د. نعيمة عبد الجواد
في مراحل تنشئتنا الأولى تعلمنا أننا محاطون بمجموعة من الثوابت التي لا يمكن الحياد عنها. لكن عندما كبرنا علمنا أنه لا يوجد شيء ثابت. فكل شيء حولنا يتغيير، حتى الثابت مع مرور الوقت تعترييه عوامل تغيير من ملامحه. ومن ثم، يصعب علينا في أغلب الأحوال التعامل والتأقلم مع أشياء قد اعتبرناها من قبل من المسلمات، لكنها حالياً تعتبر من المكملات، أو من العوائق. فلقد تعلمنا قديماً، أنه لا يمكن الحياد عن قوتك الداخلية، وذلك يتأتى عند التحلي بصفات حميدة كالشجاعة، والأخلاق الحميدة، والاتزان النفسي، إلى ما شابه ذلك من صفات. ولكم كان حجم ما اعترانا من إحباط عظيم عندما خرجنا لمعترك الحياة العامة ووجدنا أن الغلبة صارت للجبناء الذين يفرطون في منظومتهم الأخلاقية، ويبيعون كل شئ بما في ذلك عقولهم لمن يغدقهم بأموال وفيرة. عند تلك اللحظة، صرنا ندرك أننا انتهجنا الدرب الخاطئ، ويجب إعادة النظر في قيمنا حتى نحقق ما نرجوه من نجاحات، وخاصة وأننا نجد أن من يتخلى عن الثوابت الأخلاقية يصل إلى قمم إثبات الذات، في حين أننا لا زلنا نتخبط، ونحن نحمل على ظهورنا منظومتنا الأخلاقية النقية وتبعاتها التي تنال من أعصابنا وحالتنا النفسية، كلما حاولنا الحفاظ عليها، وتسبب لنا الاحباط الشديد بسبب أنها تجعلنا ننتهج طريقاً صعباً منثوراً بالأشواك، على عكس الطريق المملوء بالورود المهيئ لاستقبال من باعوا أخلاقهم.
وفي تلك اللحظة الفيصلية، يتعيين على المرء أن يختار: إما أن يظل متمسكا بالطريق الصعب المليء بالأشواك، أو الانزلاق السهل إلى قيعان حياة سهلة تنعدم فيها الثوابت، وأيضاً غير معلومة العواقب. بمعنى آخر، الانسحاب من حياة تعج بالثوابت، إلى حياة أخرى خالية منها. هذا ما حدث بالفعل للشاعر الأمريكي الشهير جون جرينليف ويتيير John Greenleaf Whittier (1807-1892). فلقد كانت حياة جون جرينليف ويتيير John Greenleaf Whittier حقاً غريبة على أبناء جيله. فلقد حاول أن يتغلب على ظروفه الاقتصادية الصعبة، ونشأته في الريف في صعيد أسرة فقيرة ليصل إلى أعالي قمم الشهرة. أضف إلى ذلك، كان ينتمي لطائفة الكويكر Quaker الدينية، التي تحض تعاليمها على حب الإنسانية، والتعاطف مع الآخرين، وتحمل المسئولية الاجتماعية، وكانت تلك المبادئ هي العامل الأساسي الذي كون ليس فقط شخصيته، لكنها أيضاً كانت الأساس الذي اكتسب منه شهرته.
وعندما كان جون جرينليف ويتيير John Greenleaf Whittier في مرحلة المراهقة، تفتأت لديه موهبة كتابة الشعر. وبالفعل، نشر أول قصائده في إحدى الصحف المحلية. حينئذ، شجعه أحد رؤساء التحرير أن يلتحق بإحدى الأكاديميات حتى ينال تعليم راقي ليؤهله خوض أفق اجتماعية راقية. وبالتأكيد، لم يكن ليعرف كيف يتدبر أمره؛ حيث كانت أحواله المادية لا تساعده على دفع المصروفات للالتحاق بالأكاديمية. ومن ثم عمل كصانع أحذية، وكان كذلك يبيع محصول مزرعة والديه ليوفر بعض النقود له. وأخيراً، استطاع أن يجمع أموال كافية عندما اشتغل كمدرس في مدرسة ريفية صغيرة جداً، تتكون من فصل واحد فقط لاغير. ومع التحاقه بالأكاديمية، انفتحت أمامه أبواب أخرى من الأمل والسعادة، علماً أنه أيضاً لم يتخلى عن موهبته في كتابة الشعر– والتي أصبحت الآن حرفته كشاعر. وعلى هذا، تأهل للعمل في مجال الصحافة، وتنقل بين المناصب الصحفية إلى أن صار في بداية الأمر رئيس تحرير لمجلة محلية. ثم انتقل بين المجلات الأدبية متقلداً منصب رئيس تحرير، إلى أن شغل نفس ذاك المنصب في واحدة من أكبر المجلات الأدبية الأمريكية. ومن خلال عمله بالصحافة، تقلد أيضاً منصب الناقد والمتحدث باسم الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون Andrew Jackson. وبالتأكيد، بسبب عمله مع الرئيس الأمريكي، صار جون جرينليف ويتيير John Greenleaf Whittier مهتماً بالسياسة ولحياة السياسية، بل وطمح أيضاً أن يكون أحد الساسة. لكنه خسر الانتخابات للحصول على مقعد بالكونجرس، وكان في الخامسة والعشرين من عمره فقط في ذاك الوقت. حينئذٍ، لفت صديقه نظره للموجة السياسية السائدة المنادية بإلغاء الرق في الولايات المتحدة. وبوصفه محباً للبشرية، ويحمل لهم تعاطفاً جماً، وكذلك للاضطلاع بمسئوليته المجتمعية – كما تحض مبادئ مذهبه على ذلك – انغمس جون جرينليف ويتيير John Greenleaf Whittier في نشاطاته للمناداة بإلغاء الرق وتحرير العبيد. وعندما تنبه لما فعله، فطن أنه قد خسر منصبه في تقلد المقاعد والمناصب السياسية الهامة للأبد، لكنه لم يبتئس لأنه– على العكس – قد كسب نفسه.
لقد اكتسب جون جرينليف ويتيير John Greenleaf Whittier شهرة واسعة جعلت من أشعاره المادة الرئيسية في كل منزل أمريكي، وسجله التاريخ كواحداً من المدافعين عن حقوق العبيد والمناديين بإلغاء الرق. أضف إلى ذلك، جميع أشعاره نالت استحسان أبرز النقاد وكبار الشعراء. فلقد نال الشاعر الأمريكي جون ويتيير شهرة واسعة لسوف تستمر على مدار الدهر؛ لأنه لم يتخلى عن مبادئه، وكلما تعصف به الحياة، لا يحيد عن الدرب. وواحدة من القصائد التي تجسد موقفه هذا قصيدة “لا تنسحب”، والتي يقول فيها:
إذا ضاقت عليك الدنيا – كعادتها – في بعض الأحيان،
وإذا كان الطريق الذي سلكته منحدراً للصعود لا نهاية له،
وإذا ابتليت بنقص في الأموال، وزيادة في الدين،
وإذا أردت أن تفغر ثغرك بالابتسام، لكنك كنت مجبراً أن تزفر تنهيدة،
وعندما تسحقك الهوم أكثر فأكثر،
حاول أن تأخذ هدنة، لكن لا تنسحب.
الحياة غير مفهومة بسبب تحولاتها ومنعطفاتها
ولقد ذاق هذا كل منا، وإن اختلفت الظروف.
وإذا أحاطك الفشل
بالرغم من أنه كان يمكنك الفوز لولا تمسكت بالخسارة،
لا تنسحب، حتى وإن بدى خروجك من هذا الموقف بطيئاً،
فلعل يصيبك الحظ في جولة أخرى،
فما النجاح إلا فشلاً تم إخراج ما في باطنه،
فهو الصبغ الفضي لغيوم الشك،
واستحالة أن تعلم مدي بعدك أو قربك منه،
فقد يكون دنياً، حين يتبدى لك قصياً.
إذا، لا تخرج من المعترك حينما تتلقى أعنف الضربات
وكلما صارت الأمور في أسوأ أحوالها لا تنسحب.
لقد التزم جون جرينليف ويتيير John Greenleaf Whittier بكل كلمة سطرها في قصيدته؛ فلم يتخلى يوماً عن أحلامه، وفي نفس الوقت عن مبادئه القويمة. ولم ينسحب بكل سهولة من معترك القتال العنيف في ساحة الحياة القاسية. فلقد صمم على الفوز بكل الأشكال عندما قرر أن الانسحاب من ذاك القتال الفتاك الذي قد يمكنه من الحصول على مبتغاه مستحيلاً.