العجل الأصفر

ART
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جاد صلاح قرقوط

في البدء كانت الكلمة…

 إنجيل يوحنا

يتشكل اللاوعي كما تتشكل اللغة

جاك لاكان

الزمن الأول، أو كيف استيقظ جواد

 استيقظت كالعادة. الساعة تمام التاسعة بالرغم من أنني أكره اليقظة أساسا، وأفضل أن أرقد في سبات سرمديّ طيلة العمر. لو سنحت لي الفرصة، لاسترقت نظرة عجلى إلى السّتائر الخمريّة، وقلّبت طرفي هنا وهناك. غمضّت عينيّ إبّان تقدّم وهج النهار، وأشعّة الشمس التي طوّقت رسوم الديار والأراضي القاحلة. حينها شعرت بضرورة ملحة إلى العمل، وبأنه لو تأخرت دقيقة واحدة عن مركز اللغات الذي كنت قد توظفت فيه للتّو، لنفذت ذخيرة الوطنية التي كنت أصحبها معي أينما ذهبت، ولتتداعى العالم في أفول أبدي.

 نعم يا سادتي – لطالما كنت مشبعا بالوطنية. أنا شخص متسلّح بشتّى أنواع التفاني لأجل الصالح العام، لدرجة أنني ما نسيت يوما أن أضع وطنيتي بجانب البطاقة الشخصية، وحرصت على إيداعها في محفظتي البنية الرثة الضيقة. لدي قصة غريبة جدا مع هذه المحفظة؛ إذ كانت لا تتسع إلا ذخيرة وطنية واحدة وبطاقة شخصية، وقد حاولت مرارا وتكرارا أن أدس النقود والعملات الورقية معهما؛ فما كان من هذه الداهية اللعينة إلا أن تبصق نقودي وتحتفظ بما تبقى.

 وهنا أدركت أنها تفوقت على كثير من أصحابنا الذين لا يجيدون سوى قذف الوطن بالشتائم العنيفة، وأرواحهم الطفيلية تقتات وتستهلك ثرواته بشجع، وتعبّ خيراته كفيلة افريقية ممرغة بالوحل.

 نهضت من رقدتي، مسحت جبيني بقماشة ناصعة البياض، لأنها كانت تتصبّب عرقا إثر ما حدث الليلة السابقة مع “جوجو”. قد تسألني بطيب نية، وأعلم أن سؤالك تستتر خلفه دوافع سامية وحسنة، من هي جوجو؟

وأنا سوف أبادر وأقول بأنني لن أخفي عنك أدق التفاصيل الجارية في حياتي الخاصة. أما بالنسبة إلى جوجو، فهي مجرد فتاة ريفيّة مسكينة، التقيتها أمس وأنا في طريقي إلى دكان العم أبو أدهم. أبو أدهم شخص ساذج، تقليدي جدا، ذو تقاسيم مربعة حادة تنحصر بشكل جلي في جبينه العريض وأنفه المستقيم. هذه الملامح ألاحظها كلما استلّ مني ثمن شفرة حلاقة، أو بعض معلبات متعفنة، تزداد بشرته السمراء الخشنة حمرة كلما لامست أطراف أصابعه الثخينة العملات الورقية. هذا كل ما تريد معرفته عن العم الكريم أبو أدهم.

في ذلك المساء المتقد الموار، أمسك قبس الشمس التائه يدي وقادني الهوينا إلى الدكان، وشاءت الأقدار أن ألتقي جوجو، إذ أنها كانت تقبع بجانب أبو أدهم وهو يتمتم ويهمس ست وعشرون…سبع وعشرون، ثم يتهالك وتنقطع أنفاسه، ليعاود مجددا بعد شهيق يجذب كل الهواء النقي والطاهر إلى صدره ثلاثون…واحد وثلاثون، وبعدها يختتم المراسيم بتنهد مقرف، وكأنه يلفظ ألسنة لهب كتنين يهدج في وسط أزقة الصين القديمة. وأقسم أنني رأيت الشياطين تهرب فزعة من وطأة قدمه ورائحته النتنة.

 دخلت الدكان، وانتظرت ما يقارب دقيقة ونصف حتى فرغ أبو أدهم من تفحص خزينته، وسك النقود والعملات المعدنية، والنغم الصادر عن رصفها وترتيبها الدقيق.

نهض عن كرسيه الخيزران فور ما رميت السلام عليه، وتنازعنا الحديث والعبارات المملة والرتيبة التي كان سكان البلدة يتداولونها لغايات عديدة، وعلى رأسها تحايد الصمت المقيت، إذ أنّ الصمت يودي إلى التفكير، والتفكير آفة الدهر، فهنالك ترد ضنينات النفوس إلى التأمل، مما يفضي إلى الجحود والعزلة والشك. وأنا عاهدتك سوف أكون صادقا معك: لا أحد يحب ذلك.

 وعلى هذا النحو ترامت الكلمات، ذهابا وإيابا، بيني وبين أبو أدهم:

  • كيف الحال؟
  • تعلم…الأمور صعبة على الجميع…ولكن هذا طبيعي…تعلم، مرحلة جديدة.
  • نعم…نعم…أعي ذلك
  • أنت مثقف…ما رأيك يعني؟
  • رأيي؟ لا رأي لأحد في هذه الأوقات العصيبة. الوطن فوق الجميع، والدين لله، والأرض…والأرض…

الأرض أشياء كثيرة لا أدركها. خلصت لذلك وصمتّ. لم يعجبه حديثي، فملامح الاحتقار تجلّت على جبينه. عيناه اتسعتا، ثم ابترد كل هذا! سرعان ما تذكر أنني زبون، أشار بيده لامباليا وكأنه يقول: تفضل من غير مطرود.

 

جوجو

أشعث الشعر، شاحب اللون لذيذ المقبّل وسهل الخليقة، أو هكذا شعرت. تقاسيم ذكورية أخّاذة، تممتها انحناءات رقيقة عذبة هفهافة. كلّما استرقت النظر إليه، بانت بوضوح أسفل ذقنه الناعم شبه المكور. هكذا تأمّلت جسده غير المتكرّش المصقول كالقنا الخطيّ، والعينين اللوزيتين اللتين تفيأتا سعف نخلة، وتظللتا فيء حاجبين أسحمين. يسير رويدا رويدا في الهواء. تبعته خلسة. تضوع المسك منه. رقت شمائل الشمس المشمشية، ووددت قطفها، ونسل الخيوط الأرجوانية الشائكة عنها وهي تبذّ جمر المساء عن وميضها الخجول المتواضع. اتّقد نجم أرجواني في عارض السموات، ذكت نار صبابتي، وتخطف القبس الحائر مهجة شوق حول الكبد تنعقد. آه! كأن الرب صيّر هذا المساء لي!

ما خطب الهديل يشدو صبابة، وما حال الأيك لا يحنو عليه كما اعتادت عليه السنون؟ وما كان الموت موتا لولا عتمة اللّحد، ولا الحياة طروبة لولا محاكاة الطائر الغرد.

غدوت غداة البين يوم ترحلوا… أهلونَ بين ضروب الغضى تبدد شملهم بين قلزم يصب عبراته سحا… حيوات تترامى على ناصية الشطآن التائهة.

 أي طلل امّحى وتقادم عهده ولم ينجل رسمه عن مخيلتي؟

غدوت غداة البين يوم ترحلوا، أرش حبق الألفاظ القاطبة على ما تبقى من نصل القتاد النحول، أتخيل الأرض تزداد خصوبة وثراء برقية الكلم. لا أدوس على القرنفل آن أتتبع أثر الهوى، وأتنقل بأيطلي رئم، وأطوّف أروقة الدهر، وأدخل خدر الجوار وأستجير. أنا قصيدة: ما ردت بسمة الشاعر، تاريخ تخرمه أقدام الأيائل، جسد حواء مثنيّ المفاصل، وصفوة الله معكرة الأصائل.

 

يتبع…

 

 

مقالات من نفس القسم