تبدو بشعة وقاسية.

بعضها عشوائية وعبثية.

وبعضها الآخر تبدو سخيفة، خرقاء وبلا معنى، وكأنما ألصقت بصاحبها عن طريق الخطأ، الاسم الخطأ للشخص الخطأ…

وطبعا توجد دوما مساحة للاستثناء.

فهناك أسماء وألقاب مناسبة تماما لحاملها وكأنها فصلت على مقاسه، تناسبه ويناسبها، تلتصق به، يتقمصها وتلبسه، وفي النهاية ومع مرور الزمن تصبح جزءا من كينونته، ووجها خفيا لمصيره وقدره.

لا أحد يعرف اسمها الحقيقي، فبالتأكيد كان لها اسمها الخاص فيما مضى مثل بقية البشر، ولكن ذلك الاسم المفترض انمحى، طواه النسيان وحل محله اسم آخر، عجيب غريب وقاس.

هي سيدة في منتصف العمر، قامة قصيرة، وجه مستدير، وبشرة بيضاء بلون القمح، شعر أشقر خفيف، تجمعه دائما على شكل ضفيرة منسدلة إلى الوراء، فتبدو مثل ذيل صغير.

تضع نظارة طبية بإطار سميك وزوايا حادة، نظارة تكشف عن عينين بلون الصرامة، وملامح في منتهى الجدية والقسوة.

عندما نقترب منها نكتشف شخصية إشكالية وملغزة، مزيج من الغرابة والغموض والمفارقات المدهشة، فهي لم تكن ذميمة، ولكنها أيضا لم تكن جميلة، حتى الخالات التي تزين خدها الأيسر، نمت فيها شعيرات سوداء قاسية، فتبدو مثل أشواك شيطانية وشريرة !!
كان مظهرها الخارجي وطريقتها في اللباس ينمان عن شخصية نمطية، قاسية، جافة ومتصلبة.

فاتها قطار الزواج منذ سنوات، فهي (لم تحضر في وقت السفر) بسبب الشروط التي وضعتها للزوج المفترض، وأيضا بسبب نظرتها المادية الفجة والغريبة للحياة المشتركة.
كانت مدرسة للأدب، وتلك كانت المفارقة الثانية في حياتها، فهي تصلح لكثير من المهن، ضابطة للحالة المدنية، شرطية مرور، مسؤولة في إدارة الضرائب، خبيرة جنايات، عريفة في سجن النساء، لكنها حتما لم تكن تصلح للأدب والشعر وجماليات اللغة !!
بسبب أنانيتها المفرطة وأعطابها النفسية المزمنة، لم تجن من سنوات عملها الطويلة لا صداقات، ولا علاقات عاطفية، لا مشاركة، لا وجدان، ولا حتى مشاعر شفقة.
لم تجن من كل ذلك، إلا اسما غريبا، يلخص نظرة الآخرين لها (العقرب)!!
ومع ذلك، فهي تبدو منسجمة ومتصالحة تماما مع ذاتها، تعيش عالمها ولا تهتم كثيرا لصورتها ونظرة الآخرين لها.

رمت شباكها على زملاء العمل، على الغرباء، على العزاب، على المطلقين، على الأرامل، والمتزوجين أيضا، وعلى كل شخص تفترض هي أنه يصلح للزواج.
ولكنهم جميعا ينتبهون في اللحظات الأخيرة، لحظات ما قبل الكارثة، فيفرون بجلودهم بعيدا عن المصيدة !!


اسمه (سيدي احمد) شاب في منتهى الظرف واللياقة والأدب، أنيق، وسيم، طويل، وجه ممتلئ، وجنتان بارزتان، تلتهمهما لحية سوداء قوية ومشذبة بعناية، ملامحه دقيقة، ملونة بظلال سمرة خفيفة وكأنما رسمت عنوة.
إنسان مثقف، متدين بعمق من غير تحجر، مرن، مع روح ميالة للدعابة والمرح، يتيم الأب، تكفل منذ سنوات بمسؤولية والدته وأخواته الثلاث.
استهدفته ذات يوم، رسمت خططا وخيوطا للعبة، استدراج، تحرش، هجوم، تراجع، توهيم، مناورة، حرب حقيقية…

ثم، هدف !!
التقيا في مكان جميل وهادئ بعيدا عن أعين الفضوليين والمتطفلين، مكان محايد، فضاء رومنسي، جلسا يتحدثان، عن الجو، ظروف العمل، الغلاء والمصاريف، الالتزامات العائلية، هموم الحياة، وأشياء أخرى…
ثم فجأة – لم ينتبه في البداية – وجد نفسه منخرطا في مناقشة تفاصيل زواج مرتقب، زواجهما، هو وهي طبعا !!
تحت وقع المفاجأة أحس بالصدمة، تردد في البداية، فكر أن يرفض، أن ينسحب، ولكنه أقنع نفسه في النهاية، أقنعها على مضض.
فكر بصمت.

  • لم لا؟…صحيح أنها ليست جميلة، ولكنها ليست ذميمة…

ثم، بيقين المؤمن.

  • (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) !!

سألته.

  • ماهي شروطك للزواج؟؟

فاجأه السؤال.

  • أنا ما عندي شروط…أريد امرأة تحترمني…تقدر الحياة الزوجية، وتعامل أسرتي بالحسنى !!
  • ولكن، أنا عندي شروط !!

أحس بالصدمة، استشعر غرابة الموقف، خاطب نفسه.

  • آش من شروط ؟ وحنا ما زال ما درنا في الطاجين ما يتحرق؟!

ولكنه، قرر أن يستمع لها حتى النهاية.

  • أنا لن أقبل أن تستقبل أصدقائك في منزلنا، فالغرباء مزعجون، حشريون ويفسدون حميمية الحياة الزوجية…

أصدر همهمة وكأنه موافق.

فكر في صمت.

  • مصيبة هاذي (إنها كارثة) !!

صمتت برهة، ثم واصلت.

  • حاجة ثانية مهمة…على والدتك أن تلزم حدودها، فأنا أعرف العجائز ومؤامراتهن التي لا تنتهي…

كتم غيظه، كتمه بصعوبة.

صمتت مرة ثانية، وأخذ صوتها نبرة أكثر حدة.

  • كما أنبهك أنني لن أتحمل أبدا مشاعر الغيرة والحسد من جهة أخواتك العازبات…أنا أكره الفشوش، والدلع، وعندي حساسية مفرطة للمراهقات!!

انفعل (سيدي احمد)، أحس فجأة بالغضب، غضب عارم يريد الخروج، استحضر بداخله كلاما قاسيا للرد عليها، ولكنه في الأخير لاذ بالصمت كنوع من الحكمة لكي لا ينفجر الموقف.
قال بصوت هادئ.

  • وماذا أيضا؟
  • آه كدت أنسى!! بالنسبة للمصاريف والنفقات، سنستعمل مذكرتين، نسجل فيهما بدقة كل التفاصيل المرتبطة بالمصاريف اليومية، فواتير الماء والكهرباء، والتليفون، والطبيب ومصاريف الطوارئ، لي صرف شي حاجة يقيدها…ينبغي أن ننفق بحكمة، فالمستقبل مخيف وغير آمن، ولا مجال للمصاريف الزائدة لأنها تؤزم الأوضاع، وتبدد اقتصاد الأسرة…

نظر إليها بهدوء، تأملها مليا.

ابتسم، كان قد امتص الصدمة، واسترجع جزءا من روحه المرحة.

لم يتوقف عقله عن الدوران، يفكر، يمضغ هواجسه، ثم أخيرا حسم أمره، وقرر أن يوقظها من الوهم الذي انخرطت فيه.
رسم لحظة صمت، ثم قال بهدوء.

  • كل هذا كلام معقول، ويبدو منطقيا…وماذا عن الأولاد؟
  • خاصنا نديرو أسرة كبيرة بزاف…فيها دراري كثار…خمس بنات… وخمس أولاد ذكور!!

نظر إليها صامتا.
تملكته أحاسيس غامضة، حاول ألا يبدو شريرا، قاوم قسوته، ولكن مشاعره السلبية غلبته أخيرا.
ارتسمت على وجهه الخطوط الأولى لابتسامة غريبة، ابتسامة هادئة، ماكرة ومؤلمة.

انمحت تلك الخطوط تدريجيا.
وقال.

  • أنا هنا عندي اقتراح !

صمتت، نظرت إليه باهتمام.
وسألت.

  • وما هو ؟
  • نديرو زوج دفاتر ديال الحالة المدنية، ونتقاسم الأولاد بالعدل، نص نص، وكل واحد يسجل نصيبه في دفتره الخاص…انت تأخذين زوج بنات ونص، وزوج ولاد ونص…وأنا آخذ زوج بنات ونص، و…!!

لم يكمل.
كانت الجملة غريبة، طريفة ومضحكة، ولكنها قاسية وجارحة !!
استيقظت فجأة، انتبهت للورطة، نظرت إليه بعينين جاحظتين من الصدمة والاستغراب، أصيبت بالعي، انحبست الكلمات في حلقها، بدت مشلولة، منهزمة وعاجزة تماما.
وقف منتصبا، ألقى عليها نظرة أخيرة، نظرة قاسية هي مزيج من الغضب والشفقة والاحتقار.
ثم انصرف.

***

(إن لم تحضر في وقت السفر، لا تقبل منك شكاية)، عبارة تنبيهية كانت في الماضي تكتب على ظهر تذاكر السفر.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
نور الهدى سعودي

أذن الضوء