أحمد عبد الرحيم
كلمة “صغير” لا صلة لها بهذا الفيلم، فنحن أمام إجتماع للكبار. نجيب محفوظ، الأديب المصرى القدير، قبل أن يكون الأديب العربى الوحيد الحاصل على نوبل للأداب. محسن زايد، أستاذ السيناريو، صاحب الكم القليل والكيف العظيم من الأعمال السينمائية والتلفزيونية. عمر الشريف، بعد 20 عامًا من رحلة العالمية، داخل وخارج هوليوود، والتى ضمت عددًا لا بأس به من الأفلام الرائعة، زائد الترشح للأوسكار. محمود المليجى، ليس أحد ملوك الشر، وإنما أحد ملوك السينما المصرية. فؤاد المهندس، نجم الكوميديا الأشهر، والذى يؤكد أنه كان نجم الدراما أيضًا. ناهيك عن أسماء لامعة مثل مديحة يسرى، إبراهيم الشامى، آثار الحكيم، مصطفى فهمى فى طاقم التمثيل، عادل منير مونتيرًا، وعبد المنعم بهنسى مديرًا للتصوير. حتى هانى لاشين مخرجًا، فى أول أفلامه الروائية الطويلة، لم يكن صغيرًا على الإطلاق.
أول ما يلفت نظرك فى هذا الفيلم الكبير هو القصة. فى مجموعته القصصية “الشيطان يعظ”، كتب نجيب محفوظ “أيوب”، عن المليونير عبد الحميد الذى يقع فريسة الشلل النصفى، والذى بإيعاز من صديقه القديم د. جلال، يتجه لكتابة مذكراته، وفضح ماضيه، فى محاولة للتطهر تقرّبه من ضميره، وتُصالِحه مع نفسه، لعل مرضه ينتهى، وروحه تخف، ليتمكن من متابعة الحياة بشكل طبيعى بالمعنى الجسمانى (السير مجددًا)، والروحانى (الرضا عن النفس). الموضوع مدهش لا شك، لكنك إذا ما فكرت، مجرد تفكير، فى تحويل هذه القصة لعمل سينمائى، فستكتشف صعوبات شتى. فالمكان لا يتغير (بيت عبد الحميد)، والنص أغلبه حوار بين البطل وصديقه، وهذا الحوار فلسفى إلى درجة غليظة أحيانًا. وهذا عينه ما يؤكد عبقرية الراحل محسن زايد، الذى إستطاع تجاوز كل هذه الصعوبات، وتذليل هذه القصة، لتصبح فيلمًا سينمائيًا من الطراز الأول.
حاول النص القصصى استعراض تاريخ الإنسان منذ العصر الحجرى، فى سعيه الدائم نحو التقدم، وعلاقته بالاقتصاد، مرورًا بإختياراته السياسية، ووصولًا لحقيقة أن عيش الإنسان للآخرين هو أفضل عيش لنفسه، مع إنتقاد يمتد بين التلميح والتصريح لسياسة الإنفتاح الاقتصادى، والتحول للرأسمالية الحرة، وهو ما غيّم على الدولة المصرية وقت كتابة القصة، فى درس مؤداه أن المكسب الفردى لابد أن يكون مكسب جماعى، وهو معنى إشتراكى نبيل ينضم للأبعاد المختلفة للقصة؛ الفلسفية والإجتماعية والسياسية، وهى عادة محفوظ فى إختيار موضوع يبدو إنسانيًا بالدرجة الأولى (هذه المرة؛ الإصابة بشلل مفاجئ)، ولكن مع معالجته على نحو دسم، متعدِّد الأبعاد.
إذًا ماذا فعل زايد؟ إنه هدم تلال الفلسفة هذه، ليبنى بدلًا منها فيلمًا سينمائيًا بمعنى الكلمة، يتضمن هذه الفلسفة مع أبعادها الأخرى، فى بناء متناغم، وقوى، ومثير. إنه على مستوى البعد الفلسفى، يراعى وسيط السينما كفن شعبى، ويبسِّط الثقل الفكرى للعمل، مركِّزًا خط الهجاء الأساسى ضد قيمة الكذب فى المجتمع، ومحاولة إقرار الصدق، والإصرار عليه، إنتصارًا للإنسانية والنزاهة. وذلك مع بعد اقتصادى، نرى فيه تدخل العفن الأخلاقى فى المنظومة الاقتصادية، لتشمل التهريب، وتدار بالعمولات والرشاوى، ويصل تسلق فاسديها إلى قمة النجاح المادى، ليصبحوا من رموز الدولة. وبعد سياسى، يتركز فى تآمر رجال السياسية حول البطل، عند محاولته كشف حقائق رحلته مع الملايين، وهى التى يبدو أنها تكشف تورطهم معه أيضًا، بلقطة ذكية فى تعبيرها البصرى البليغ والمختصر، لشخص يأمر أحد رجاله بمنع المذكرات من النشر، مع قيام الأخير بتحية عسكرية له، ويبدو تغييم صاحب التحية العسكرية، حتى لا نرى إن كان مرتديًا الزى العسكرى أم لا، هروبًا خبيثًا من رقابة 1983، للإيحاء بأن المُهدِّد قد لايزال فى السلطة، بمعلومية أن الفيلم إنتاج التلفزيون الحكومى (أى إنتاج هذه السلطة ذاتها!). زائد بعد إجتماعى يناسب تقاليد السينما الجماهيرية أكثر من الأدب الفلسفى، ويُشبِع الشهية الدرامية للمشاهد وليست الفكرية المحضة، ويجعل الشخصيات أكثر إنسانية وأقل رمزية؛ كأن نرى شجار البطل مع مهندس بشركته، واستنكاره لفستان ترتديه زوجته، وحواره مع خادمه بفايد. أو نفاق زوجته؛ بإعلان رفضها للخزعبلات أمام الآخرين، ثم ممارسة الإيمان بها بعيدًا عنهم، وسعيها لإستخدام سبل دنيئة كالرشوة والدفع بخرف زوجها أمام القضاء؛ لإيقاف طبع المذكرات. أو إخلاص وطرافة د. جلال فى عمله، وقصته مع الشاب الذى تقدم ليتزوج ابنته.. إلخ.
على صعيد الشخصيات، لم يعد د. جلال ذلك الفيلسوف عميق الثقافة، شديد الثرثرة، وإنما رجل خفيف لطيف، يمتلك الحكمة والبساطة. فاضل بك رجل الأعمال الفاسد فى ماضى القصة يصبح ذلك وأكثر؛ منافسًا لعبد الحميد بحاضر الفيلم. أفكار، الزوجة الباهتة نوعًا ما فى القصة، تتحوّل لإنسانة من لحم ودم، وتتعدَّد مواقفها كإمرأة عاشقة للماديات، غارقة فى المظاهر، ومصابة بداء رفض الصدق، محاربة زوجها كيلا يصارح أحد بتاريخه. كما نرى الابن وفيق، فى كذبه، وصفقاته الإنتهازية، وشرفه الملوَّث كرجل أعمال، ونرى نقيضه، الابنة نبيلة، فى علاقتها بحبيبها حامد، ورغبتها فى الهرب معه لأرض بكر جديدة، بعيدًا عن عالمها المشبَّع بالزيف، ومساندتها لوالدها فى ثورته على الزيف نفسه، كل ذلك فى تجسيد مبدع لشخصيات القصة، يحافظ على أساسها المكتوب، ويمد خطها الدرامى، بأحداث صحيح لا تنتمى للقصة، لكنها مبنية على نفس الأساس.
يضيف زايد شخصيات أخرى من عندياته تجىء من صلب العمل وتفاصيل عالمه، لتخدم الدراما وتؤكد معانيها المرغوبة، مثل: أزهار أخت الزوجة، لتمثِّل أصلها الشعبى الفقير الذى تهرب منه، وتعزِّز الجزء المؤمن بالخرافات فيها. عم محمود، زوج أزهار، صاحب المطبعة المتدين، والذى تحقِّق إضافته تدعيم الجانب الإيمانى فى البطل “المرض ده ما هو إمتحان من المولى سبحانه وتعالى بيختبر به عبده المؤمن”، زائد طباعة مذكراته لاحقًا. عم صالح، حلاق البطل القديم، للتذكير بماضيه كشاب مثالى ومناضل ضد المحتل، ولإظهار أن البسمة الدائمة راجعة إلى “عدم الكتم فى القلب أبدًا”، وهو تكرار على نغمة المصارحة والمصالحة / خطاب الفيلم، وكحلقة وصل مع د. جلال، يصل بها البطل إليه. زائد عبد الراضى، سكرتير البطل، المطيع والمتزلف، كعنصر ترويحى.
يظل أكثر ما أبهرنى فى هذا التعامل الخلّاق مع النص القصصى هو الثلث الأخير من الفيلم. لعلك لا تعرف أن قصة محفوظ تنتهى بالبطل وقد صمَّم أن يخفِّف الحمل من على كاهله، ليُطلق أسراره المُمرِضة إلى الورق، والمقصود ورق مكتبه ليس إلا. أما فى النص السينمائى، فينطلق محسن زايد، ويجعل البطل يصمِّم على نشر هذه المذكرات فى كتاب بعنوان “مليونير يفتح أوراقه”، مما يثرى الدراما، ويزيدها إثارة، بل واقعية؛ إذا ما وضعنا فى الإعتبار شيوع كتب السير الذاتية نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، لسياسيين وفنانين واقتصاديين، مثل “البحث عن الذات” للرئيس أنور السادات (1978)، و”ملك الترسو” للنجم فريد شوقى بقلم الكاتبة الصحفية إيريس نظمى (1978)، و”صفحات من تجربتى” لرجل الأعمال عثمان أحمد عثمان (1981)، وستتعجب عزيزى القارىء، عندما تعرف أن هذا – أيضًا – لم يكن إلا إمتدادًا للقصة، وبناءًا عليها، حينما تكتشف أن السيناريست استوحاه من سطر بها يقوله د. جلال أثناء حكى عبد الحميد عن ذكرياته ذات الظلال الخطيرة: “أحادثيك يجب أن تكون دعوة للموت فى هذه الحياة التى نحياها”، وهو ما يُنسَج منه الثلث الأخير، بكل ما يستتبعه من مؤمرات لإيقاف الكتاب، وتهديدات للبطل وأسرته، وتزايد عزيمته فى الإعتراف، مما يُلهب الأحداث، قائدًا لذروتين؛ الأولى هى حلمه بتحدى قاتليه، والإنتصار عليهم، مما يجلب له الشفاء (فى مشهد موجود بالقصة)، وكأن كل ما فات مجرد كابوس، كان الضمير هو اليقظة الوحيدة منه، ثم تصفية عبد الحميد جسديًا (وهو مشهد غير موجود بالقصة)، على يد متأمرين مجهولين، كالحل الحاسم لقتل صدقه قبل أن يقتل سمعة الآخرين، وحفاظًا على المجتمع كعالم مقتول الفضيلة، مثالى الكذب، إثباتًا لمقولة محفوظ أن الصدق قد صار “دعوة للموت فى هذه الحياة”.
الحق أن السيناريو غنى بنقاط خاصة يتميز بها عن النص القصصى. مثلًا، بينما يبقى ميعاد إصابة البطل بالشلل فى القصة منبت الصلة إلا بتراكمية ندمه، وتعذيب ضميره؛ نراه فى الفيلم يتصل بإجراء صفقة كبرى، يتمكن فيها من هزيمة سيده القديم، ومنافسه الحالى، فاضل بك، مما يوحى ببراعة أن شلله لم يكن سوى معادل لوصوله إلى أعلى قمم النجاح المادى، القائم أصلًا على السقوط الأخلاقى، مما يعنى إكتمال تحوله إلى “فاضل” جديد من أفاضل هذه المدينة، وهو ما يبدو – نفسيًا – كالقشة التى قصمت ظهره. التوازى ما بين إتجاه البطل للتطهر من ماضيه مع فاضل، وإتجاه ابنه إلى عقد صفقات مع هذا الفاضل نفسه، يبرهن أن المستقبل سيكون ملكًا لهؤلاء الفاسدين. ويُلمِّح غياب الابن وفيق عن مشهد مغادرة أبيه للبيت، فى الصباح التالى لشفاءه وقبيل إغتياله بقليل، إلى إمكانية ضلوعه فى هذا الإغتيال. وجاء إصطحاب البطل لابنته نبيلة، التى تحمل قيمه النزيهة، فى المشوار الذى سيتم فيه إطلاق النار عليهما، إرهاصة بإنتهاء مستقبل الصدق فى هذا العالم، وهى النهاية الحزينة التى تجعل لهذا الفيلم مذاقه المرير المتفرد.
فضلًا عن تفاصيل صغيرة لكن معبرة؛ مثل سيارة د. جلال، الفقيرة المتهالكة، التى تدلِّل على شخصيته الرافضة للمظاهر البراقة. سماع صوت د. جلال، سعيدًا بكلمات مؤازِرة، عند رفض البطل للكرسى المتحرك، كصوت الضمير فى عقله. معاينة أفكار لملابس زوج أختها الفقير قبل سماحها له بالتواجد وسط ضيوفها. الرنة الساخرة لفاضل عند زيارته للبطل قعيدًا؛ والتى قلبت تعبيراته الحزينة إلى تشفى صريح. أو استماع البطل لأم كلثوم وهى تشدو “أنا ياما صبرت زمان، على نار وعذاب وهوان.. وأهى غلطة”، فى اللحظة التى يفكر فيها “أيوب” الفيلم أن ينهى صبره، ويكسر سكوته، ويعلن تمرده على هوان الضمير، حتى يُنهى تلك “الغلطة”، ويصل لمساحة السمو بداخله. تلاعب أصابع وفيق بسبحة أثناء تسليمه رشوة ضخمة، تهكمًا على الكذب بإدعاء التدين، أو إشارة لما حدث من مفاسد أيام الرئيس المؤمن. تحويل ثروة عبد الحميد من 5 مليون فى القصة إلى 130 مليون فى الفيلم، فكلما زادت الثروة، زاد النفوذ، وبالتالى زادت المفارقة مع فقدان الصحة، وزاد استغراق المشاهد فى تخيل كيفية حشد كل هذه الثروة. اختيار المصعد الهابط كمكان إنهيار البطل مشلولًا، كنهاية رحلة سقوط طويلة.
حوار قصة محفوظ متخم بجمل صلدة من نوعية “إن الذاتية هى سبيل العبودية، وأن الموضوعية هى سبيل الحرية. الإختيار الحر يقوم على الموضوعية، وإلا أذعنا إلى غريزة ونحن نتوهم أننا نمارس عاطفة، أو سيّرنا عاطفة ونحن نعتقد أننا نلبى العقل. ولكى يحدث الإنسجام والتوازن بين الغرائز والعواطف والعقل فلابد من تربية الإرادة”، لكن حوار فيلم زايد يجمع بين عمق الرؤية، وواقعية الجو، فى حيوية وظرف. فعند مطالعة عم محمود لأوراق المذكرات، وبالتالى لفضائح عبد الحميد، يُعلِّق بين الذهول والأسى: “الله يخيّبك يا عبد الحميد بيه!”. وعند عرض د. جلال لأفكار، نظريته فى عدم العمل بالطب للتربح يقول: “أنا مؤمن إن الطبيب زى القاضى تمام، شغلته إنه يفصل فى قضايا الإنسان وجسمه. عمرك سمعتى عن قاضى فتح محكمة قطاع خاص؟!”، أو إعتراف عبد الحميد: “اللحظة اللى نسيت فيها نفسى، وإنتهت جوايا شخصيتى الحقيقية، هى اللحظة اللى إتشليت فيها.”
يتفوق عمر الشريف، مقدمًا واحد من أكثر أداءاته نضجًا. يكفى الإشارة لـ3 لحظات. الأولى عندما يتطلع لنفاق ضيوفه؛ فى نظرة تمزج السخرية برثاء النفس. والثانية عندما يتأمل كلمات د. جلال عن تيه الإنسان بين أقنعته المختلفة، ليبدو ألم الضمير وجلد الذات على ملامحه الصامتة. والثالثة تحديه للكرسى المتحرك، فى مشهد يثور فيه على مرضه، ويصارع عجزه، محطمًا صورته التى لا يرضاها فى مرآته.
يتمكن هانى لاشين من قيادة ممثليه بإمتياز، واختيار أحجام كادراته بدقة؛ كتلك المجموعة المتنوعة من اللقطات المقرَّبة للبطل، لإظهار إضطرامه المكتوم وأزمته الحقيقية. كما يمتعنا بلحظات ماهرة؛ كأن يطير بالكاميرا فوق بحر فايد وصولًا للبطل على كرسيه المتحرك، ليرينا ما يموج فى نفسه من آلام، وما يحبسه من بحور أسرار. أو يصبغ لقاء البطل وصديقه، بعد الاستماع للمذكرات المُسجَّلة، باللون الأبيض، سواء فى خلفية المكان أو أسوار الشرفة، مدعمًا إياه بألوان فاتحة لملابس الشخصيتين، دليل الطهر الذى غدا يرفل فيه عبد الحميد. أو يحتجز أفكار داخل البيانو، من زاوية تبرزها كسجينة مفردات الحياة المترفة، فى ذات اللحظة التى تنفجر فيها غاضبة بسبب زوجها الذى ستودى به صراحته للسجن! كما تلمس محاولة لخرق المألوف؛ عندما يُعرَض تتر البداية على تتابع عودة البطل من السفر، وخروجه من المطار إلى شركته، واجراءه لمكالمة تليفونية، ثم مقابلته لموظفينه وابنه؛ ليس من خلال عناوين منفردة كالمعتاد، فضلًا عن غياب الموسيقى عن هذا التتر، خلافًا للمعتاد أيضًا.
يصيغ المونتاچ شخصية متوازنة للعمل، تجمع بين الإيقاع الرشيق والجانب التأملى، كما يتألق فى تجسيم الصراع بمشهد البطل وكرسيه المتحرك. ويبلغ التصوير أوجه فى مشهد الإصابة بالشلل، عندما تتابع الكاميرا المحمولة البطل مغادرًا مكتبه، ناقلة بصدق إضطراب حركته، لنتوحد معه والمرض يتمكن منه، معرقلًا سيره خطوة بخطوة، فى مشهد لا يقل مستواه عن مشاهد شبيهه فى أفلام أمريكية وأوروبية. لكن بينما تتميز الإضاءة فى مشاهد، كحلم البطل بالقتلة وإشتباكه معهم فى الظلام، يخونها التعبير عند دوران الكاميرا على وجوه ضيوفه المهوِّنين عليه بعد شلله، لتظهر فاقعة ومكشوفة.
أعلت الموسيقى التصويرية لمصطفى ناجى مشاعر التأمل والتوتر، وغابت عن أحاسيس التقارب والتفاؤل (فى علاقة الابنة وخطيبها، أو البطل وصديقه) ربما تأكيدًا لسوداوية عامة. ونجحت عند زواج عبد الحميد من الراقصة كريستينا، فى قلب زفة الفرح المألوفة “إتمخطرى يا حلوة يا زينة” إلى مارش جنائزى مقبض، لاسيما عندما نكتشف أن العروس ليست إلا رشوة جنسية لفاضل بك. لكن من ناحية أخرى، وقعت الثيمة الأساسية فى مشكلة التشابه مع موسيقى المسلسل الأمريكى Mission: Impossible (1966: 1973)، للمؤلف الأرجنتينى لالو شيفرين، خاصة ثيمته الشهيرة The Plot. يعرض شريط الصوت فى خلفية رقصة كريستينا، المفترض حدوثها فى الخمسينيات، موسيقى أغنية Heat Wave التى ألفها إيرفنج برلين سنة 1933، وغنتها مارلين مونرو فى الفيلم الأمريكى There’s No Business Like Show Business سنة 1954، لكنه – فى نفس المشهد – يعرض توزيعًا موسيقيًا لأغنية 1, 2, Cha Cha Cha وهى أغنية للمطربة الهندية Usha Uthupغنتها لأول مرة فى الفيلم الهندى Shalimar سنة 1978، مما يعنى استحالة عزفها زمن ذلك المشهد.
فى أحد مشاهد العودة إلى الماضى، حينما يسير البطل فى الشارع عقب فصله من وظيفته، نراه الوحيد المرتدى للطربوش وسط المارة، وهى مفارقة أبدته كأنه مسافر من زمن قديم وسط معاصرين. اختيار ليلى فهمى كالأخت الكبرى لمديحة يسرى، كى تناديها الأخيرة بـ”أبلة”، جاء كوميديًا. كما أن إخفاء وجه وهوية “الباشا”، الذى يعقد معه الأب والابن صفقات فى مراحل زمنية مختلفة، لم يكن مبرَّرًا أو مفهومًا.
بينما كان الصبر على المرض هو فضيلة أيوب التاريخ، ودليل إيمانه، مما حقق له الشفاء أخيرًا، كان الصبر على الكذب هو خطيئة أيوب الفيلم، ودليل فساده، كالمرض الحقيقى الذى يستلزم الشفاء، ببلسم الصدق وترياق المواجهة. ولكن للأسف، فى حياة يحكمها الكذب والكذّابون، لا يوجد إلا إختيارين؛ إما أن تميت ضميرك لتحيا، أو تحيى ضميرك لتموت. ورغم أن هذه الرؤية تصدمنا بواقع قاتم، فإنها تروِّج للإصرار على الحقيقة، حتى الاستشهاد. لهذه المعانى الجميلة، ولهذه العناصر الدرامية والسينمائية التى لا تقل جمالًا، استحق “أيوب” أن يكون أول فيلم تلفزيونى يُعرَض سينمائيًا، وأفضل فيلم تلفزيونى حتى الآن.
====================
نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 34 / أكتوبر 2014.