الطفلة والنسر

صورة الطفلة والنسر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

أختى حورية، والجميع:

 صورة “الطفلة الجائعة والنسر” (Vulture Stalking a Child)، ومعروفة باسم “الطفلة والنسر”، لَقَطها المُصَوِّر الصحفى “كيڤين كارتر” (Kevin Carter)، سنة 1993، لطفلة من قرية “أيود” السودانية، فى مجاعة السودان، كانت الطفلة تزحف بجسم متهالك باتجاه مركز لتوزيع الطعام، وتوقَفَتْ تلتقط أنفاسها، يقول “كيڤين” إنه بينما يستعد لالتقاط الصورة ظهَرَ النسر، وحَطَّ خلف الطفلة على بُعْد أمتار قليلة، ينتظر موتها لينقَضّ، قال “كيڤين” إنه انتظر 20 دقيقة كى يفْرِدَ النسر جناحيه، ويحصل على أفضل صورة ممكنة، لكن النسر لم يَفْرِد جناحيه، فلَقَطَ الصورة كما نعرفها، وانتشرَتْ فى العالم كله، وحصلَتْ على جائزة بوليتزر سنة 1994.

 قال “كيڤين” إنه طَرَدَ النسر بعدما لَقَط الصورة، وشاف الطفلة تُكمل زَحْفَها باتجاه مركز توزيع الطعام، لكنه لم يتأكَّد من وصولها، كان عنده تنبيه مُسْبَق بعَدَم لَمْس الأطفال هناك تَجَنُّبًا للعدوى (لا أُبَرِّر شيئًا هنا، ولا أُدِين).

تَوَاصَلَ المئات من أنحاء العالم مع صحيفة “نيويورك تايمز”، التى نَشَرَتْ الصورة لأول مرة، يسألون عن مصير الطفلة، ورَدَّتْ الصحيفة بأنهم لا يعرفون، ولا يعرفون أحدًا يعرف إنْ كانت الطفلة وصَلَتْ لمركز توزيع الطعام أم لا.

تَعَرَّضَ “كيڤين” لاتهامات وهجوم شديد، بأنه لم يهتم إلا بالتقاط الصورة، ولم يساعد الطفلة.

حورية.. لوحده كان “كيڤين” هناك، وربما فكَّرَ وقتها أن التقاطه الصورة هى الطريقة التى يمكنه بها إنقاذ الطفلة، أو فَكَّرَ فى شىء آخر.

لكنى لا أتوقَّع أنه كان يُواجِه سؤال: هل أُنقِذ الطفلة أو أَلْقُط الصورة؟

لو كان السؤال واضحًا فى عقله لحْظَتها، ربما تَصَرَّف بطريقة أخرى، لكن، بطبيعة الحال، الطريقة الأخرى لها نتائج أخرى، وغالبًا لم نكن لنَنْتَبِه أو نُبالى بجَدّ لِما يحصل هناك لولا صورة “كيڤين”، اختلفَ الوَضْع تمامًا بعدما شُفْناها.

أقول.. الصورة هى مَنْ شافتْنا ورأتْنا.. كشَفَتْنا.

ماذا لو كنتُ أنا مكان “كيڤين”؟

أىّ واحد منا، الآن، هنا، سيفكر أنه متأكِّد ويعرف جدًا ما كان سيفعله، لكن لو كان هناك فِعْلاً فى لحْظتها؟

تَصَرَّفَ الكل ضد “كيڤين” وكأنهم ما كانوا عارفين بالمجاعة، وأطفالاً يموتون جوعًا، الكل نَصَّبُوا أنفسهم قُضاة وجَلّادين ونمورًا، رغم أن “كيڤين” هو نفْسه مَنْ قَلَب الدنيا لأجل الطفلة ورفاقها بصورته.

سهل جدًا نكون جلاّدين.

نتلذَّذ لمَّا نُجَهِّز عُقدَة المشنقة، ونَجُرُّ شخصًا نُعَلِّقُه فيها، ونتفَرَّج.

سَهْل نكون إنسانيِّين طالما لم نَمُرّ باختبار حقيقى يقيس إنسانيتنا.

لم يُبالِ “كارتر” هناك؟ مَنْ منّا يقولها بضمير مرتاح؟

أفكر أنهم ممكن هاجَموا “كيڤين” كنوع من الدفاع عن أنفسهم، دون حتى أن ينتبهوا لذلك، لأن الصورة التى لَقَطها قالت لهم إن المجاعة موجودة والأطفال يموتون جوعًا وأنتم هنا، هاجَموه ليُعاقِبوه على ما كَشَفَتْه الصورة لهم وعنهم.

حورية، هل انتهت المجاعات والحروب من العالم؟ ها؟ لا، تدور بمنتهى الروعة، تحت عيوننا، وإيه..؟ نُبالى؟ أقصد نُبالى فِعْلاً بجَدّ؟ عارفة؟ نحتاج مِثل صورةَ “كارتر” لنُبَالى، لتُجْبِرنا نُبالى.

 هل يُمكن طَرْح سؤال مثل: التقاط صورة استثنائية قد تُنقذ الآلاف أَم مُحاوَلَة لإنقاذ إنسان؟

هل نتوقَّع إجابة واحدة أو تَصَرُّفًا واحدًا؟ وهل تتغَيَّر إجابتنا أو تَصَرُّفنا لمَّا نكون فى مواجهة مع التجربة لوحدنا، نتفاجأ هناك باختياراتنا وتَصَرُّفاتنا؟

أتساءل، ماذا لو لقَطَ “كيڤين” الصورة قبل ظهور النسر؟ لو انتظر وقتًا أطول ليَفْرِدَ النسر جناحيه، فلم يَفْرِدهما وابتَعَد، وبَقَت الطفلة لوحدها فى الصورة، هل كانت لتَقْلِب الدنيا؟ لا أتوقَّع، غالبًا ستفوت من غير أثَرْ كأىّ صورة عن نفس المجاعة، ولا كانوا سألوا “كيڤين”: لماذا تركْتَ الطفلة؟

ماذا لو لم يلْقُط “كيڤين” الصورة، وبدلاً منها وصَّلَ الطفلة لمركز الطعام، هل كان هذا لينقذها فِعْلاً؟ ومَنْ يُوَصِّلها المرة القادمة، والمرة الألف؟ ومَنْ يُوَصِّل آلاف الأطفال غيرها؟

الإنقاذ ليس سهلاً.

الإنقاذ سهل.

 لا نحتاج صورة لطفل مات أو يموت بسبب الجوع، سهل وشائع للأسف، نشوفه كل يوم، نحتاج صورة استثنائية، تَطعننا، تُحَرِّرنا، لَقْطَة لا تتكَرَّر فى حرب تستمر سنوات، أو مجاعة تقضى على آلاف، ومُهم يكون فى اللقطة لمسة فنية، كأنها صورة فنية من صُنْع الواقع، يُمكن حتى وصفُها بأنها جميلة أكثر منها مأساوية.. أو مأساوية لأنها جميلة لهذه الدرجة.. جمالها من مأساتها، ومأساتها من جمالها.. حاجة غريبة، صَحّ؟

الصورة يا “حورية”، أنْ يكون المُصَوِّر حاضرًا فى اللحظة المناسبة، أحيانًا تكون حياته على المَحَكّ، أو يلاقى نفسه بمواجهة اختيارين أو ثلاثة أو أكثر، ومطلوب منه يختار، عارفة؟ المُصَوِّر لا يختار وقتها، اللحظة تقوده، وتختار له، لأنها بطريقة ما، اختارتْه لنفسها من البداية.

“كيڤين كارتر” كان حاضرًا فى اللحظة المناسبة، وقتما كانت الطفلة تزحف، ولمَّا توقفَتْ لتلتقط أنفاسها، وكان حاضرًا لمَّا ظَهَر النسر، ولَقَط الصورة فى اللحظة المناسبة قبل الابتعاد المُحْتَمَل للنسر، و”كيڤين” ربما لَقى نفسه بمواجهة اختيارين، أو حتى ما انتَبَه أنه بمواجهة اختيارات، أو.. أيًّا كان، اللحظة بنفسها اختارَت له ما يفعل، لأنها من البداية اختارته لنفسها.

أتساءل، كم طفلة وطفلاً أنقذَتْهم الصورة؟ وممكن تكون الطفلة نفسها واحدة منهم.

حورية.. أنا أتساءل، أفكر.. لا أَحْكُم.

انتحرَ “كيڤين” بعد ثلاثة شهور من استلامه الجائزة، كان عمره 33 سنة، ترك رسالة كتَب فيها: “تُطاردنى ذكريات حية من عمليات القتل والجثث والغضب والألم، لأطفال يتضوَّرعون جوعًا أو جَرْحى”.

تَوَقَّعَى يا حورية، الهجوم على “كيڤين” كان من أسباب انتحاره.

النسر ما زال موجودًا، وله كِرْش كبير.

………………………

*من رواية: “لا تمت قبل أن تحب”، صدرت حديثًا عن دار “العين”

*الصورة من “ويكيبيديا”

مقالات من نفس القسم