“الطاهي يقتل .. الكاتب ينتحر”..طبخة جديدة لعزت القمحاوي.

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بالحكاية والطبخ تمكن البشر من استئناس بعضهم بعضًا، وصارت لدينا مجتمعات بشرية، ولم يزل الطعام حاضرًا في الاحتفالات الاجتماعية الدينية، بل هو أكثر رسوخًا مما نتصوره، فالمصريون والفرس، وغيرهم من الشعوب القديمة، غيروا دياناتهم، لكنهم لا يزالون يحتفلون بالطعام الذي كانوا يتناولونه في أعياد دياناتهم البائدة، حتى الشعوب الأكثر حداثة صارت لها تقاليدها، فالأميركيون، من يعرف طريق الكنيسة ومن لا يعرفه، لا يتخلفون عن اجتماع العائلة حول الديك الرومي في عيد الشكر.

هكذا يبدأ عزت القمحاوي كتابه البديع عن العلاقة بين الطبخ والكتابة “الطاهي يقتل… الكاتب ينتحر”، ليرصد بمهارة وعين فاحصة نابشة عن تاريخ الحكاية والطبخ، منذ “ألف ليلة وليلة”، وموائد السلاطين، والقراء.
يقول في كتابه الصادر عن الدار المصرية اللبنانية للنشر:

لدينا مثل عبقري: العين تأكل، للإشارة إلى أهمية الشكل والوفرة، ويستطيع الرسام العاشق للطبخ الحديث عن التوازن والتناغم بين الألوان في طبخة جيدة. يظهر ذلك واضحًا في اللت والعجن الذي يتطابق مع ما كان القدماء يسمونه التحكيك والترتيب للوصول إلى حسن السبك والجزالة في الكتابة، مع أن بعض الثرثرات في الرواية لا غنى عنها، مثل ثرثرة مارسيل بروست، التي صنعت حكمة “الزمن المفقود”، وثرثرات دوستويفسكي، التي كشفت جوهر الإنسان.

الوقت الذي ينفقه الكاتب في المطبخ ضروري لبناء مهارته في الكتابة، فهو وقت للتأمل وتفريغ التوتر والخوف من الكتابة ومن القارئ

يتوغل القمحاوي في العلاقة بين الرواية والطبخ ليقول:

إن العلاقة بينهما لا تقف عند حدود الاستعارات والتشبيهات التي يمكن نقلها من أحد المجالين إلى الآخر، الروائيون الأوفياء لحواسهم ينتبهون الى أهمية الطبخ داخل نصوصهم، مستوى حضوره الأبسط يساعد على الإيهام بالتشابه بين الرواية والواقع، والدور الأعمق والأهم للطبخ في الرواية يتمثل في طاقته السردية عندما يكون عاملًا مهمًا في بناء الحدث والشخصية.
بسبب كل هذه التشابهات بين الحكاية والطبخ، اعتقد الكاتب دائمًا أن الكتابة عمل أنثوي، وأن الكاتب الرجل في حاجة إلى وقت يقضيه في المطبخ لتأنيث روحه، وتعويد حواسه على الرهافة، ومعرفة الاعتدال والقصد في طبخته الأدبية: القدر المناسب من المكونات الأساسية، كمية البهارات، أنواعها، وأوقات إضافتها، كذلك يساعد الطبخ في تربية حدسه على معرفة لحظة النضج، فلا يخرج عمله نيئًا، أو شائطًا.
يضيف: أتصور أن الوقت الذي ينفقه الكاتب في المطبخ ضروري لبناء مهارته في الكتابة، فهو وقت للتأمل وتفريغ التوتر والخوف من الكتابة ومن القارئ، فبالرغم من أن الكاتب يتوجه إلى محبيه في الأساس، إلا أنه لا يستطيع أن يتجاهل القارئ العدو الذي سيسعى إلى الكتاب بحماسة توق القارئ المحب.
يكمل: الطاهي أفضل حظًا من الكاتب، عندما يقف الكاتب ليطبخ تتحرر روحه من التفكير في العدو، ويتحرر جسده من تيبس وضع الكتابة، وبالقدر نفسه يحتاج الطباخ الجيد إلى شغف وخيال الكاتب وحريته في التعامل مع طبخته.
ويذهب الكاتب في تحليل لطيف إلى أن الحلوى نخبوية مترفعة لا تؤكل مع غيرها، وهي أقرب إلى الشعر، أما الخبز فهو الرواية، نثر الحياة، له سلطة العادي، سلطة الضرورة، لا يستغني عنه أحد.
وتستطيع الرواية الاستمرار لأنها تتسع لوصف البشر والكائنات والجو والأزياء والموسيقى والتشكيل والفلسفة، كما تفسح مكانًا للشعر ذاته في داخلها. لنتذكر شكسبير. ما جعله يعبر الزمن ويصل إلينا هو المسرحيات “الروايات التمثيلية”، وليس السونيتات، أو القصائد.
يقول القمحاوي:

هنالك اختلاف بين الطهي والكتابة يتعلق بنظرة المجتمعات لكل من النشاطين. فيما يتعلق بالطبخ، هنالك اعتراف بالحدس الخاص والذوق الشخصي للطاهي بشكل واضح لا لبس فيه، لكن الكتابة تحتاج ضمن ما تحتاج إلى الشغف، الاستعداد، الجلد، الإنصات العميق للروح، خبرات القراءة، كل هذا يربي الحدس الجيد، وهذا الحدس هو مصباح ديوجين غير المرئي الذي يكشف تفرعات الطريق أمام الكاتب، ويجعله يجلس ليكتب ويختار الأفضل، والحدس هو المرشد إلى تناغم الشكل والمضمون قبل الشروع في رواية، أو طبخة.
الطاهي الماهر يصنع الأطباق اللذيذة من عناصر متوفرة لكل الطهاة بفضل حدسه الخاص الذي يقوده إلى تحقيق مبدأ الانسجام، هذا هو المبدأ الأصعب والأهم في الكتابة كذلك.
لا يترك القمحاوي شذرة مشتركة بين الطبخ والكتابة: الانتقال من مذاق الحلو، أو الحامض، إلى مقام المالح، ثم مذاق الحار، حركة حقيقية تقود إلى تقلبات شعورية تنعش الروح، وعليه فإن كل عنصر في الكتابة يعزز نقيضه، ويتعزز به، وجود سانشو كان ضروريًا لكي توجد شخصية دون كيخوتي.
لكنه يشير صراحة إلى أن الطاهي ربما كان أفضل حظًا من الروائي، أنواع المواقف التي يتعامل معها أكثر من عدد حبكات الدراما التي تنحصر في ست وثلاثين حبكة، كما يراها جورج بولتي، ومثلما تحقق الطبخة استقلالها عن عناصرها النيئة، وعن الطبخات المثيلة، تحقق الرواية استقلالها عن الحياة الواقعية، وعن الروايات الأخرى التي تتناول الموضوع ذاته عبر الروح الفريدة لكاتبها.
ينظر الكاتب إلى أهمية ودور الشكل في الطبخ والكتابة، إلى شكل الأطباق التي تتسم بالأناقة، لكنها لا تقدم طعامًا حقيقيًا، وهنالك أيضًا كثير من الروايات لا تطعم سوى العين، لا تقدم سوى الحدوتة البسيطة الحريفة، ولها أضرار طعام الشارع السريع المشبع بالدهون، وهنالك في المقابل روايات مفعمة بالمعنى والقضايا الكبرى، لكنها تفتقر إلى الشكل الجذاب الذي يجعلها بلا قارئ، فتظل أفكارها العظيمة من دون جدوى، لأن الكتابة لا توجد إلا في وجود القارئ.
وفي تضافر محبب وذكي يتقصى المؤلف جمال وأهمية الجملة الأولى في الرواية التي تقوم بمهمة تقديم وعد الصحبة الطيبة: رأس الحكاية في الرواية يشبه مقدمات الطبخ، وتحدد الجملة الأولى درجة الإحماء المناسبة والعناصر الأولية التي سنلقي بها في الإناء، وتظل طاقتها تسري داخل النص، وليس مطلوبًا منها أن تلخص الرواية، أو تكشفها، بل أن تفتح الشهية لها.
يكتب القمحاوي باستفاضة عن أهمية الاستباق والإرجاء في الطبخ والكتابة: تعليمات مثل ضرورة إحماء الوعاء، أو الفرن، أولًا، وترتيب إضافة العناصر ليس عبثًا، كذلك البوفيه المفتوح في الرواية يقتل شهية القارئ، لهذا لا بد للكاتب من الصبر على ما يعلم، وألا يلقيه في وجه القارئ دفعة واحدة، تقديم ملامح المكان مثلًا بإسهاب لا يبقي شيئًا لفضول القارئ، والبعض على العكس من ذلك لا يقدم كثيرًا، لكنه لا يعد بتغيير قادم في الوقت ذاته، وعند ذلك سنقارن بين فوضى سردية البوفيه المفتوح، وفقر سردية مطعم الفول.

“وظيفة العجائبي في الأدب أكبر من وظيفته في المطبخ، ليس مجرد حلية، أو بهار، أو قصة حول الطبخة، لكنه مكون رئيسي في الطبخة الأدبية”

هل تحمل الكتابة نكهة ما تميزها مثل الطبخات المتعددة، والإحساس بها كيف يكون؟ سريعًا أم يتباطأ، من أول مغرفة، أو من أول صفحة؟ يصل بنا المؤلف البارع إلى أن النكهة ينبغي أن تذوب في الرائحة النهائية للطبخة، والطاهي البارع هو الذي يخفي سرًا في طبخته، يجعل متذوقًا يداوم على زيارته، كذلك يحتاج الكتاب إلى سرّ يجعله جديرًا بقراءات متعددة، في الزيارة الأولى للمطعم، أو الرواية، يستمتع المتلقي بالواضح من المذاق والرائحة والشكل، لكنه يعود بعد ذلك بحثًا عن ذلك الشيء المستعصي على التحديد، وأحيانًا ما يكون الإيهام بوجود السر أقوى من السر.
لم يترك المؤلف شيئًا ذا علاقة بين الطبخ والكتابة إلا والتهمه حتى الغريب منه: وظيفة العجائبي في الأدب أكبر من وظيفته في المطبخ، ليس مجرد حلية، أو بهار، أو قصة حول الطبخة، لكنه مكون رئيسي في الطبخة الأدبية.
لا تنتهي طبخة القمحاوي من دون توابل، بأنف يشم، وعين ترى ضرورة تمتع محل العطارة بالوفرة المغوية والمظهر الشرقي الذي يوحي بأن هذه الأعاجيب الملونة قوية المذاق والرائحة ووصلت لتوها على متن مركب السندباد. ويرى بعين واعية أن الشقيقة التوأم للتوابل هي “ألف ليلة وليلة”، وقد سلكا معًا طريقًا واحدًا من الهند والصين إلى فارس، ومنها إلى بلاد العرب، ثم إلى أوروبا، وقد سبقت “ألف ليلة وليلة” الرواية الحديثة باستخدام التوابل بمهارة عالية في التوقيت المناسب.
ويقدم طبقه الأخير بالتقابل بين الطعام السيء والكتابة الأسوأ، مطاعم بالغة الشهرة تقدم فن الطبخ الرديء لجمهور واسع يرتاد هذه الأماكن الزائفة في مظهر احتفالي، لكنهم بعكس قراء الكتش، أو الفن الرديء، متسامحون مع من يرفض مطعمهم المفضل، ولا يتمتعون بالتماسك الإيماني الذي يجمع قراء ومستمعي ومشاهدي الفن الزائف.
كتاب مطبوخ بعناية ممتلئ بمقادير مضبوطة ونكهة خفية، وطبق لا بد أن تعود لتذوقه مرة ثانية وثالثة.
كتاب مطبوخ بحب الطهي والكتابة، قد يبدو للبعض أن عزت وضع وصفات للطهي، أو دل عليها، بل وضع وصفة لكتابة الرواية، لكن الأقرب للحقيقة أنه وضع أولًا أمام الروائي ما يجب عليه أن يتجنبه، أو يزيد لحمه وبهاراته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بالعربي الجديد 

مقالات من نفس القسم