الطبيب

أندريه دوبوس
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أندريه دوبوس

ترجمة: راضي النماصي

بدأ ذوبان الثلج في أواخر مارس. انزلق في البداية من المنحدرات والطرق، ثم بدأت الجداول بالجريان، وما بقي في النهاية إلا بضع قطع ضحلة في القيعان وتحت ظلال الغابات. كانت هناك أربع أيام مشمسة بجو دافئ في أبريل، وفي اليوم الأول طلب آرت كاستاغنيتو من ماكسين أن تضع بيجامته في الدولاب حتى العام القادم. نام في تلك الليلة بقميص خفيف، وحين لاحظ في الصباح التالي أن الجرار المخصصة لترطيب الجو فوق المدفأة فارغة تركها دون سقيا.

لم تسلّم ماكسين بالوضع في اليوم الأول أو الثاني، لكنها أخرجت مشوى الفحم في ظهيرة اليوم الثالث من مدخل السيارة مرتديةً قميصًا خفيفًا وبنطالًا قصيرًا، ثم وضعته في الباحة الخلفية وشوتْ شرائح لحم، حتى أنها طلبت من آرت أن يجلب التونيك وشرائح الليمون الأخضر من أجل مشروب الجين. حدث ذلك في ظهيرة يوم سبت. جلسا في الخارج على كراسي نزهات مصنوعة من الكانفاس وقالا لابنتهما تينا ذات الأربع سنوات إن مشاهدة الفحم مسموحة، لكن يجب ألّا تلمسه لأنه مشتعل وإن لم يبدُ كذلك. حين جهزت شرائح اللحم، باتت الشمس خلف الغابة في قفا المنزل، فجلبت ماكسين كنزات لآرت والأطفال الأربعة كي يستطيعوا الأكل في الخارج.

هطل الثلج في يوم السبت. كان نديًا في البداية ويذوب على العشب الميت، لكن الرقائق صارت أثقل وتهبط ببطء مثل أوراق الشجر الصغيرة فغطت الأرض. ذاب الثلج بعد يومين وصار كل يوم منعش بغيوم متلبدة أدفأ من ذي قبل، ثم بدأت الغيوم تنقشع بحلول ظهيرة يوم السبت، إذ بات الغروب واضحًا وآرت يخرج كل ليلة قبل النوم ليتأمل النجوم. استيقظ صباحًا في غرفة نومه التي أضاءتها أشعة الشمس. ترك ماكسين نائمة وارتدى قميصًا وبنطالًا رياضيًا وحذاءي ركض ونزل إلى الطابق السفلي ماشيًا على أطراف أصابعه ومعطفه على يده، لأن قلة النوم سجيّة أطفاله خلال عطل الأسبوع، ثم وضع قميص نومه في سلة الغسيل الوسخ، إذ لن يستعملها مجددًا حتى الخريف القادم.

أدى تمارين الإحماء على المساحة العشبية أمام المنزل، ثم ركض على الرصيف الذي حاذى الغابة لمسافة نصف ميل، لذا شم رائحة الصنوبر وأحس بالشمس في الهواء. تخطّى منزل آل ويتفورد. لم ير الرجل والمرأة قط، بيد أنه قرأ اسم عائلتهما على صندوق البريد وربط بينه وبين الأطفال الذين يلعبون في الغالب على الطريق أمام المنزل الرمادي الكائن في الخلف بين الأشجار. كانت ساحته الوسخة كبيرة بما يكفي فقط للبيت ولسيارة فورد صدئة وشجرة دردار تتدلى من أحد أغصانها أرجوحة من إطار وحبل. كان المنزل في ذلك الوقت هادئًا ومظلمًا، ويساور المرء اعتقاد بأن من فيه نائم. مر بالمنعطف فرأى ثلاثة من أطفال آل ويتفورد قرب الجدول.

كان الجدول ضحلًا، وقد ولّت أفضل أيامه في الشتاء بماءه المتجمد. وقد جرى صافيًا في أسابيع الربيع الأولى، لكنه صار راكدًا بعد ذلك حتى جفافه في شهر يوليو، وطالما استخدمه بوصفه علامة طريق حين يدل الناس على بيته، فيقول “ستصل إلى جدول فوقه جسر حجري”. وعلى أن الجسر فعليًا ليس من حجر، إذ أن جدرانه الحامية مبنية من كتل اسمنتية مستطيلة موضوعة فوق بعضها لما يقارب المتر، إلا أنه ربط ما بين السور الحجري والجسر الحجري واعتبرهما شيئًا واحدًا. هناك بيت أحمر في المنحدر فوق الجدول، يسكنه زوجان بلا أطفال. والآن يغادره الرجل الذي باع بوليصة تأمين حياته في بوسطن بينما تجر سيارته قاربًا ومقطورة خلفها، وإذ لوحت زوجته بالوداع من ممر السيارة، توقف أولاد آل ويتفورد عن رمي الحجارة في البركة زمنًا يكفي للتلويح أيضًا. سمعوا قدمي آرت على الاسفلت فالتفتوا ليشاهدونه. وحين وصل الجسر، قال أحدهم له “مرحبًا أيها الطبيب”، فابتسم آرت وقال “مرحبًا” لهم بينما يمر. وإذ عبر الجسر، نظر إلى الأسفل حيث يجري الجدول، فوجده يتحرك ضحلًا وبطيئًا باتجاه الجانب المظلم من الغابة.

كانت هناك عدة منازل على بعد أكثر من كيلو متر ونصف من الجدول وبينها مسافات قصيرة تغطيها أشجار الغابة. في المنزل الأول، تقرأ عائلة جرائد يوم الأحد بينما تجلس على طاولة نزهات نصبتها في الخارج. شعر وكأنه جاسوس، فقد مرّ بهم ولم يسمعوه. أما العائلة التالية في الطريق على مسافة تسعين مترًا فمنهمكة في العمل، إذ تخرج فتاتان صغيرتان القمامة، بينما يحفر الرجل والمرأة مكانًا لزراعة الزهور. التفت الوالدان ولوّحا، فهتف الرجل “إنه يوم مناسب للجري!” وفي البيت التالي، كان ثنائي شاب يغسلان سيارتهما الفوكس واجن، إذ تستعمل الفتاة الخرطوم والشاب يمسح طين الشتاء بعيدا، وقد نظرا ولوّحا كذلك. صار قميص آرت الآن رطبًا وباردًا وقد نال منه التعب.

كان الحال طوال الطريق هكذا: أناس ينظفون مروجهم الأمامية، ويغسلون سياراتهم، وبعض منهم يكتفي بالجلوس فقط تحت السماء والشمس الساطعة، إضافة إلى رجل أصلع ضخم يحمل علبة جعة عاليًا ويضحك، بينما يتقاذف صبيان قرص فريزبي بينهما أمام أحد المنازل، وعلى مبعدة منهما يرمي رجل يرمي كرة بلطف لابنه الصغير الذي ارتدى قبعة بيسبول ونصب المضرب مستقيمًا نحو الأعلى. تعدى صبي وفتاة آرت بسيارتهما الـ«إم جي» الخضراء الملمعة بينما يهب شعر الفتاة الحاسر على خدها إذ تميل فتقبل أذن الصبي. أخذ كل من في المرج يلوح لآرت رغم أن لا أحد منهم يعرفه على وجه القرب، إذ يعلمون فقط أنه طبيب الولادة الذي يعيش في المنزل الكبير بالغابة. حين قفل عائدًا وأخذ يهرول صوب بيته، لوح له من يصادفه أو حادثه مرة أخرى على وجه العادة والألفة وليس عفو الخاطر. ركض على المنحنى بطول ربع ميل عن الجدول، وكانت المرأة قد عادت إلى منزلها وأطفال آل ويتفورد اختفوا أيضًا، كما انسلّت السناجب والقنادس أمامه إلى داخل الغابة على طول الطريق الذي قطعه وحده.

ثم حدث خطب ما – أحس به قبل أن يدركه، إذ حين ظهر الصبيان على مرمى نظره من الجدول، بدأ يركض بأقصى سرعة وخامره إحساس لحظي بالامتنان للقوة المتبقية في ساقيه رغم أنه لم يدر أصلًا لأي سبب كي يركض بسرعة وقوة. قطع الشارع الاسفلتي راكضًا بأقصى سرعة، بينما اجتمع الصبيان متحلقين حول المرج باتجاه المنزل الأحمر، ثم هتف ما إن وصل الجسر.

لم يتوقفا حتى هتف مرة أخرى، فالتفتا إلى الخلف بوجهين شاحبين وفاغرين، وأشارا إلى الجدول ثم ركضا باتجاهه مجددًا. أخذ آرت يغذ الخطى في الطريق بينما يميل إلى الوراء إذ ينزل الضفة الصخرية القصيرة قرب نهاية الجسر، فرأى أول ما رأى مستطيلًا اسمنتيًا راقدًا في المياه البطيئة. غمره الإحساس مجددًا قبل إدراكه: كان في الماء حتى ركبتيه، مقعيًا أمام الكتلة ويحاول إقحام أصابعه في الرمل تحتها قبل أن ينظر إلى الأسفل باتجاه الوجه والكتفين والصدر، ثم رأى الذراعين أيضًا تنتفضان تحت المياه في ما يبدو محاولة للخروج من الثلج المتراكم. لم تصل يدا الصبي الشاحبتان إلى السطح.

أدرك آرت في خمس ثوان تقريبًا أنه لم يستطع رفع الكتلة، فركض إلى أعلى المرج حيث المنزل الأحمر وتخطى الدرج واقتحم الباب صارخًا بينما اصطدم بطاولة المطبخ مشيرًا بيدٍ إلى الهاتف على الجدار وبالأخرى إلى المرأة ذات الرداء الأصفر التي تراجعت قليلًا بينما تحمي وجهها بذراعيها.

قال “اتصلي بدائرة الإطفاء! هناك صبي يغرق!”، مشيرًا بيده إلى الخلف باتجاه الجدول.

كانت سريعة، إذ تمعر وجهها وتحركت صوب الهاتف، وكان ذلك كافيًا. فخرج مجددًا وكاد يتعثر بسبب الدرج ثم تخطى ما بين الصبيين الذين وقفا صامتين أمام الجدول. عزّ عليه أن يصدق كون الموقف بهذه البساطة والاستحالة في آن. أقحم يديه تحت الكتلة وأخذ يرفعها بذراعيه وساقيه، فسمع أحد الصبيين خلفه يصرخ باكيًا “لقد سقطتْ على تيري. لقد سقطتْ على تيري.”. مد ذراعه مقعيًا في المياه نحو فم ابن آل ويتفورد وسد فتحتي أنفه؛ ثم صرخ سخطًا لأنه الآن من يقتل الطفل، فأزاح يديه بعيدًا. توقفت يدا الصبي عن الحركة – بدا وكأنهما تستريحان على جانبيه – فنزل آرت وتحسس الذراع اليمنى ثم أخرج يده من المياه. كانت الذراع الصغيرة صلبة ومشدودة وترتعش. لمس آرت الذراع اليسرى بينما يمرر يده عليها بالطول، فأحس بأصابع الصبي تدفع الكتلة.

تغير لون السماء، وقطع صمتها صوت خال من الملامح يميز ليالي الشتاء – بوق سيارة الإطفاء –، وفي الهدوء الذي تلاه سمع صوت امرأة تتحدث مع الطفلين، فالتفت ونظر إليها تقف بجانبه في المياه، وفجأة راودته رغبة بأن تضم صدرها إلى صدره، لكنها حدجته بعينيها من أجل فعل أي شيء، فأقعى وحاول رفع الكتلة مرة أخرى، فصارت بجانبه، وحاولا معًا إلى أن أتى أربعة إطفائيين متطوعين من جهة صوت الإنذار الذاوي حتى خاضوا في الماء ليصلوا.

لا أحد يعرف سبب سقوط الكتلة، وكلما فكر آرت طوال الظهيرة محاولًا فهم ما حدث، أحس بدماغه يغدو حجرًا، وقد حاول التوقف عن التفكير لكنه لم يستطع. بعد ثلاثة كؤوس من الشراب، رأى في الكتلة ما اعتقده بشأن السرطان: أن لديها رغبة قتل، وواصل الحديث عنها هكذا حتى قالت ماكسين “لم يكن بمقدورك فعل شيء. لقد تطلب الأمر خمسة رجال وامرأة لرفعه.”

كانا يجلسان في الباحة الخلفية وكرسيهما ملتصقان بينما تمسك ماكسين يده. أما الأطفال فيلعبون أمام المنزل، لأن ماكسين أخبرتهم بما جرى، وقالت إن والدهم أمضى أسوأ يوم في حياته، وعليهم أن يدعوه وحده لفترة. أبقت على كأسه مليئًا بخليط من الجن والتونيك، وفي لحظة ما أخذت تينا تصرخ، ففزَّ من كرسيه، لكنها جذبت معصمه وشدته ثم قالت “الأمر هين، سأتولّاه.” بحثت في أرجاء المنزل، وسرعان ما توقفت تينا عن البكاء، وعادت ماكسين قائلة إنها وقعت في مخرج السيارة وخدشت كوعها، بينما أخذ آرت يرتعد.

“ألا تود تناول بعض المهدئات؟”

هزّ رأسه ثم شرع يبكي.

كانت إجابة – أو احتمال على الأقل – في انتظاره صباح الإثنين، وكأنها اختارت طوعًا أن تنفذ إلى ذهنه مع طنين ساعة المنبه. استيقظ بسرعة ووقف في مكان يخترقه خط من نور الصباح. أشاحت ماكسين ببطانيتها صدًا عن الساعة، إذ لا تزال مستغرقة في نومها.

ارتدى بنطالًا رياضيًا وحذاءً جلديًا ثم نزل إلى الأسفل وذهب إلى الخارج في الطريق نحو الجدول. أراد الركض لكنه واصل مشيه. ذهب إلى الجهة الأخرى من الطريق قبل وصوله منزل آل ويتفورد، حيث يقع في الخلف جهة الغابة بهدوءه وتحت الظلال التي تغمره. مشى طوال الطريق باتجاه الجسر قبل أن يتوقف وينظر إلى الأعلى حيث المنزل الأحمر. ثم رآه، ولم يدرِ (ولن يدرِ) ما إذا كان قد رآه بالأمس أيضًا حين اتّجه إلى الباب أو ظن أنه رآه من قبل، لكنه كان موجودًا: خرطوم مياه أخضر ساطع مخصص للحدائق وملفوف بجانب المنزل تحت ضوء الشمس.

مشى إلى المنزل، ثم اتجه إلى الباحة الجانبية حيث كان خرطومه موجودًا طوال الشتاء، مربوطًا بالصنبور. وقف ينظر إليه، ثم ذهب إلى الداخل وصعد الدرج بين أصوات التنفس وأخذ سكين الجيب. تحرك في ذلك الوقت بوتيرة أسرع نازلًا الدرج باتجاه الخارج، ثم أخذ طرف الخرطوم المتصل بالصنبور فقطعه، وقطع الطرف الآخر، ثم أبعد سكينه وأقحم أحد طرفي الخرطوم في فمه وسدَّ فتحتي أنفه بين اصبعين وبدأ يتنفس.

شرع يتأمل شجرة قيقب عارية من الأسفل إلى الأعلى، ثم مشى حول المنزل إلى سيارته الـ«بيويك» وفتح الغطاء الخلفي. كانت أصابعه ترتعد بينما يضع قطعة الخرطوم في الداخل بجانب عدة الإسعافات الأولية ومجراف ثلج صغير حمله طوال فصل الشتاء.

 

 

 

مقالات من نفس القسم