عبد الرحمن أقريش
الزمن: 1988.
مساء ذات أربعاء.
المكان، الرباط.
البهو الداخلي للكلية، الباحة مؤثثة بالطلبة على شكل جماعات صغيرة، يتحركون في كل الاتجاهات، بعضهم يفترش الأرض في وضعيات جسدية مريحة، نثرثر نحن غير بعيد من القاعة (23)، في الجهة الأخرى من البهو تجلس طالبة على الدرج، تدخن بمتعة، تنتشي، ترسم سحبا دائرية بدخان سيجارتها، وتنظر في كتاب مفتوح على الأرض، وغير بعيد منها، كانت طالبتان محجبتين مستغرقتين في حديث هامس لا ينتهي…
يظهر أستاذ في نهاية (الكولوار)، يتوقف لحظات عند الحنفية، يضع محفظته على الأرض، يخرج حبات دواء من جيب سترته، يبتلعها في حركات عصبية ومتشنجة، يبتلعها بصعوبة، يرشف بيده رشفات متتالية من ماء الحنفية، يرفع رأسه إلى الأعلى في حركة خفيفة مثل ديك مذبوح، أعاد علبة الدواء إلى جيبه، وأخرج سيجارة وواصل سيره في اتجاه المدرج.
التفت يمينا وهو يبتسم.
– كبريت من فضلك!!
أعطيته ولاعة…سحقت سيجارتي على الأرض، أشعلت أخرى، شكرني بإيماءة من رأسه وانصرف.
انتظرنا افتتاح حصة المساء وحضور أستاذ (الفلسفة السياسية)، ذلك الأستاذ أحببته دائما، فهو شخص لطيف ومرح، بسيط، دنيوي ويحب الحياة، كان لا يحضر إلا منتشيا، مما يمنحه صفاء ذهنيا وأريحية وقدرة عجيبة على الإنصات والتسامح… وبالمقابل، لم أكن أنتبه كثيرا لما يقوله، كانت حصته فرصة لأقرأ وأكتب مراسلاتي الأسبوعية…
كنا ما نزال ننتظر عندما مر (الطالب الأنيق)، أنا كنت أسميه كذلك، أما الآخرون فيسمونه (الطالب المريض)، هو شاب وسيم، قامة معتدلة الطول، جسد رياضي، أنيق، حليق على الدوام، قمصان بيضاء، ربطات عنق ملونة من الحرير، أحذية غالية، ومعاطف من الكشمير الحقيقي، كان مظهره يوحي بأصوله الاجتماعية الميسورة…
كان دائما محفوفا برفقة طالبة لم تتعد بعد حدود المراهقة، تلبس ملابس ملونة على الموضة، ضفائر، تسريحات طفولية، خطوات رشيقة، أنيقة، خفيفة مثل فراشة ربيعية، جسد صغير وشهي مثل لمجة الأطفال…
توقفنا عن الثرثرة للحظات وأعيننا مسمرة عليهما، تنتابنا مشاعر متناقضة وغامضة، فبقدر ما كنا نعجب بالفتاة – بعضنا يشتهيها– كنا نكره (الطالب المريض)، ونحقد عليه، بعضنا يحقد عليه بسبب أصوله الطبقية، وبعضنا يكرهه بسبب الفتاة، فنحن منحدرون من أوساط اجتماعية بسيطة، فقيرة ومحرومة، أوساط اجتماعية تتمنى الغنى والنجاح الاجتماعي، ولكنها تكرهه عندما يخص الآخرين…
كنا نعتبر أن طلبة (البسيكولوجيا) أشخاصا مرضى وغير أسوياء، وأن اختياراتهم الجامعية تحكمها عقدهم وأمراضهم النفسية المزمنة، أكثر مما تحركها المبررات الأكاديمية وأسئلة الفضول المعرفي…
طبعا، كان ينبغي أن تمر سنوات طويلة، لننتبه أننا أيضا لم نكن أسوياء، وأننا بؤساء وسجناء لأوهامنا الخاصة.
كان ينبغي أن تمر سنوات طويلة جدا، لنكتشف أن وراء القسوة المجانية، وراء السخرية، والعجرفة، والكبرياء الأجوف، وراء غرور المعرفة والتهام الكتب…وراء كل ذلك تختفي هشاشة مزمنة وأعطاب داخلية غير قابلة للترميم.
كنا امتدادا لجيل حزين يعشق التمرد، جيل يقدس الكتب ويحلم كثيرا بالثورة، جيل يرفض سلطة الدين في السماء، ولكنه لم ينجح أبدا في التحرر من سلطة الآباء في الأرض.
كنا نهد عالما من المطلقات، ونشيد بدلا عنه عالما من عقائد ويقينيات سنكتشف فيما بعد أنها لم تكن تستحق كل هذا العناء، جيل سيكتشف في النهاية أن الحياة كانت دوما أوسع من الكتب.
مرت لحظات، قفل الثنائي راجعا، أيادي متشابكة، خطوات سريعة ومترددة، كنا نترصده.
تعمد (صلاح) أن يوجه إليه سهامه المسمومة.
– داير علم النفس…باغي تفهمها ؟؟ لن تفهمها أبدا !!
كان الشاب يشعر بفراسته أننا لا نحبه، كان الأمر يؤلمه، وكانت ملامحه تفضح عمق الجرح الذي تخلفه التعليقات القاسية التي تصيبه من الخلف، لكنه سرعان ما يتماسك، يسترجع صفاءه، لم يكن يبالي، يلتفت، يبتسم، يلقي إلينا نظرة سريعة، هادئة، ثم يمضي، كانت نظرته غريبة ومستعصية، ينظر، يرانا وكأنه لا يرانا، فيبدو شخصا قويا، متصالحا تماما مع ذاته، شخص يعيش عالمه فقط…
عندما اختفى الثنائي، عدت إلى نفسي، تملكتني مشاعر حزينة وغامضة، أشعلت سيجارتي الثالثة، نظرت خفية جهة (صلاح) و(فتاح)، فرأيت تعبيرا غريبا يرتسم على وجهيهما، مزيج من المرارة، والحسرة، والغبن، والبؤس النفسي، اختفت تدريجيا تفاصيل البسمة الساخرة، انمحت، وحل محلها شيء يشبه الندم ورثاء الذات…
للحظة، تمنيت لو كنت أنا مكان الشاب الوسيم…
للحظة أحسست أنه إنسان سعيد، وأننا نحن من يستحق العطف والرثاء.