الدلالات الباطنية للمسارات السرية للظلال:
في هذا النص، الذي يوطئ له ابوحازم، ببيت شعري لابو الطيب المتنبي (تتخلف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع)، بما يحمل، من معان لفناء الأحياء، وآثارهم في خاتمة المطاف، مهما تركوا من آثار بقيت على مر الدهور، ففي نهاية الأمر ستفنى هي الأخرى!!
بهذه الرؤية الكافكاوية العدمية، المأساوية، التي تتصدر قصة (المسارات السرية للظلال) والتي بمثابة المفتاح للعالم السري، الموغل في الرمادية لهذا النص! الذي يسائلنا، حول مفهوم الظل قبل أن نسأله، عن المسارات التي يمضي بنا فيها، بما يجعل للظل مفهوما عميقا، يتداخل مع الوجود والعدم، والموت والخلود.
تشير دكتورة فاطمة عبدالله الوهيبي، في سفرها القيم وغير المسبوق(الظل: أساطيره وأبعاده المعرفية والإبداعية).. تشير إلى “ارتباط الظل/ الشمس بالموت، وعنف التحول إلى عالم الغيب، بما يجعلنا نعيد التفكير، في مسألة النور والظلمة، على أساس القضايا الميتافيزيقية و الأنطولوجية معا، كما تعكسها الرؤية الصوفية ٥“
فالراوي المتواري منذ استهلال القصة، يحدثنا عن مدينة غبراء أزمعت، الا تعرف الأشجار “تذهب الظلال كلها متوشحة حدادها، احتجابها وتختفي. عند مغيب الشمس، تختلس الظلال اشكالها، ويتلبسها سمت شبحي، وهي تسلك مسارها السري الغامض٦“ ليتوقف الراوي بعد ذلك، عند شجرة وحيدة، تحتضن الجميع، وتدثرهم بظلالها، ثم يسترجع -الراوي- ما فعله كلاب السلطات بالأشجار “مساحو الارض، كلاب السلطات، دفعوا الظلال، نحو مدار مجهول. عجنوا لهذا الغياب بفؤوسهم الحادة، وقدموه لها؛ على طبق من شفرة ماضية. نزعوا الأشجار من جذورها، فذهبت أخشابها، إما محترقة كوقود، أو مصنوعات كسولة، وبليدة تقبع طيلة الوقت. في ردهات لا يشغلها أحد. إلا لماما ٧“
وبالإحالة للبحث القيم لدكتورة فاطمة الوهيبي، المشار إليه، والذي استعنا ببعض مفاهيمه النقدية الجمالية، خاصة مفهومي، الظل والشجرة، كمفهومين تأسس، عليهما هذا النص، في بنيته العميقة.
نجد أن ظلال الجعلي الشبحية، التي دفعت إلى مدار مجهول، تعبر عن الفكرة الأساسية، التي لطالما كونها الإنسان، عن الظل كشكل من أشكال التعبير، عن هاجس الإنسانية الأساسي: الموت!
“فالظل لايظهر إلا في فضاء بصري، ولابد من مصدر ضوء ليتحقق حضوره في هذا الفضاء. ولذلك فكل تفكير بالظل، سيأخذ في الحسبان فكرة الانعكاس، فالظل انعكاس لشيء معرض للضوء، وما يترتب علي الانعكاس من رؤي، ذات علاقة بالامتداد والتضاعف والتناسل، وما ينطوي تحتها من أمور ذات صفة أفقية، ترتبط في النهاية بفكرة الحركة والزمن.
من جهة أخرى ارتباط الظل، بالأصل والفرع. وتنطوي تحت هذه الثنائية مسائل لها صفة العمودية الفوقية، والتحتية والتبعية. وتفضي هذه المسائل إلى طرف ميتافيزيقي ولاهوتي، مرتبط بـ المحتد وفكرة العود، وهي تلتف مرة أخرى لتتشح ببعدها الزمني، الصاعد الي مبتداه.
وكلتا المسألتان الانعكاس والأصل والفرع متشابكتان و متداخلتان ٨“
فهذه الظلال، التي تختلس أشكالها الشبحية في ظلام هذه البلدة، تستعيد إلى تفكيرنا، فكرة النور العظيم، المرتبط بالمطلق، كفكرة سائدة في معظم الديانات، فمن هذا النور يشع الإله على الكائنات والموجودات. وهي فكرة حملتها الديانات القديمة في الشرق. إذ عرفت الإله كنور واسمته المتألق، وهو إشراق.. وكل ما يتألق ليس سوى ظل ألقه.
وهي فكرة انتقلت من تلك الديانات البائدة، الى الديانات المعروفة، والى المتصوفة فتحدثوا عن النور الإلهي، وعن الظل بوصفه الأصل، لهذا النور!
فالذات الإلهية مصدر الظلال! ويمكن القول، إن معظم الثقافات والديانات، صورت الأسرار الإلهية، من خلال النور.
وما كان بالإمكان شرح هذه الأسرار، لولا هذا التمثيل و المعالجات اللاهوتية والفلسفية، فابن عربي مثلا، تحدث عن الاندراج في النور الأعظم، و الانثناء والطي فيه -هذه الفكرة بالذات، كانت شاغل المقدس سره، الجزء الثاني من روايتي ثلاثية صانع الفخار– الطي فيه، بعد الحياة ومد الظل الذي هو، باصطلاح المتصوفة، بسط الوجود الإضافي علي الممكنات. ولذلك كثرت في الظل مصطلحاتهم، وتكوكبت حوله في المخيال، بعض الرؤي المؤسطرة.
فما بين إشماس الكائن، وكونه ظل الله في الأرض، وبين إضحاء ظله، وانسحاب روحه، ظهرت تجليات كثيرة للظل، تخللت المسارات السرية للظلال إحداها!
يقترب بنا راو النص، في هذا الفضاء الظلالي، من أحد سكان هذه المدينة الغبراء: شاب. وراق. يتاجر بالكتب القديمة تحت شجرة: مصدر (الظل)..
والشجرة في هذا السياق، تحيلنا، إلى قصة الخلق. وهي بالذات (شجرة الحياة)، التي نعرف خلال سفر التكوين، أن الله “أنبت من الأرض كل شجرة حسنة المنظر، طيبة المأكل، وكان من بينها شجرة الحياة”. وهنا تشير دكتورة الوهيبي، إلى أن الإنسان، لا يصل إلى شجرة الحياة، إلاّ إذا قبِلَ العبور في شجرة معرفة الخير والشرّ، فيكتشف أنه إنسان محدود. في الواقع، أراد الإنسان أن يكون مثل الله. يعني: أن يكون خالداً. أن لا يموت. أن يعرف ما يعرف الله! ومن هنا في ظني، جاءت فكرة الاتحاد بالمسيح، وفكرة الحلول الصوفية!
وهذه الشجرة أمر آدم، أن يأكل منها و يحيا للأبد، فالله قال له من كل شجر الجنة تأكل، إلا شجرة معرفة الخير والشر، ولكنه فضَّل شجرة معرفة الخير والشر، على شجرة الحياة فمات. وتجسد المسيح ليتحد بنا ثانية يُعطينا حياة.
لذا عندما ننظر إلى علاقة هذا الوراق، الذي وظيفته التي يعيش منها، هي بيع المعرفة، والشجرة هي الرمز المقدس للمعرفة، لذا يرتبط بها في علاقة حميمة:
“أول القادمين إلى المدينة هو. و أول نشاطه، أن يسقي الشجرة قبل الماء بشوقه٩”
ثم يبدأ الراوي، في الكشف عن المناخ السيء، الذي يعمل فيه هذا الوراق، الذي كثيرا ما يداهمه كلاب السلطات. يطأون كتبه، و يمارسون عليه هوايتهم في القمع. دون أن يجرؤ على الاحتجاج.
وتتركز بؤرة الضوء هنا على المسئولين.. مرؤوسيهم، ومن ثم ينتقل بنا الراوي، إلى لحظة حاسمة، في مسيرة وقائع وأحداث المسارات السرية للظلال: حينما قرر المسئولون، إقامة كشك شرطة تحت الشجرة “عند الغسق، وقبل شروق الشمس. كان هناك. وكانت الشجرة واقفة مكانها. وتحتها يتربع الكشك الحديدي، بالقرب من جذعها. كالبصاق البذيء. وبعد أن حفروا له عميقا، ولا شك انهم اصابوا عروقها بسوء ١٠ فكشك الشرطة تحت شجرة المعرفة، بمثابة رمز للسلطة المانعة للحصول على المعرفة، عبر التاريخ، كما وصفتها الميثولوجيا والديانات. فضلا عن كون هذا الرمز، أداة عقابية كما رأينا في هبوط آدم للأرض، نتيجة محاولة، الحصول على المعرفة، وبالتالي، محاولة التوحد في الذات الإلهية!
والحديث عن الشجرة، يقود للحديث عن ظلها.. فالظل يستدعي التفكير مباشرة بالشجر. هذه الشجرة.. والشجرة العظمي أم الشجر، شجرة الخلد، التي يسقي هذا الوراق أشواقه لهذه الشجرة، حنينا لتلك! أم تراها هي الشجرة تلك نفسها، التي اكل منها ادم؟ ومن يكون هذا الوراق الذي تضايقه السلطات؟
الوراق، هو الانسان مطلقا، في رحلة بحثه الأزلية، عن الحرية والحق والجمال والخلود! والعوائق التي تعترض طريقه، في هذه الرحلة الخطرة!
هنا ترتبط فكرة الشجرة بالعقاب: الموت والفناء. وإذا تأملنا هذا المعنى، على ضوء ما قيل عن شجرة الخلد في كتب التفاسير، يصبح الظل هو المظهر المادي البصري للأشياء، أو بمعنى الاحتماء من حر الشمس، شمس المعرفة! أو شمس العقاب!
وكلما تعمق الحفر في الظل، و بالظل كأداة تعبيرية ونقدية، ضمن منظومة العلاقات والارتباطات، بالموت والحياة والصيرورة، والخلود والخلق.. كلما تعمقت فكرة الظل، بأبعادها الاسطورية والميتافيزيقية، وأصبحت علاقة الظل بفكرة الموت، والصيرورة، أوضح!
فتلبس ظلال المسارات السرية، سمت شبحي، يشير إلى انعدام الظل، عن الأجسام المادية في هذه المدينة، التي أزمعت الا تعرف الأشجار، فقد فضلت الجهل مع الفناء، على المعرفة مع الخلود! دون أن تدري! وهذا الفقد للظلال حال الموت، وحال الانتقال إلى العالم الآخر، عالم الاشباح! حيث الظل (بالإحالة لفاطمة الوهيبي) “في الحقيقة، إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع، فإذا لم يكن ضوء، فهو ظلمة وليس بظل، إذا حينما يؤول الظل، إلي أصله.. يندرج في حيز النور ويختفي، فالنورعلي عكس ما نتصوره للوهلة الأولى، منطقة غيب و عماء واحتجاب”
يقول ابن عربي: “الظلال محجوبة أبدا، عن موجدها، وظهورها عند طلوع الأنواع، علي من تولدت عنه. وهي أبدا تطلع من خلف حجاب أسبابها، لترى موجدها فلا تراه أبدا، فهي في ظلمة كونها محبوسة، لا تسرح أبدا.. فلا يرى الحق أبدا، إلا من خلف حجاب، فإن سبحات الوجه، لا تقف لها الأكوان. وقال: إذا أحاطت الأنوار بالشمس، اندرج ظله فيه وانقبض إليه ١١ وهكذا تفتحنا المسارات السرية للظلال كنص قصصي، على عالم غني بالمعاني، مفتوح على تأويل متعدد المصادر، الأسطورية والدينية والصوفية.
وإذ يمضي بنا الراوي، واصفا فظائع ما يجري: “انين الأرصفة الدائري، وبكائها المتحشرج، وهي ترزح تحت ثقل الأقدام المنتظرة، في هجير الشمس ١٢ وفي هذه اللحظات العظيمة من التمزق، ينهض تواصل الوراق بالشجرة، في محنتهما المشتركة، لينتهي النص باختفائه، هو ذاته في قلب الظلال “دفعه الفزع للقفز عاليا، حينما تدفقت نظرته العجولة للأسفل، ولم يجد ظله. تراكض هنا وهناك، والصراخ الداوي يسبقه ويشق المدى شقا، والاسئلة المضطردة تلاحق خطاه، التي ضلت نواحي بوصلتها، انها الظلال وقد أخذته معها، في مسيرها السري الغامض ١٣ وكنا أيضا قد عبرنا عن فكرة اختفاء الظل، والأجسام المادية، في روايتنا مارتجلو ذاكرة الحراز ١٤ ومن هنا نرى أن هذا النص لأبي حازم، يقيم حوارا ممتعا مع نصنا مارتجلو.
استخدام أبوحازم لرمزية الشجرة، كادة تعبيرية ونقدية، يحيلنا إلى اخضرارها الدائم، والى فكرة أن الحياة لا تموت، مهما جرت من محاولات لاغتيالها، فهي تنبت من جديد!
وفي الحقيقة رمزية الشجرة للحياة شائعة في الحضارات والديانات القديمة، فحتى آلهة الخصب تم الرمز لها بالشجرة، و امتلأت الجنان، في الحياة الأخرى، سواء في الميثولوجيا او الاديان، بالأشجار، وعلى امتداد التاريخ، تذكر الأساطير، أن إيزيس إلهة القمر والأمومة، وأوزيرس إله البعث ولدا من شجرة طلح، و التي تعتبر شجرة كل شيء حي ١٥
وتصور الديانات المصرية القديمة، شجرة الحياة، تخرج منها أياد الهية، مسؤولة عن العطاء والخصب، وتسكب ماء الحياة من إناء ١٦
وفي الحضارة الفارسية يرد ذكر شجرة العالم، وهي شجرة ضخمة، تحمل كل أنواع البذور، وحسب الأساطير، فقد تنازع عليها أهريمان، إله الشر الذي خلق ضفدعاً، مهمته القضاء على الشجرة، لمنع نمو بقية الأشجار على الأرض، و أهورا مزدا، إله الخير، الذي وضع سمكتين تحرسان الشجرة ١٧ وبهذا، تقترب فكرة شجرة العالم الفارسية، من فكرة شجرة الحياة. كذلك قدست العبادات الكنعانية الطبيعة، بأشجارها ومياهها وجبالها، وإلى اليوم، تظلل الأشجار الوارفة المعابد ١٨
وفي التراث العبراني، كانت أمكنة القرابين “على كل أكمة عالية، وتحت كل شجرة خضراء” كما يقول سفر ارميا ١٩
وتشير فاطمة الوهيبي، إلى أن الآشوريين، كانوا يعتبرون شجرة الحياة، رمزاً دينياً مهماً، و البهائيون كذلك، اتخذوا شجرة الحياة كرمز للمظهر أي الرسول، المعلم الكبير الذي يظهره الله للبشرية، بين الحين والآخر. وهي فكرة لاتختلف كثيرا عن فكرة عودة المسيح او المهدية! فالمظهر هو جذور وساق الشجرة، بينما أتباعه هم الفروع والأوراق.
و في اليهودية، لشجرة الحياة مفاهيم عدة، ترمز إلى التوراة نفسها، كما ترمز إلى الحكمة والروية. وهي الشجرة التي طرد بسببها آدم وحواء من الجنة، بسبب تناول ثمارها، التي تمنح الحياة الأبدية.
وفي بابل، كانت الشجرة، تمثل كل أشكال الحياة الكونية. إنها مقر إله الخصب والعلوم الحضارية، وهي مقر راحة الإلهة الأم، إلهة التكاثر والخصب. وفي الرسوم البابلية الدينية، تحيط النجوم والعصافير والحيّات، بالشجرة الكونية. و في الحضارة: “الأكادية تعني الألوهة ٢٠
حيث أن الإنسان الأول في وادي الرافدين، أول ما عبد، تعبّد للشجرة التي يأكل من ثمارها، ويبني بيته من جذعها وسعفها (أغصانها) ويتدفأ بحطبها، ويصنع من خشبها، كل أدواته البيتية، فكانت بالنسبة له هي الحياة، وبهذا الاعتبار، تكون الشجرة هي الحياة المقدسة، أي حياة الألوهة الخالدة خلود الشجرة. ولذلك فإن ربط الحياة بالألوهة، والألوهة بالحياة، تعني حياة الإله القادر على الخلق والإبداع ٢١هذا الإله الذي قضت عليه المدينة، التي تجري فيها وقائع المسارات السرية للظلال.
غربة:
في هذه القصة، يحكي الراوي، عن العصفور الطليق داخل الإنسان المحاصر، فيستعير صوت طائر، يحكي عذاباته مع فصائل طيور اخرى -بشر آخرون- “كانوا خمسة ملونين وكنت سادسهم. وجدتني بينهم لست من الفصائل النادرة. لكنني كنت لتكملة العدد. ولاشياء تبدو غامضة بالنسبة لي!
اما الخمسة الملونين، فإنه من الواضح، جيء بهم إلى هنا في دفعات، أظنها ثلاث.. ذلك لأن كل اثنين منهم، تتشابه الوانهما ٢٢
يتملك هذا الطائر الإحساس بالغربة، والضيق. إزاء هذا الاعتقال، ويفشل في التواصل، مع الخمسة الملونين، المعتقلين معه -الالوان رمزية للألوان السياسية- فينحسر نحو ذاته، و لا يصبح معتقلا داخل القفص فحسب. بل داخل ذاته أيضا!.. بسبب الحصار الذي يفرضه حوله، الخمسة الملونين: زملاء المعتقل.. وهكذا تمضي هذه القصة، جائسة في أغوار النفس وعذاباتها المضنية.. محاولا -هذا الطائر- تفكيك الحصار المضروب حوله “على ما اظن يقولون اني غريب الاطوار، فضولي متطفل، بل ويذهبون أبعد من ذلك ٢٣
ويستعيد الطائر ذكريات حياته السابقة، عندما كان طليقا “كنت وسرب فصيلتي، نقوم بطلعات مرحة تحت الغيمات النائمة، بتراخ واستسلام فوق رؤوسنا، ولا نبالي بها أن أصابها الصحو و انهمرت علينا ٢٤ ويمضي في تداعياته، وصولا إلى اللحظة التي تم أسره فيها، من قبل طفل شقي، ليجد نفسه بين الخمسة الملونين، الذين اطلق سراحهم دونه، فتتناهبه الافكار بالانتحار أو الاستمرار، في البقاء على قيد الحياة، ثم يبدأ في النضال للخروج من أسرة “هذا هو اليوم التاسع، وانا ما زلت امارس تنفيذها بمنقاري، وساواصل النقر على مكان واحد من السلك النملي، حتى لو اقتضاني الأمر العمر كله، حتما سيلين، وتتقطع أسلاكه الشائكة اخر الامر، اني على يقين ٢٥ أشرت لهذه القصة، بين القراءتين، لأنها تلقي مزيدا من الضوء على العالم القصصي لابو حازم، كعالم مفرداته ترتبط بالطبيعة، بأشجارها وظلالها وطيورها، فالحياة الطبيعية، مصدر إلهام أساسي في أسروداته، إذ تكاد لاتخلو قصة من قصصه، لايتم فيها توظيف مفردات الطبيعة، حيث لا حدود فاصلة، بين الانسان وكائناتها او مظاهرها، إلخ.. فالوجود في النص السردي لابوحازم، واضح التوحد!
يناير بيت الشتاء:
كنا قد تداولنا، في نادي القصة السوداني، المسودة الأولى لهذه القصة، و أبدينا ملاحظاتنا حولها، قبل ان تنشر بعد ذلك في الرافد الاماراتية، وكتابات سودانية بوقت طويل، واذكر أنها أثارت ابتداء من عنوانها، موجة من التساؤلات: بكآبتها الملتاعة، وجرأتها على التحرر مما هو سائد في القص في السودان.
وما تحيل إليه من عالم فوق الطبيعي، مستكنهة، أكثر أسئلة الوجود غموضا: الموت/ الحياة، بكل ما تملك اللغة الشعرية عند أبي حازم، من قدرة على التعبير في -وحول- هذا السؤال الوجودي الكبير، ليشكل سؤال المصير هذا، مفصلا أساسيا في “بنية الحدث” وقتها تباينت انطباعاتنا حولها، وما كان ذلك سوى دليل آخر على أن “يناير بيت الشتاء”، استطاعت أن تلقي حجرا في بحيرة ساكنة، وقالت دوامة هذا الحجر، في التموجات على سطح هذه البحيرة، شيء ما.. خلف ما خلف من أصداء!
حاول بعضنا في ذلك الوقت، ان ينظر الى هذه القصة القصيرة، من وجهة نظر فنية محضة، ليرى فيها نزوعا أدبيا، لاقتفاء أثر الكافكاوية، وآثر البعض الآخر، رؤيتها من منظور نفسي، في محاولة للتفتيش في التجربة الذاتية لأبي حازم -تجربة الاعتقال السياسي والسجن- ولكن كل هذه الملاحقات للنص “يناير بيت الشتاء” ظلت قاصرة، عن الإحاطة بشيء مما انطوى عليه: من أبعاد فكرية وجمالية “ولكن كيف يكون الاقتراب النقدي، من كاتب تجاوز مستويات الانتماء إلى بيئة أو طبقة أو وطن، طموحا الى تقص روح الإنسان، في مواجهة العالم؟
وبأي معيار يتم تقييمه، وهو الرافض لرؤى تجاوزها العصر. والواعي بقصور تلك الرؤي (البعثية) التي عرفها عن احتواء العالم، وعجزها عن اعادة السلام الى روحه!
إن الهدف من الكتابة هنا، عن يناير بيت الشتاء، ليس الدعوة لما تم اكتشافه، ولكن الاعلان بكل درجات الصوت والصمت. عن عذاب البحث عن يقين ٢٦ في هذا الواقع الملتبس، الذي يشككنا في موت الأحياء وحياة الأموات، وفقا لتشكيل لا يخلو من السريالية والعبث! وهو ما يمثل خلاصة للقول السردي في يناير بيت الشتاء، بكل مدلولات الشتاء الكئيبة!
الحكاية في يناير بيت الشتاء:
تتكون القصة يناير بيت الشتاء من حكايتين، تشكلان معا حكاية واحدة.. و لنتمكن من قراءة بنية المشهد في هذه القصة، لابد لنا من محاولة شرحها أولا، لاستكناه معناها العام، مع إدراك أن.. النص الذي كان يدين فيه المعنى للمبدع، أصبح لا يحمل دلالة جاهزة أو معنى نهائيا، وانما إمكانا، من إمكانات معان النص، ويظل المعنى مجرد احتمال، إلى أن يكونه القارىء بالفعل، عوض أن نفترض تحققه بالقوة، لتكون كل قراءة -طبقا لعلي حرب- في نص ما، هي حرف لألفاظه، وازاحة لمعانيه. فليست القراءة مجرد صدى للنص. انها احتمال من بين احتمالاته الكثيرة والمختلفة ٢٧
الحكاية الأولى:
وبطلها كاتب قصة الذاكرة المعطوبة (مأمون ابراهيم علي).. فهذا الكاتب بعد نشر قصته “الذاكرة المعطوبة” في إحدى الصحف، يفاجأ بدعوى مرفوعة ضده. إذ يتضح، أن أسماء شخصيات قصته، مطابقة لأسماء حقيقية في الواقع. والوقائع كذلك..
“يسألك المحقق:
الاسم؟
مأمون ابراهيم علي.
السن؟
اثنان وثلاثون عاما.
وتنهمر الأسئلة، فتجيب باقتضاب. ثم يشير ناحية الرجلين. والفتاة دافعا اليك بالسؤال المباغت:
هل تعرف هؤلاء الناس؟
تلتفت بذهول، وتجيب بصوت كأنه ليس لك:
كلا، لم التقيهم في حياتي من قبل!
يسحب صحيفة قديمة، ويقرأ بصوت مكتبي آمر، لا يخلو من تهكم، عبارة محددة يضغط على كلماتها ببطء ويردد بلا مبالاة: الذاكرة المعطوبة .. الذاكرة المعطوبة .. الذا .. هل تتذكر هذه العبارة؟
نعم؟ فهي عنوان لآخر قصة قصيرة كتبتها.
هل تعترف بأنك كاتب هذا الكلام؟
نعم ٢٨
وفي التحقيق معه اثر تقديم الشخصيات الحقيقية، شكوى ضده. يصاب بالذهول لهذه المصادفة الغريبة، ويصر على انه لا يعرف هؤلاء الناس، وأن ما كتبه محض خيال، فيتم حبسه على ذمة التحقيق، “ويسيطر عليك الذهول والحيرة، وتحاول أن تجد تفسيرا ملائما لوجودك هنا، وما علاقة كل الذي يجري -بهذا النص القصصي!
يعاجلك بسؤال يعيد إليك صوابك:
كيف انك لا تعرف هؤلاء الناس؟!
ما زلت اؤكد انني لم التقيهم قط في حياتي!
مهمتي كمحقق تقتضي ان اعرفك بهم، فهذا الرجل الأشيب ذو الوسامة الهاربة، هو عبد المجيد خضر. أما هذا الرجل فهو السيد على زيدان سائق التاكسي رقم خ أ 6485 تاكسي الخرطوم، وهذه هي رخصة القيادة، وبطاقته الشخصية، والذي أطلق ساقيه للريح كما تزعم في قصتك!..
أما هذه الفتاة فهي، الأستاذة نادية عبد المجيد خضر المحامي وموثق العقود أمام المحاكم الجنائية والمدنية. ماذا تقول في هذه البراهين والحيثيات؟
عند ذلك كان المحقق مبتسما، وهو يفرك يديه، والغبطة مرتسمة على سيمائه، إعلانا بانتصاره عليك (..) ومن بين ركام التلعثمات، تستنكر الورطة وتجيب بجدية غريبة:
إن هذا إلا محض خيال صادف الحقيقة!
إذن ماذا تقول في الوصف التفصيلي. والعنوان الكامل، لمنزل السيد عبد المجيد خضر؟ ثم ماذا تقول عن الرقم الحقيقي، لسيارة السيد علي زيدان؟ ٢٩
الحكاية الثانية:
وتتمثل في قصة الذاكرة المعطوبة نفسها، وشخصياتها الرئيسية: نادية ووالدها عبد المجيد خضر، وسائق التاكسي علي زيدان، الذي يصطحب الفتاة نادية، في وقت متأخر من الليل، ليقلها الى منزلها”..
الناس تهاب أجرتها الباهظة، في مثل هذا الوقت من الليل. أشارت له بالتوقف، وبمحازاتها تماما اوقف السيارة، ودون أن تسأل، فتحت الباب الأمامي، ورمت بجسدها الجميل، الموغل قليلا في السمنة على المقعد (..) الحي الرابع لو سمحت شارع ١٣ ولأنها كانت ترتعش من البرد، يرمي إليها بمعطفه ليدفئها قليلا: “بنخوته أحس أنه يجب أن يفعل، ما يفعله أى رجل شهم مثله، خلع معطفه وألقاه ناحيتها:
يمكن ان ترتديه، فالبرد لا يحتمل.
هكذا قال وتابع النظر باهتمام، في جسد الشارع ٣٠ ويصل بها إلى العنوان، الذي أعطته إياه: “باب أسود ضخم ذو مقبض نحاسي، علقت فوقه لافتة صغيرة، بيضاء. مكتوب عليها ٦٤ شارع ١٣ الحي الرابع منزل عبد المجيد خضر ٣١
وتفاجئه بأنها لا تملك الأجرة الآن، وتطلب منه أن يحضر في صباح اليوم التالي، لأخذ أجرته: “يؤسفني أن لا احمل نقودا الآن، ويخجلني أن أرهقك بالقدوم إلى هنا صباح الغد، ولا مناص من ذلك. فأنا اسمي نادية عبد المجيد خضر، وهذا هو منزلنا ٣٢ وعندما يحضر في الصباح التالي، يفتح له الباب رجل عجوز، وتبلغ هنا الحكاية ذروة تعقيداتها، فالرجل العجوز يصر عليه أنه أخطأ في العنوان!
“لا لم أخطيء العنوان، فقد انسربت بهدوء وثقة داخل هذا البيت. وقرأت أنا اللافتة، المعلقة فوق الباب، لا شك أنك السيد عبد المجيد خضر؟
نعم انا هو، ولكن لي بنت وحيدة، ومقعدة منذ يناير الماضي.
ولكني متأكد من دخول تلك الفتاة هنا، فقد انتظرت حتى أغلقت الباب خلفها ٣٣
وهكذا يمضي الحوار بينهما.. ينفي العجوز، بينما يصر سائق التاكسي على التأكيد:
أقول لك إن لي بنت واحدة ومقعدة، وتقول لي أن إحداهن قد دخلت هنا! ماهذا الهذيان الصباحي الذي اسمعه؟
حسنا، لفك هذا الطلسم، هل يمكنني رؤية ابنتك هذه؟ كان العجوز حريصا على إنهاء هذه التقطيبة الصباحية..
لا مانع من ذلك، ولكن ان لم تجد ضالتك، ارجو ان تذهب على الفور. دون أن تقلق صباحنا أكثر من ذلك ٣٤
وعندما يرى السائق الابنة المقعدة فادية يتضح له أنها ليست التي أقلها، في ذلك الوقت المتأخر، من ليلة البارحة! لكن يسقط في يده وهو يهم بالخروج؛ ونسيان هذا الامر،اذ يرى في هذه اللحظة، صورة فتاة البارحة، معلقة على الجدران!
“شد انتباهه إطار ضخم، لصورة كانت معلقة على الجدار. خلف المقعد، الذي كان يجلس عليه. تسمر السائق محدقا في الصورة ثم هتف:
أنها هي التي أوصلتها بالأمس! وقد تذكرت اسمها، انها نادية عبد المجيد خضر!
لكنه سمع شهقة، كأنها خروج الروح من مكمنها، فالتفت ليرى العجوز، وقد هبط جسده المهدود، كالخرقة البالية، على أحد المقاعد.
اما الفتاة فقد ادارت عجلتها، واختفت في دهاليز المنزل. ثقل اللسان، فخرجت الكلمات واهنة. وبطيئة من فم الرجل العجوز: تقول أن اسمها نادية عبد المجيد خضر؟!
نعم.
أأنت متأكد من ذلك؟
نعم.
لابد أنك قد أصبت بمس من الجنون.
لا ياحاج، انا في كامل رجاحتي العقلية.
انا مضطر لأخطار الشرطة لهذا الاقتحام الغريب! لماذا يا حاج؟
لأن تلك التي تحدثت عنها، قد ماتت منذ الشتاء الماضي، في منتصف يناير ٣٥
ولا يصدق أنه كان يقل فتاة؛ في واقع الأمر ماتت منذ عام! فيصر على رؤية قبرها، فيأخذه والدها الى قبرها:
“هنا تحت أشجار السدر، ترقد فلذة كبدي نادية.
كانت إحدى أشجار السدر، قد غطت القبر تماما، ومالت فروعها المخضرة، على جانبي القبر، أزاح العجوز الفروع النائمة على الشاهد. فقرأه السائق برهبة أقرب إلى الخشوع.
أما الرجل العجوز، فقد بدأ يزيح الأغصان، لتجلية القبر قليلا، وهنا بان المعطف بوضوح، راقدا على ظهر القبر قليلا ٣٦
ولدى اكتشافه أنه كان يقل فتاة ميتة، منذ يناير الماضي يطلق ساقيه للريح!
بنية المشهد:
تتكون يناير بيت الشتاء من ١٢ مشهدا. خمس مشاهد بطيئة، ابتداء من المشهد الأول وحتى الخامس. وسبعة مشاهد درامية سريعة، ابتداء من المشهد السادس وحتى نهاية القصة في المشهد ١٢
اعتمد “أحمد أبو حازم” في هذه القصة، تقنيتين في بناء السرد، من حيث الإيقاع الزمني: تقنية التتالي السريع للأحداث، مجسما في التلخيص. ابتداء من المشهد السابع: والذي يبدأ من لحظة وقوف سائق التاكسي، صباح اليوم التالي، أمام منزل عبد المجيد خضر، ليأخذ أجرته من ابنته نادية، فيدخل مع عبد المجيد خضر في حوار مطول. ينفي فيه عبد المجيد أن لديه بنت تكون قد اقلها سائق التاكسي، ليلة الأمس الى هذا المنزل.
حيث تتلاحق الأحداث في المشهد الثامن. في محاولة أخيرة للوصول إلى تسوية للوضع. إذ يدخل سائق التاكسي مع عبد المجيد، لرؤية ابنته الوحيدة المقعدة. فيستوثق سائق التاكسي عند رؤيتها، أنها ليست فتاته المقصودة، وقبل أن يراها يجول ببصره في الصالون، فيرى صورة عبد المجيد وزوجته.
“جلس السائق على أحد المقاعد. وكان ثمة اطار مذهب عليه صورة لعروسين، في غاية البهاء والرونق. هي نفس ملامح الرجل العجوز، لكنها هنا منحازة لشاب ذي نضارة لا تضاهى.
أيقن السائق انها صورة زفاف ذلك العجوز، في زمان سحيق، مضت أيامه في متاهة الذاكرة، لم يأبه السائق لما تبقى من صور ٣٧
ويتداخل هذا المشهد مع المشهد التاسع.. في حوار آخر بين عبد المجيد والسائق، الذي يفكر في الاعتذار عن الوضع. وقبل أن يفصح عن ذلك. يقع بصره على صورة لفتاته المقصودة، فيترتب على ذلك حوارا، يمضي بالأحداث في منعرج آخر.
ليبدأ المشهد العاشر، الذي هو امتداد للمشهد الذي سبقه، حيث يتشكك السائق.. وتهتز مسلمات الأب عبد المجيد، فيحاولان معا، الوصول إلى يقين. بالذهاب الى مقبرة ابنته.
وهكذا يبدأ المشهد قبل الأخير، بوصف للمقابر: “قطعت السيارة عدة تقاطعات، ثم انسابت عبر طرق ملتوية، وغير معبدة. حتى وصلت ذلك المكان الموحش، الغارق في لجة صمت الأبدية.
ترجلا من السيارة. عبرا دروبا صغيرة متعرجة، تجاوزا عدة قبور ٣٨ ثم يبدأ المشهد الاخير، استرجاعا للمشهد الأول، الذي تم استهلال القصة به. لحظة وقوف الكاتب أمام المحقق…
يلاحظ على المشاهد السابقة، أنها تقع في فترات زمنية متعاقبة، ومحددة تحديدا مكثفا، و مشحونة بالانفعالات!
يقول بيرسي لوبوك: يعطي المشهد للقاريء، احساسا بالمشاركة الحادة في الفعل. اذ انه يسمع عنه معاصرا وقوعه، كما يقع بالضبط، وفي نفس لحظة وقوعه، لا يفصل بين الفعل وسماعه، سوى البرهة، التي يستغرقها صوت الراوي، في قوله. لذلك يستخدم المشهد اللحظات المشحونة.
ويقدم الراوي دائما ذروة سياق من الأفعال وتأزمها في مشهد واحد٣٩ ويلاحظ ايضا ان المشاهد السابقة، مثلت وعاء للاستطرادات والتشعبات والاستباق، والوصف والملاحظات المباشرة، من الراوي، التي تحمل ما تحمل من تحليل نفسي واجتماعي.
ما جعل هذه المشاهد غنية بزخم التقنية.. خاصة أنها تحاول توصيل فكرة محددة، تتعلق بماهية ما رآه سائق التاكسي: هل هي المرحومة نادية عبد المجيد، التي أصيبت أختها فادية بالشلل، في ذات فترة موتها في يناير الماضي!
وعلاقة الحركة للتمتع بمباهج الحياة -في السهرات والرقص، مثلا “بفقدان القدرة على الحركة بسبب الشلل بالنسبة لفاديا- أم هي روحها الهائمة، تحاول إيصال رسالة ما لأسرتها! ام انها شيء آخر!
ولعل السبب في التفكير، في مثل هذا الموضوع، كموضوع قصة قصيرة. تلك الرغبة المتزايدة لدى احمد الجعلي، في مسرحة الأحداث، وعرضها دراميا، لتمويه الممارسة الفانطاستيكية، وحجب نواقصها.
وأيضا لمحاولة التخلص، من سلطة الراوي ذو الصوت المنفرد، وغير المقنع دراميا، وفسح المجال لتعدد الأصوات، في النص السردي الواحد.
فالمشاهد السبعة، التى اشرنا اليها، أثبتت قدرتها على كسر رتابة الحكي، بضمير الغائب، الذي ظل يهيمن على أساليب الكتابة السردية ٤٠
وفي اعتماد احمد ابوحازم، على تقنية التتالي البطيء، ابتداء من المشهد الأول، الذي يصور كاتب القصة في الزنزانة، والمناخ النفسي الذي يحيط به “العرق ينزف بإصرار الجرح الجديد، و الدهشة والارتباك يصكان اوصالك، ينفتح لك الباب، ذو الصرير العالي. والمرهق كالانين. تأخذ طريقك بصعوبة، عابرا الأجساد المكدسة، كأكياس.. تتلقاك رائحة البول. تصاب بانقباض طفيف. وشعور بالتقزز حاد، و علقمي. كالصدأ يغزو دواخلك (..) تخرج لتدخل عدة أبواب، بعدها تعبر دهليز خافت الضوء، لتجد نفسك في نهاية المطاف، وجها لوجه أمام المحقق.
وثمة رجلين وفتاة يجلسون بهدوء، ولكنهم يتفحصونك بنظرات غريبة، وتكاد عيونهم تشربك ٤١
ويستمر هذا المشهد النفسي، إلى أن يبدأ التحقيق في المشهد الثاني، ليقفز بنا المشهد الثالث، إلى اللحظة السابقة لركوب نادية التاكسي.
ليبدأ المشهد الرابع بركوبها التاكسي، واستهلال الحوار بينها وبين السائق “فتحت صدفة الصمت، فخرج صوتها ذو التكسرات الخشبية الغريبة لتقول:
انه يناير بيت الشتاء وصوت الريح.
التفت ناحيتها (..)
إنه قلب الشتاء ونبضه..
قالت: انه وحشي كنثار الزجاج تحت الأجساد المتعبة. قال: اننا نحس فيه بمعنى الدفء، ونستدرك ان اجسادنا مكتملة.
قالت: بالعكس فإنه يشعرنا بالكآبة والحزن. انه قاس وقاتل.
قال: إنه يشعرني بالاستقرار والانتماء.
قالت: انه يشعرني بالتيه والموت. انه يناير الوحشي عليه اللعنة والطعنات المرة (..)
وواصلت هي حديثها، بنفس الصوت الخافت و النبرة الغريبة:
ما أقسى أن تموت في الشتاء! ٤٢
وهكذا تختم الفتاة بهذه الجملة المشهد الخامس، ليبدأ المشهد السادس في وقوف سائق التاكسي، يلاحقها ببصره حتى تدخل إلى منزلها.
فضلا عن الوظيفة الأساسية للمشهد السردي، فهو يقوم بدور حاسم في تطور الأحداث، وفي الكشف عن الطبائع النفسية والاجتماعية للشخصيات. وهو ما نلاحظه في الحوار، بين السائق والفتاة، الذي عبر كحوار، عن شخصيتين متناقضتين في مفهوميهما للحياة والموت.. وعلى إصرار رهيب على الحياة، ورفض كل ما يوحي بالموت، بدء بالشتاء الذي تتساقط فيه حتى أوراق الشجر، وتيبس الأغصان!
ثمة وظائف أدتها المشاهد يمكننا إجمالها في:
محاولة الراوي ايهامنا بالواقع -ثمرة قول الراوي- التحام المشهد بفعل القص، من خلال الصراعات والحوارات والوصف، باعتباره عملية معقدة، خلال الانتقال من تقنية إلى تقنية أخرى – حيث تضمن هذه الأفعال، الانتقال من السرد إلى الحوار والعكس.
فالمشهد والحوار متماهيان.. في المشهد والحوار يكتب الأديب ما لا ينطق به ٤٣ وهو ما يوحي أننا نكاد نشعر بحركة كاميرا، تضعنا في الحدث، بحيث نصبح جزء منه. فقد استخدم ابوحازم هنا، تقنية المونتاج السينمائي، ما أعطى القصة يناير بيت الشتاء حيوية، وجعلها مفتوحة على تأويلات مختلفة.
………………
هوامش
١ – ٤. دروب جديدة (أفق أول)، منشورات نادي القصة السوداني، (قصص قصيرة لعشرة كتاب)، عن دار مكتبة الشريف الاكاديمية الطبعة الأولى ٢٠٠١ . ص: ١٥، ١٦، ١٧
٥. دكتورة فاطمة عبد الله الوهيبي، الظل: أساطيره وأبعاده المعرفية والإبداعية، طبعة أولى ٢٠٠٨
٦ و ٧. المسارات السرية للظلال، ص: ١٧و ١٨ من دروب جديدة أفق أول (سابق).
٨. فاطمة الوهيبي، مصدر سابق.
٩. دروب جديدة، السابق، المسارات السرية للظلال، ص: ٢٢ -٢٤
١٠. السابق، ص: ٢٦
١١. ابن عربي. الفتوحات المكية، الطبعة الأولى ١٩٨٥، الهيئة المصرية للكتاب، ص: ٧٠
١٢و ١٣. دروب جديدة، سابق، المسارات السرية للظلال. ص:١٨
١٤. أحمد ضحية، مارتجلو.. ذاكرة الحراز، دار عزة للنشر، الخرطوم، ٢٠٠٣
١٥- ١٩. ميرسيا الياد، تاريخ المعتقدات والافكار الدينية. ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق طبعة أولى ١٩٨٦.
٢٠. مجلة الرافد الاماراتية،دائرة الثقافة والإعلام،الشارقة،العدد ٨٤أغسطس ٢٠٠٤ص: ٨٦
٢١. السابق، ص: ٨٧
٢٢ – ٢٥. كتابات سودانية (كتاب غير دوري)، مركز الدراسات السودانية، العدد ٢٢ ديسمبر ٢٠٠٢ ص: ١١٦،١٢٢،١١٨،١١٩، ١٢٠
٢٦. مجلة الرافد الاماراتية، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، العدد ٨٤ أغسطس ٢٠٠٤ص: ٨٦
٢٧ -٣٨. السابق، ص: ٨٧،٨٨، ٨٦
٣٩. محمد السيد محمد ابراهيم . بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ (دراسة في الزمان والمكان) الهيئة العامة لقصور الثقافة، طبعة أولى ٢٠٠٤، ص: ١٤٩
٤٠ – ٤٢ كتابات سودانية، سابق.
٤٣. محمد السيد محمد إبراهيم، سابق، ص: ١٥٤
——————————————-
*قاص وروائي سوداني مقيم بالولايات المتحدة.