د. أحمد يوسف
في حياتنا أمثال ذات تأثير قوي فعال. تبزغ حين يضطرب الواقع الاجتماعي، وتضل بوصلته الثقافية والعلمية. ومن هذه الأمثال والأقوال المرسلة (إنك لا تجني من الشوك العنب) وكثير من أمثالنا يمثل ما يعرف بالاستعارة التمثيلية. وهي استعارة مركبة من حيث الدلالة، ومركبة من حيث البناء. فهي تجمع بين مجالين أو أكثر من مجالات الحقول الدلالية، وليست كلمة مستعارة من مجال إلى مجال على نحو ما يعرف بالنقل الدلالي في الاستعارة المفردة، ولكنها تركيب لغوي كامل قائم بذاته نستدعيه كما هو كما نستدعي دلالته أو دلالاته عبر سياق قائم على المشابهة بينه وبين الموقف الكلامي الجديد الذي يفرض نفسه علينا.
والاستعارة التمثيلية حاضرة في حياتنا لأن شأنها شأن كل المواقف الكلامية، تمثيل لسلطة اللغة وسلطة المتكلم وسلطة الرسالة التي يبثها. وهي أبلغ من الاستعارة المفردة بجميع صورها، وأقرب إلى التشبيه التمثيلي. والتمثيل في حد ذاته هو ضرب مثل في موقف ما يستدعي هذا المثل، وهو عقد صلة بين عدة أطراف على سبيل تعدد أوجه التشابه بينها. وهذه الأطراف ليست في حال من الثبات والسكينة، بل هي في حال من التحول والتغير الدائمين مثلما ورد في سورة الكهف حين ضرب الله مثلا للحياة الدنيا كماء أنزله سبحانه من السماء. فمبتدأ المثل الحياة الدنيا والماء، ولكن هذا المبتدأ لم يكن له خبر واحد لأن الحياة الدنيا قوامها التحول والتغير والصيرورة التي لا تتوقف. والماء ليس سر الحياة فقط ولكنه أيضا سر الهلاك والإهلاك. وهو مبعث الحيوية والنشاط والبهجة والاخضرار والجمال. وهو في حال السلب سر الجفاف والذبول والتلاشي والأفول والتيبس. وقد يغص بالماء شاربه.
ولذلك حين قرن الله الحياة الدنيا بالماء، جعل هذا القران قائما على التفاعل والامتزاج الذي أسفر عن كل وجوه التحول والتغير”واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا” فالماء حين اختلط بنبات الأرض، صار مخضرا يانعا يسر الناظرين، ثم صار هشيما تذروه الرياح. والزمن بين اختلاط الماء بنبات الأرض ثم اخضراره وازدهاره هو زمن التحولات والانتقالات الكبرى. فهو زمن قصير إذ صار هذا النبات هشيما تذروه الرياح. كل ذلك هو مثل الحياة الدنيا على تعدد وجوهها من التحول والتغير. والمثل المضروب لم يذكر حال الازدهار والاخضرار كما ذكر حال الجفاف والهشيم. وإسقاط هذا الذكر هو إسقاط معلوم بالضرورة. فكيف يكون الهشيم هو ناتج تفاعل الماء بنبات الأرض؟ فقد أسفر هذا التفاعل عن وجه جديد هو الحيوية والاخضرار التي هي مدار بهجة الحياة الدنيا. وإسقاط هذا الذكر الذي يمثل بهجة الحياة وزينتها إشارة ضمنية إلى أنه بالغ الخداع وبالغ القصر والدليل هو ما آل إليه. ومع ذلك، فإن هذه المرحلة من التحول هي مرحلة النضح والإثمار وحصد الفائدة والمتعة معا التي لا غنى عنها، ولا حياة بدونها.
وخطاب التمثيل على هذا النحو خطاب عابر الزمن لأنه يتحدث عن سنة الكون وهي التحول والفساد. فالماء والنبات والأرض ثالوث لا فكاك منه في كل زمن. ودورة الحياة وهي دورة الموت والميلاد هي نفسها دورة الماء والنبات. والوعاء الحاضن هو الأرض التي تشبه وعاء الرحم الحاضن لبذرة الميلاد. “وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج”
وخطاب التمثيل على هذا النحو أيضا خطاب تصويري لا خطاب تجريدي رياضي أو فلسفي يعتمد على العناصر الأولية التي يدركها الحس بالسمع أو بالبصر أو بالشم أو باللمس. وتصوير هذا الخطاب قائم على تفاعل عناصره. فالماء وحده لا قيمة له إن لم تكن ثمة وشيجة تفاعلية بينه وبين الأرض والنبات من جهة، والإنسان من جهة أخرى. فالإنسان هو المنتج والمستهلك، وهو المرسل والمستقبل. والخطاب التمثيلي يحقق كل أوجه التفاعل، ويحرك في الإنسان قدرته على التأويل والفهم. ولذلك هو أبعد الخطابات اللغوية عن المباشرة، وأوغلها في الغموض، وأولاها بالفهم والتأويل. والتفاعل بين عناصره ليس تفاعلا كيميائيا، ولكنه يشبهه ويختلف عنه. أما الشبه، فإن التفاعل بين العناصر كيميائيا يتم عبر مادة وسيطة تقبل الانسجام والاندماج مع العناصر غير المنسجمة مما يؤدي إلى بلورة صورة جديدة هي خلاصة هذا التفاعل. والأمر في التمثيل هو استدعاء عناصر من حقول دلالية لا صلة بينها في واقع الأمر، وعقد الاقتران بينها عبر وسيط هو اللغة التي هي تمثيل لنشاط الخيال والعقل معا. وغاية هذا الاقتران هي فهم المعاني والدلالات الخفية في حياتنا، وفي أنفسنا بما تنطوي عليه من جد وعبث ولهو طرب وسخرية وحزن وفرح وقنوط وإقبال.
ولعل هذا ما دعانا إلى عنونة حديثنا هذا ” بالشوك والعنب” فما العلاقة بين الشوك وبين العنب؟ ولماذا استدعينا هذا التمثيل؟ فليس ثمة علاقة بين الشوك والعنب مع أنهما من حقل دلالي واحد هو النبات. فالشوك، مع أنه مزهر، مؤلم، ومع أنه مثمر، منبوذ، ومع ذلك، فإن زهوره تأخذ الأبصار، وتخدع الحواس بألوان وأشكال آسرة. والشوك تحتضنه تربة رديئة فقيرة لقلة مائها، وشدة حرارتها. والعنب نبات مأنوس، فيه من المسرة قدر ما فيه من اللذة. صحب حياة التمدن والتحضر والرفاهية، يأنس به الغني والفقير تحتضنه تربة غنية وتناديه نوادي المتعة والنعيم.
ويبدو على هذا النحو أن ثمة مفارقة بين الشوك والعنب، تجسد مفارقة عقلية بين الغبي والذكي، واجتماعية بين الغني والفقير، وحضارية بين البادية والمدينة، ودينية بين الحلال والحرام. وقل ما شئت من المفارقات. والجمع بينهما في تمثيل لغوي هو جمع يجسد الوانا من المفارقة. ومن ثم فإن التقابل بينهما ليس تقابلا لغويا ولكنه تقابل حضاري واجتماعي، فضلا عن كونه ترجمة لواقع مادي ملموس استمد منه الخيال كل مقومات الصورة التمثيلية.
وإذا كانت المفارقة تسكن هذا التمثيل، فإن استدعاءها كاشف ومفسر لما نراه في واقع البحث العلمي في مصر. لم يكن لدينا في الأمس البعيد إلا قسم للغة العربية في مطلع القرن العشرين، وفي فجر الجامعة المصرية، ويناظره في دار العلوم الأم أقسام لعلوم العربية اللغوية والأدبية. ثم اتسعت رقعة أقسام اللغة العربية في كليات الآداب ودور العلوم. وبما أن الحضارة في ارتقاء، والعلم في رقي ونماء، فإن انتشار هذه الأقسام يعني أنها على الدرب، وعلى نهج التقدم ورقي البحث العلمي المماثل لرقي المسألة التعليمية أيضا. ولكن منطق التقدم ينطلق لا يعوق مسيرته عائق في بلاد غيرنا من البشر، ويتعطل وينزوي ويتخلف ويهزل، ويجد في الهزل والسخف والباطل في بلادنا. ولا تجد إلا رجعة في العقل تلقن الطلبة ألوانا من التخلف، وعداء للعلم ومناهجه وأهله، وفوضى تأتي على الأخضر واليابس مع كثرة الألقاب العلمية التي رخصت وهانت وأفرغت ولم يبق منها إلا الشكل.
وبما أن هذه الأقسام التي تمثل العربية وأهلها، تقوم على دراسة علوم العربية، فإن كل قسم منها يعمل وكأنه القسم الوحيد في الكون. فلا تنسيق ولا تواصل ولا توحيد للخطط والمناهج ومعايير التخرج ومنح الدرجات العلمية بين هذه الأقسام. ثم انظر بعد ذلك إلى علاقات التكامل والتفاعل بين التخصصات داخل القسم الواحد، فلا تجد إلا تنافرا وتنابذا وتطاحنا بين الناس أكثر من التنافر والصراع الذي كان بين أبناء يعقوب عليه السلام. والمفارقة المؤلمة أن هذه البيئة ليست بيئة علمية على الإطلاق، ولا طامحة للعلم، ومع ذلك فإنها تمنح درجات الماجستير والدكتوراه. كيف والمانح أشبه بالممنوح؟ فالممنوح ابن هذه البيئة وهو ثمرة من ثمراتها تخرج فيها ولا يدري المسائل الأولى في أي تخصص، ولا القدرة على التعبير عن نفسه بلغة مفهومة، ولا يعلم الأوليات في البحث العلمي عن المراجع والمصادر، ثم يخوض غمار البحث بغير سلاح ولا مؤونة ولا زاد لا من مشرف، ولا من مناقش. وبعد زمن يسير يعد من حاملي الدكتوراه. كيف حدث هذا؟ لا تسأل.
وتزداد المفارقة بؤسا وسخرية إذ يتقدم أحد أبناء هذه البيئة المجافية للعلم، للترقي إلى درجة أعلى، فيرقى في طرفة عين ليكون بعد ذلك من ذوي لقب أستاذ في كذا من التخصصات، فينطلق في غيه وفي حسن ظنه بنفسه عبر شبكة مغشوشة من العلاقات، إلى تولى المناصب القيادية التي تخيل له أنه عالم فيشرف ويناقش ولا يدري علام يشرف ولا ماذا يناقش. ويمر قليل من الزمن ليكون هذا الأستاذ نفسه قائما على ترقية أمثاله في أقسام اللغة العربية وآدابها. وهكذا يرسخ نظام الترقيات مثل نظام منح الدرجات العلمية في الأقسام، إعادة إنتاج الجهل والتخلف. إن نظام الترقيات في بلادنا تجاوزه الزمن وتجاوزته الأخلاق.
إن بلاد العالم المماثل لنا نأوا بأنفسهم عن هذا النظام الذي يورث الجهل. واشترطوا أن يرسلوا الإنتاج العلمي لمن يريد الترقي إلى جهة علمية محايدة خارج الدولة يقوم على اختيار الأساتذة الفاحصين هيئة علمية تختار أساتذة مشهودا لهم ويرسل الإنتاج إلى ثلاثة أساتذة من ثلاثة بلاد. هذا بعد فحص الإنتاج على أنظمة كشف السرقات ومعاقبة من تثبت عليه جريمة السرقة العلمية. فهم حريصون على ترسيخ العلم وقيمه وأخلاقه ونحن بما نفعل حريصون على غير ذلك تماما، ولذلك فإنك “لا تجني من الشوك العنب”