عبد الرحمن أقريش
عندما تعرفت على (عبد السلام) كنت شابا يافعا، وكان هو يكبرني بسنوات كثيرة، وفي كل مرة أستعيد فيها صورته في ذاكرتي، كنت أستعيده كصديق لوالدي، أستعيده كواحد من شلة أصدقاء والدي…
ربما بسبب فارق السن، وربما أيضا بسبب نظرتي الطفولية، كان هؤلاء الأصدقاء، يبدون كما لو خلقوا من عجينة خاصة، فلأنهم كبار، ناضجون، متزوجون، ولديهم أبناء وحفدة، كنت أتخيل أنهم سعداء…
طبعا، ينبغي أن أعترف أن بعضهم كان سعيد فعلا، والبعض الآخر كان تعيسا أو أقل سعادة، فالحياة
ليست دائما سهلة، وليست دائما كما نعتقد.
تعلمت هذا الأمر فيما بعد، تعلمته بفعل التجربة والكتب واختبار الناس والحياة.
لنبدأ إذن حكاية (عبد السلام)
يبدو الرجل مرحا ومنطلقا، يتمتع بوسامة بدوية لا تخطئها العين، وجه جميل أسمر يفيض بالصحة والنضارة، وتفاصيل أخرى متناغمة تجعله محبوبا ومألوفا…
أفترض الآن، أن روحه المرحة والمنطلقة كانت مجرد حيلة بالمعنى النفسي للتستر على خجله المفرط، حيلة للدفاع عن نفسه أمام نفسه وأمام الآخرين، أفترض أيضا أن الأمر له علاقة بالنساء، فشخص مثله، وسيم، ذكي، مرح، وناجح اجتماعيا يصعب أن تخلو حياته من النساء…
هذا أيضا تعلمته فيما بعد.
بدأت الحكاية عندما نزل (عبد السلام) ضيفا على صديق له في مناسبة اجتماعية عابرة، لم يكن (الحاج التهامي) صديقا بالمعنى الأخلاقي والعاطفي المعتاد، كان الرجل تاجرا وصاحب أموال، ترتسم حياته، وصداقاته، وعلاقاته بالآخرين، على إيقاع مصالحه المادية العاجلة والآجلة، رجل يخطط، ويحسب ألف حساب قبل أن يقدم على أمر أو يتراجع عنه، الحياة بالنسبة له صفقات، وهو – لأنه تاجر داهية – ينبغي أن يخرج منها دوما بمكاسب كبيرة، وعندما تسوء الأحوال وتزدهر الأزمات، ينبغي أن يخرج منها بأقل الخسائر…
في تلك الليلة المشهودة، لم يكن (عبد السلام) الضيف الوحيد، ولكنه كان ضيفا استثنائيا، كان نجما مستهدفا، يحتفي به الجميع، يرحبون به، يطلبون وده والتقرب إليه…
أحس (عبد السلام) ببعض الحرج، بالكثير من الحرج، بدا له وكأن المناسبة، والاحتفال، والمأدبة، كلها مجرد ذريعة للاحتفاء والترحيب به، بدا كل ذلك وكأنه عنوان لأمر خفي لا يدركه…
ثم في لحظة ما، بدأت الأمور تتضح وتفقد غموضها المفتعل.
على عادة العائلات العريقة التي تعرض بناتها للزواج، وتختار لهن الزوج المناسب، دارت الحسناء على الحضور تنقل (الطاس)، تصب الماء على الأيدي، وتمرر المنشفة بخفة بين الحضور، ثم توقفت كثيرا أمام (عبد السلام)، وقفت منحنية قليلا إلى الأمام، تصب الماء بحرص وأناة، تنظر إليه، تتأمله بهدوء، وتقيس درجة الاضطراب الذي يرتسم على وجهه وفي حركاته…
حضورها القوي، أريج عطرها الضاج، الثمار التي تكاد تغادر فستانها المفتوح بسخاء…
لم يصمد الرجل كثيرا، وهو الخجول المتحفظ، بدا مصدوما، مشلولا، وعاجزا تماما، رفع إليها بصره، وهمهم كلاما خفيضا يكاد لا يسمع، كلمة شكر، ربما.
– …
ابتسمت، مالت عليه قليلا، اقتربت، مالت أكثر وكأنها تفضي إليه بسر.
– مرحبا، الله يا ودي…
كانت تلك الجملة المرحبة كافية ليفقد (عبد السلام) آخر أسلحته…
…
عندما رفعت صحائف الطعام والفاكهة، وأحضرت صينية الشاي والحلويات، رفع (الحاج التهامي) الكأس إلى شفتيه، رشف منها رشفة خفيفة، التفت إلى ضيفه الاستثنائي وخاطبه بهدوء، خاطبه دون أن تتوقف سبابته عن العبث بحبات المسبحة في يده اليمنى.
– اشعل لك شي سيجارة أسي (عبد السلام)، مرحبا بك، الدار دارك، ونهار كبير هذا…
في الساعات الأولى من صباح تلك الليلة المشهودة، كان كل شيء قد حسم، تزوج (عبد السلام) في سياقات وتفاصيل سريعة وغريبة، بعدها بيوم أو يومين سيحمل معه زوجته إلى البيت، وهناك سيكتشف الرجل أنه كان ضحية لخدعة قاسية ومؤلمة، فالحسناء زوجته المفترضة كانت مجرد طعم لاستدراجه، إذ تم استبدالها بفتاة أخرى أقل جمالا، استبدلها (الحاج التهامي) في اللحظة الأخيرة كما يحدث عادة في المعاملات والصفقات التجارية المشبوهة…
كان ينبغي أن تمر أيام وأسابيع قبل أن يستوعب (عبد السلام) الموقف، وعندما امتص الصدمة أخيرا، سافر إلى مدن بعيدة، أخذ معه زوجته إلى مصحات مختصة في الرياضة والتجميل وتقويم الأسنان، نوع من السياحة والترويح عن النفس، عاد الزوجان بعدها إلى بيتهما، متعبين، صامتين…
رأيت (عبد السلام) بعدها مرات قليلة ولكنها منتظمة، تغير الرجل، كان قد أصبح أبا، تحسنت أحواله المادية وازدهرت تجارته أكثر، ولكنه أصبح صموتا، منطويا، وخجولا أكثر.
مضت سنوات طويلة، طويلة جدا، وفي كل مرة أستحضر صورته، ما تبقى منها بفعل بعد المسافة والزمن، أتساءل.
– هل وجد السعادة؟ هل تصالح الرجل أخيرا مع قدره؟
لا أدري.
وبالمقابل، كنت أفترض أنه كان أقل تعاسة من زوجته بنت (الحاج التهامي)، فهي عاشت الموقف بشكل إشكالي ومؤلم، من جهة، كانت سعيدة وممتنة لأنها تزوجت رجلا طيبا، وسيما وناجحا، ولكنها أيضا كانت مجروحة، تشعر بالحزن، والغبن، والخديعة، والكثير من الغضب، لأنها لم تكن تعلم، أو هي علمت متأخرة أنها هي أيضا كانت ضحية، وأن زواجها كان مجرد صفقة، وأن والدها (الحاج التهامي) عاملها كما لو كانت سلعة بائرة تم التخلص منها بصعوبة.