سامح محجوب
قبل عقدين أو ثلاثة كان يمكن تأطير الحالة الشعرية في أي مدينة أو دولة ببساطة حيث كانت الظواهر ومسبباتها واضحة، ويمكن رصدها بسهولة ويسر من خلال الصحف والدوريات الأدبية والثقافية بجوار التواجد داخل الوسط الشعري كمشارك أو متلقٍ أومتابع صحفي، وبالكسل والتقليد والتقاعس سرنا جميعًا وراء مجموعة من مؤرخي الأدب المحافظين الذين صنفوا الأجيال الشعرية بشكلٍ زمني، وصنفوا الظواهر الفنية على أسس بالغة السذاجة والتعاسة في آن؛ كوْن معظمهم كان يتعاطى الشعر كهواية بجوار مهنتهم التي أساء معظمهم لجلالها وخطورة تأثيرها في العقل الجمعي لأمم كانت تتلمس هوياتها المتنحية والمسروقة والمغيبة من قِبَل إمبريالية استعمارية حاقدة وغاشمة ، فلقد درجنا جميعًا على تسمية الشعريات باسم عصرها السياسي وكأنها منفصلة جغرافيا وفنيا وعرقيا، فهؤلاء ينتمون لقبيلة الشعر الجاهلي، وهؤلاء أبناء عصر صدر الإسلام، وتلكم من العصر الأموي، والعباسي، والأندلسي إلى آخر المسميات التي جرت على هذا الافتئات الذي أضر كثيرًا بالشعر كحالة ثقافية وفنية وحضارية، كما أطاح بظواهر فنية بالغة الخصوصية كتجربة الشعراء الصعاليك؛ التجربة الأكثر ذاتية وسط طوفان من الشعر لم يتخلص بعد من صوت الجماعة ممثلة في القبيلة والدولة .
وتجربة شعراء الثوارات التي قاومت شعوبية العرب وإقصائهم لكل من لا ينتمي لجنسهم والإصرار على معاملتهم كخدم وجنود وجوارٍ وبشر من الدرجة الثانية، حتى من تفوق منهم وأظهر نبوغًا كبشار بن برد وأبي نواس، اللذين قتلا ونكل بهما لأسباب ظاهرية تعود لفساد في الدين وأسباب حقيقية تعود لكونهما من أصول غير عربية، مما سهل على منافسيهما الدَّس عليهم في دينهما وأخلاقهما، على هذا النحو تم تأريخيًا استبعاد كل شعراء الثورات سواء كانت دينية كالخوارج أو سياسية كالبرامكة والزنوج،هكذا سار التأريخ للأدب ورصد ظواهره الفنية والثقافية وفقًا لعقلية المؤرخ الرسمي الذي يمتثل كليةً لمن بيده السلطة والفقيه الذي يمتثل كليةً لسلطة الدين غير البريئة في معظم الوقت من تبعية السلطة السياسية بدليل ما حدث للحلاج والسهروردي ، هكذا صارت الأمور ما قبل بداية القرن العشرين بعقد أو عقدين حيث بدأ الشاعر ينظر بداخله بعد قطع مسافات طويلة من النظر والتحدث باسم الجماعة التي سخّفت وشوّهت وصادرت الشعرية العربية على مدار قرون عدة كان التخلص منها يحتاج لروح جديدة وثقافة جديدة وجدا ضالتهما في ثائرٍ سياسي عظيم هو محمود سامي البارودي أبرز قادة الثورة العرابية الذي ويا للمصادفة! لم يكن ينتمي بشكل كلي للعرب كعرق وإن كان ينتمى روحًا وقومية ولغة لهم .
نظر البارودي -الفارس الذي خذلته الثورة والشاعر الذي لم يخذله بعد الشعر – نظر حوله ليجد الشعر ترفًا وسجعًا ومحسنات بديعية لا يتجاوز ألفاظه إلى أي معنى غير التلاعب باللغة واللعب بها على يد بعض المشايخ والفقهاء الذين كان جُلَّ همهم أن يكتبوا بيتًا يُقرأُ من صدره كما يُقرأ من عجُزه، فكان أن نظر بعيدًا كأي مثقف واعٍ وحالم ينظر إلى أقصى نقطة ضوء في نفق الأمس ليشعل بها فتيل الحاضر الذابل، كتب البارودي الشعر مستحضرًا أهم شعرائه ونماذجه في أبرز عصوره ليسمى هو ومجايليه من الشعراء بشعراء(البعث والإحياء) ولأول مرة في تاريخ الشعر العربي يتم توصيف الشعر فنيا وثقافيا بعدما ظل ينعت بالزمن السياسي، ولأول مرة أيضا يتخفف الشاعر بعض الشيء من صوت الجماعة متأملًا ذاته وعصره وذوات العاديين من حوله ، امتد البارودي في شوقي الذي كرّس بقوة موهبته وحضوره كشاعر ذائع الصيت للنص الكلاسيكي الذي يلتف كليةً حول مقولات القصيدة العربية بكل زخمها لغة وأسلوبية ومجازًا ،
وتوالت الأزمنة الشعرية وقفز للسطح مصطلح التجييل(الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات) بكل ما يمكن أن يأخذ عليه من ملاحظات فنية، إلا أنه يظل المصطلح المطروح بقوة في الدرس الأدبي والمرجع الوحيد لدراسة الظواهر الفنية التي مرّت بها الشعرية العربية، التي كان لابد أن أعود كل هذه الأزمنة لرصد ماوصلت إليه من تشظي وانفجار فني نتيجة هزات متلاحقة ومتتالية مرّ بها العالم والمنطقة العربية في الثلاثة عقود الأخيرة التي شهدت عدة حروب وعدة ثورات فاشلة، كما شهدت ميلاد ثورتي الاتصالات والمعلومات وما نتج عنهما من تغيير جذري في البنية العقلية والمعرفية لسكان هذا الكوكب، الذين أصبحوا على مقربة زرّ في لوحة مفاتيح حاسوب بات يحكم العالم، ويشكّلُ عقله ممتدًا لهواجسه ومشاعره ليجد الإنسان والشاعر تحديدًا نفسه متخلصًا تمامًا من سطوة عدة مركزيات في الكتابة والتلقي والتواجد ظلت لعقود طويلة تحكم بنية كتابته لكي تظل على مقاس المنطقة الآمنة في السائد والمتاح، كل شاعر إذن يمتلك دوريته الأدبية أو منصته الخاصة التي تتيح له أن يصل لكل العالم، أين ومتى شاء دون الحاجة لانخراط في جيل أو جماعة أو نمط كتابي؛ الأمر الذي بقدر ما أتاح للشاعر من حرية وسعة في التواجد والتواصل بقدر ما قضى تمامًا على خصوصية الشعر ونخبويته على الأقل الفنية، ليسقط في يد جماعات من النمل الأبيض وسّعت من هامش الادعاء في غياب الفرز الذي كانت تمارسه الدوريات الثقافية والأدبية المتخصصة، والتي كانت تعتمد معياريات واضحة الأبعاد في شكل ومضمون الكتابة، الشعر إذن تجاوز الخلاف على شكل القصيدة بل تجاوز القصيدة نفسها ليصبح نصًا معرفيا منفتحًا يصعب تأطيره وتوصيفه بالجيل والظاهرة الفنية، في ظل غياب تزامن نقدي يمكن أن يكرّس لظواهر وأنماط كتابة آخذة في التشكل والتكوين بسيولة غير مسبوقة في ظل مناخ استقطابي لا يعترف بالتجاور والتنوع والحوار وإن أُعلن ذلك ظاهريا، مَنْ يمتلك صكوك الشعر إذن ؟ الشعراء الحالمون الذين يتقاطون مع ذواتهم حريةً وانفلاتًا وتخلصًا لفكرة الشعر كضرورة وجود والذين يتقاطعون بالضرورة مع الشعر- الفن الذي يطوّر نفسه ذاتيا- لغة ومُخيلةً ومجازاً، أم الكتبةُ الذين أصابتهم عدوى التصحّر وصاروا يدبّجون القصائد العصماء العاطلة من الشعر والخيال لصالح مسابقات وجوائز رجعية تقف وراءها نظم سياسية راديكالية تكرّس لماضوية ثقافية تضمن لها البقاء مدة أطول في المشهد، أم من لا ينتمون لهؤلاء أو لهؤلاء ويتمترسون خلف قناعات ثابتة في الكتابة تحرمهم من حرق مراحل طويلة قطعتها الشعرية العربية نحو نفسه ليصيح الشاعر الممثل الأول والوحيد لنصه؟! لا أحد يمتلك اليقين لرأي أو توصيف أو تصنيف لهذه الحالة المربكة التي آلت إليها الشعرية العربية في العقدين الأخيرين ولعل ذلك كله مقدمة لمنعطف جديد قد ينحاز إليه الشاعر في القابل من الزمن.