الشعر بين فائض القيمة و فائض المعنى .. قراءة في “الأرض تتهيأ لشتاءٍ أخير”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 "حين تصير الذاكرة مِعولاً"

عبد الرحمن تمام

 

لن يماري أحد إن قلنا أنه منذ صدور ديوانه الأول "شجرة الغرائز" وأصبح يشار إلى صاحبه من قبل الراصدين للمشهد الشعري بالبنان ليس لأنه طرح رؤية مغايرة للعالم فحسب وإنما لوعي حاد وجدة تتلمسهما للوهلة الأولى خلف أنساقه التعبيرية الجمالية.

في ديوانه "الأرض تتهيأ لشتاء أخير" الصادر عن سلسلة إبداعات الهيئة العامة لقصور الثقافة

تعاود الأسئلة الكبرى الظهور مرة أخرى ويشتبك الابستيمي بالاستطيقي, الواقعي بالمتخيل ،الدال بالمدلول ,المركزي بالهامشي ،المادية الصلبة بالمادية السائلة وأولاً وأخيراً الذات بالآخر.

 

من(ملح الأرض) يبدأ (عبدالغفار العوضي) فور إهدائه الديوان لزوجته وطفله بهؤلاء الذين (يزرعون الأرض كي تحصدها مناجل شركات الأغذية) و(ينظفون الشوارع لتركض السيارات بسرعة سهم البورصة) حاملاً الخلاص لهم باعتباره نبياً مُدمِّراً (أرسلته الصدفةُ إلى عالمٍ لا يؤمن إلا بالحرب) وضمن كورس جماعي يضم الفقراء والعمال وأصحاب الأرصفة المهمشين يصرخ إزاء الاقتصاد الحر والمؤسسات السلطوية  بكافة أشكالها مبشراً بالفوضى والنيران

التي تأكل حتى تتجشأ ويستوقفنا سؤال نستمد شرعيته من بنية النص ذاته

لماذا اختار النار تحديداً للخلاص والانعتاق من ربقة الوجود ؟

(حين تشتعل النارُ فى جسد العالم فجأةً/ لأسباب عديدة /بينما كنت أُعد إفطاراً

 ليوم إضافي /فلن أتعذب كثيرا من الدهشة)

لا يخفى على القارئ مدى ارتباط النار بالمعرفة والجنس والتطهير وغني عن الذكر أن

"برومثيوس" عوقب أشد عقاب من أبيه لسرقته إياها ألم يقل "باشلار" إن النار

"توحي بالرغبة في التغيير والإسراع بالزمن والبلوغ بالحياة إلى خاتمتها "

والتخريب عند الحالم أمامها ليس تغييراً فقط بل ولادة وتجديد

وعلى الرغم من أن الشاعر/النبي لا يملك (سوى قوة الكلام وقلب كلما انفرط نبضه

انفجر مثل قنبلة موقوتة) ما فتئ يرسم فردوساً بديلاً عن الفردوس الضائع ستتضح

أركانه ومعالمه بانتهاء الديوان.

 

لا غرو إذن أن تمتد تلك الثورة لتشمل اللغة ذاتها بتفتيت مركزية اللوغوس (أصبحت عيناك تدمنان العمى عن رؤية الله كنص وحيد يحتكر اللغة) ومن ثم فلا وجود لحقيقة يقينية

فــ(ليس هناك متسعٌ من الوقت لنفترض ألعاباً ذهنية) وما من معنىً أحادي لكنما كل شيء يخضع للإرجاء والتعدد الدلالي ويحق لنا أن  نتساءل معه

(كيف نخلق نصاً بلا تأويل/كي تستمر الحقيقة منتصبةً/كوردة على عتبة الريح) .

 

الذاكرة هي ( الفكر في حد ذاته من حيث يحيا ويدوم) بتعبير "ليبنتز" وشرط رئيس

للوعي عند "برجسون" تحتفظ بما لم يعد موجوداً /(الماضي كملكية شعورية) وتستشرف

ما لم يوجد بعد/المستقبل

يقول "العوضي" في قصيدة (المسام العمياء لا تبصر عرق الغرباء):

(فلتأتِ الملائكة/ونجاهر بتمردنا الفجائي /على صيرورة القوانين التى خبأتها الذاكرةُ/

ونرتل إنجيلاً جديداً للدهشة)

فهي المِعول_الذاكرة أقصد_ الذي حمله "العوضي" ليقوض تلك التناقضات التي تعج بها

أنّاه قبل العالم لذا سنلمح تكرار كلمة المرايا بتنويعات شتى فعلى سبيل المثال

لا الحصر يقول في قصيدة (قزحية تعيد ترتيب الضوء):

 

(أخلع روحى /تلك التى أبحث عنها داخل المرآة فى آخر الليل/ ولا أرى غير فراغ/ كان يملأ تجاويفَ جسد ما)

ويقول في(فوتوغرافيا زائفة):(هنا المرايا لا تعكس سوى نفسها)

ويكفي أن نشير توضيحاً للارتباط الوثيق بين الشعر والذاكرة إلى أن إلهة الذاكرة الإغريقية (مينموسين) كانت أم ربات الفنون والإلهام التسع.

فإذا كان الدازاين/الكائن الحي بمفهوم "هيدجر" هو الزمن نخلص إلى القول سريعاً إننا أمام زمن معذّب يجابه فائض القيمة بفائض المعنى ويتغيا الوصول للزمن الأقدس /الزمن الذهبي حيث (نفتح الرئة لأشجار /تنمو كالأطفال على حِجرنا/نمد لنا جذوراً /ونغزل منها شرايين المدن/على جسد الأرض القديمة).

 

تجدر الإشارة إلى أن النص قادر على الامتصاص فحسب "لوران جيني" يهضم نصوصاً أخرى سابقة ومعاصرة بغية تمثلها وتبقى مركزيته في احتفاظه بريادة المعنى لذا سنلمح تقاطعات كثيرة مع (آدم _جلجامش_فرويد_ يوسف_أوزوريس_نوح_موسى_ المسيح_مريم_ابن سيرين_

رمسيس الثاني_موتسارت_ابن عربي) وغيرهم.

 

وأخيراً أي فردوس نادى به "العوضي" وعلى أية أرض بنى يوتوبياه؟!

يجيب في قصيدة "جذر ميت":

 

الكتابة

هى الحلمُ المتكررُ لإنقاذ الجسد ..

من صيْد الواقعية،

فى مواجهة خواء  العالم..

حيث الفقراء يدخلون الجنة بلا أنبياء

والأرضُ توزِّعُ أضلاعها كمِلكية عامة.. 

والسماءُ تتسع بالوناً ملوناً

يطيّره الأطفالُ مثل حديقة هربت من حارس الجنة

...

فى قلب شاعر

هنا تولد الأرض من جديد

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ناقد وشاعر مصري 

مقالات من نفس القسم