“الشعر والطفل والحجر” .. كأنّهُ وَشمٌ كأنهُ طائر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عندما تقرأ كتاب” الشِعر والطفل والحجر” لفتحي عبد السميع تجد إنساناً متدلهاً في حبه للشعر، صادقاً في حبه لدرجة أنه يغار على محبوبه من كل من يقسون عليه أو لا يفهمونه ولا يقدرون أهميته.. يأتي هذا الحب من منطلق الانسانية الحقة، إذ أن الشِعر في بصيرة مبدعنا رسولٌ ملهم وعظيم وحقيقي من رسل الجمال بمعناه العميق والواسع والممتد ، للتربيت على قلق الإنسان ولجعل إحساسه بالموت نضالاً نحو الحياة.. هذا الصدق هو سر هذا المبدع الذي إذا طالعتَ نتاجه واستقرأت سيرته ستجده في كل خياراته الشخصية والابداعية، نزيهاً وباحثاً عن الجمال الحقيقي وليس المزيف وشجاعاً ولا يرى للحق إلا شِعباً واحداً مما يجعله لا يستوعب المداهنين ولا المنافقين ولا الكاذبين ولكنه يبتسم في كل الأحوال لأنه سيسامح ويقول “المهم أن نتقي الشر بكل وسيلة”.. فتحي عبد السميع الذي تربى وسط قسوة الأحجار هو نفسه الإنسان الذي يحمل روحاً تهيم بين تحليق وإشراق الحضرات وبين نداوة الأهازيج والأغاني والأشعار و العدودات كذلك، ومن ثَمَّ صادقت المنشدين والعازفين ورواة الحكايات سواء كانوا من المحترفين أو الهائمين في الطرقات أو الجَدَّات.. لهذا يُجمع كل مَن صاحبه على وضوح شخصه وقوة منطقه، وهو الأمر الظاهر في المواقف والكتابات الفكرية، بنفس قَدْر كونه إنساناً شفيفاً وأرق من النسيم ورائياً، وهو الواضح في إبداعاته وسيرة حياته.. هذا الثراء ربما يمثِّل مدخلاً هاماً للدلوف إلى عالم هذا الفنان صاحب التنوع والإضافة.. هل تعالى المثقف هنا على بيئته التي صارت أصغر من المدى الذي يمر عليه نظره ويصل إليه وعيه بعد أن تطورت أدواته وثقافته واكتسبت أبعاداً أكثر تعقيداً؟ قطعاً العكس هو الصحيح، لقد عشق المبدع بيئته وأدرك سرها وحاول محاورة هذا السر وهدهدته والالتقاء به ونقضه أحياناً والاتكاء عليه دوماً.. وربما تصلح أشعاره كأوضح ما يكون للتعبير عن مفردات بيئته وعاداتها وتقاليدها وحالاتها المتعددة المشارب والأحلام وأحوالها الظاهرة وتلك الخاصة والعجائبية والساحرة وتراثها الضارب في الجذور البعيدة وفلسفات بسطائها المتوهجين بكبريائهم وشمسهم الحارقة التي تنير القلوب وتجلو الأرواح.. وربما كان من أجمل أدوار فتحي هو السعي نحو إبراز مناط إبداع هؤلاء الذين هم أساطير حية تمشي على قدمين، مكتنزة بالقوة والسِحر والجمال مثلما هو الحجر الذي تلمع قساوته تحت الشمس لكن التمثال البديع يعيش في داخله قلقاً في انتظار إزميل الفنان.. وهكذا تزيدنا أشعار الشاعر وكتاباته المتنوعة وحياته استيعاباً لفضيلة حب الحياة وتذوق الجمال الذي يحيط بنا، وإدراكاً لحتمية مقاومة الموت والفناء والخراب وكشف أعداء الإنسانية من القتلة والظالمين ومزيفي وعي البشر..

ربما لم يكن فتحي عبد السميع يسعى لأن يدرك الجميع كونه يجمع بين قيم فنية وفكرية وروحية باقتدار وإبداع، وتمثيله لتمثُّلاتها وتجلياتها بكل صدق وتفرد، ولا صلاحية هذا الكيان الانساني الرائع لأن يكون معبراً حقيقياً عن ضمير ثقافي حي وصادق ومهموم وفاعل، بل على العكس، كان ينفر منذ صغره من أي افتعال أو مبالغة أو حب للظهور ولا يتمنى إلا أن يعمل ويعمل ثم في النهاية يبتسم ويهز رأسه وينام راضياً، إنه يحب ما يعمل ويصدق معه ويعطيه روحه ولا يستطيع إلا أن يكون.. عندما كتَبَ الشِعر العمودي ثم شعر التفعيلة كان صادقاً في انتمائه مدافعاً عن صلاحيتهما الجمالية وعندما انتقل لقصيدة النثر لم يكن هذا الانتقال غليظاً بل كان يشبه كل أمر انتمى إليه وصار من قناعاته ورؤاه حيث نادت قصيدته وروحها ومبناها ومعناها على شكلها، وطلبت بكل وضوحٍ أن تشهد تحولاً في الرؤى كي تتمكن من النظر والشوف في المرايا الأبعد، إذ أن المبدع لم يكن أبداً متطرفاً في الاعتقاد في شكل فني ما دون الآخر، ولم يظن مطلقاً في أي مرحلة أنها النهائية والغاية وأنه بهذا يمتلك الحقيقة إذ يقينه الثابت أنه لا حقيقة في الفن، وسؤال الشِعر أساسٌ في أي شكل وأن الشِعر، هذا الماكر والمتشرد الأبدي قد يُطِلُّ من قيمٍ ربما لا تصلح للوهلة الأولى لإنتاج الشِعر لهذا فلابد من المغامرة.. وبمثل هذه المرونة والاتساع والصدق كان الأمر مع الكتابات النقدية، يكتب الكاتب الأريب عندما يستفزه عملٌ ما بغض النظر عن اسم كاتبه وكذلك لا يتعصب لمنهج نقدي دون غيره، فالعمل الفني كما يختار قالبه الإبداعي، يختار كذلك طرق الولوج إليه وسكك الوصول للسر.. ومثلما كان الاتساق الفني سمة واضحة، كان الانسان يحيا بنفس الكيفية المتوازنة، يدرك انتمائه للصعيد ويقدره ويحترمه ويستوعب كذلك كيف هو دور الرجل في هذه الجغرافيا صاحبة التاريخ فما بالك لو كان هذا الرجل مثقفاً حقيقياً؟ إذن لا يليق ولا يصح مطلقاً العيش في برج عاجي بحجة الإبداع والانتماء لقيم الحداثة والوعي المتجاوز، المثقف عند الانسان الحقيقي هو العضويٌ وليس ذلك الكائن المخملي المتعال، هو الذي يدرك كيف يحلل واقعه ويفككه ويرسم طرق التغيير والتنوير وليس مَن يمثل عبئاً ومرضاً بتخاذله وأنانيته، لهذا تركزت جهوده في الثقافة الشعبية على الظواهر المؤرقة لبلاده مثل مشكلة الثأر على سبيل المثال، ليس على سبيل الكتابة والبحث والتحليل فحسب وإنما كان هو بذاته جزءاً حياً من التفاصيل الموارة والمتشابكة لهذا الموضوع الشائك.. وكما يقدر الرجل الوضوح والمواجهة والشجاعة، لا يملك إلا رفدهم بفضيلة التسامح التي لا تخرج إلا من النفوس الكبيرة، كم من الاتهامات واجهته وكم عاش في بحيرات من سوء الظن وسَبَح في تيارات مَن يكره أن يعمل المخلصون، لكنه كان في كل مرة لا يشبه إلا جده الحكيم صاحب العصا المنقوشة الثابتة في الأرض وصاحب الحكايات، الذي يدرك أن هذه هي طبيعة الأمور وأنه لا مبرر مطلقاً لتضييع العمر في محاولة الانتقاص من الآخرين أو اقتناص اعتراف من أي آخر أو من الذات حتى، بأنني الأكثر تفوقاً و الأصح منطقاً والأقوى إذن..
كل الصغائر مجرد زفرات تخرج ولا تعود ولا يبقى منا وفينا إلا الأصيل والحقيقي.. كان هذا الرجل القريب والمنفتح على كل الاتجاهات والتوجهات، مؤهل دائماً للانضمام لهذا المعسكر الفكري أو ذاك، لهذا تجد من يؤكد لك أن فتحي عبد السميع بانتمائه اللافت للمهمشين والفقراء أقرب للتوجه الاشتراكي والآخر يجزم بهويته الإسلامية أو العروبية والقومية كونه لا يهادن في شأن الاستخفاف بمقدسات الروح والهوية والأوطان والثالث يحمل الأدلة على اتجاهه نحو تغليب القومية المصرية على كل انتماء، وهو المثقف الذي لا يُضِّيق وعيه أو يسجنه في اتجاه بعينه بل يحمل يقينياتٍ تجمع أصدق ما في كل هذه الاتجاهات..

كذلك تجد مَن يقول بأن الشاعر فتحي عبد السميع  بعد أن انتمى لجيليْن من أجيال الحداثة الشعرية المصرية هما جيل الثمانينيات وجيل التسعينيات وأنتج وجدَّد وتفرد صوته الخاص، يبقى الشاعر فيه هو الأكثر وَهَجاً في صف نتاجه في المكتبة العربية بينما ينظر آخر لكتاب “القربان البديل” البديع، ويقول بكل ثقة بأنه باحث الدراسات الشعبية المتمكن ثم تجد مَن ينعي عليه بكل صفاء عدم تركيز جهوده في النقد الأدبي أو حتى تقابل مَن يحمل أدلة موثقة ومشاهدات حية تؤكد على حسن إدارته وانفتاحها وإحاطتها بكل جوانب ما أوكل إليه من فعاليات ثقافية.. حتى أدواره الأحدث، كمسئول عن سلسلة أدبية أو حتى كاتب عمود في الصحافة هي أدوار متوهجة وينجزها المبدع المثقف بكل شفافية ووعي وعمق.. الرجل إذن هو كل هؤلاء و الرجل إذن هو قيمه السامية ومُثله العليا..
لهذا سوف يصلح هذا النموذج الذي يمثله فتحي عبد السميع ويبقى طويلاً في حالة أن أردنا الإشارة بكل يقين على حالة ثقافية متميزة ومنتجة ومخلصة كأنها وشمٌ مصريٌ وإنسانيٌ خالص..

مقالات من نفس القسم