الشاعر والحرب وأسئلة الشعر

الشاعر والحرب وأسئلة الشعر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيمان مرسال

-1-

ثلاث مظاهرات متتالية ضد الحرب على العراق(15 يناير) أربعة آلاف، (15 فبراير) سبعة آلاف، (22 مارس) 18 ألف متظاهرا في مدينة ادمنتن الكندية، وهي مدينة يقل عدد سكانها عن المليون ومعروفة بأنها نموذج جيد للغرب الكندي من حيث أنها غنية ومحافظة وبعيدة. في هذه المظاهرات يقطع المتظاهرون الرحلة في وسط المدينة حاملين كل ما يمكن تصوره من لافتات تحمل أسماء منظمات شيوعية، حقوق إنسان، مسيحيين من مذاهب مختلفة، جمعية النساء اليهوديات اللواتي اتشحن بالسواد، تجمعات للمثليين الجنسيين، إسلاميين، وحتى مجموعات من بقايا موجات الهيبز حيث تجدهم بالشعور الخضراء والبنفسجية والأقراط التي تتدلى من الأنوف والشفاة مع طبل افريقية وروائح قوية تدل على ثقافة ما يسمى بـ (Age (New وهي في النهاية تمنحك عطور المجاذيب المصريين التي يرشونها في موالد الأولياء. بعد هذه التمشية الرائعة(المارش) والتي تجمع بين كبار السن وحديثي الولادة في عرباتهم المزينة بطيور من القطن ومرايا وشخصيات من أفلام الكرتون الكلاسيكية و في درجة حرارة قلت في أحسن أحوالها عن الخمسة تحت الصفر ، يصل المتظاهرون في حماية بعض رجال البوليس إلى ( الرالي ) حيث يقفون أمام مسرح كبير معد لذلك سلفا، و حيث تتناوب المنظمات المشاركة وفرق موسيقية الميكروفون طبقا لبرنامج مطبوع وموزع على المتظاهرين من قبل.

-2-

إذا استثنينا الأغاني الدينية الداعية لسلام عام بين البشر الذين هم أخوة، فان هناك حضورا قويا لكل الأدبيات التي أنتجت من قبل داخل تاريخ المعارضة الأمريكية للإنجليز أولا حين كانت أمريكا في يوم ما تصارع محتليها. ثم من داخل معارضة الأمريكيين لحكوماتهم ثانيا في الحرب على فيتنام والحصار على كوبا وحرب الخليج الأولى وغيره مما لا يمكن حصره من بلطجة الرأسمالية الأمريكية خلال ما يقرب من الخمسين عاما الماضية.

هذه الأدبيات يتمثل بعضها في ألحان أغاني إنجليزية قديمة فرغها الأمريكيون من محتواها القديم عبر كلمات جديدة ترفض الاحتلال الإنجليزي لأراضيهم في مظاهرات لاكسنتج وبوسطن في القرن الثامن عشر ثم غيروا نفس الكلمات مرات ومرات لتعبر عن كل رفض جديد لتدخل حكوماتهم نفسها في شئون الآخرين حتى وصل نفس اللحن لأن يكون عن الحرب على العراق. ومنها(This little light of mine) ( هذا النور الضعيف الذي لي سأجعله يضيء /دعه يضيء / دعه يضيء)، هناك أيضا حضور لبعض أغاني البيتلز مثل All you need is love)) كل ما تحتاجه هو الحب).

ومن الأغاني التي يرددها المتظاهرون سواء فيما شاهدته أو في معظم المظاهرات التي خرجت في شوارع المدن الأمريكية أغنية (All we are saying is give peace a chance) كل الذي نقوله هو أعط السلام فرصة) وهي ترجع لمظاهرات حرب فيتنام ، كما ترجع لها أغان أخرى مثل ( I’m going to lay down, my sword and my shield)

ومنها: (هناك عند شاطيء النهر/ أنا ذاهب لأضع سيفي والدرع / تأملوا الحرب وكفى ) حيث يردد الجمهور وراء المغنيين السطر الأخير، وأيضا من الأغاني التي كانت أساسية في المظاهرات ضد حرب فيتنام تلك الأغنية لـ (Ed McCurdy ) و هي (Last night I had the strangest dream وقد عرفها المستمعون منذ 1950 وهي تحمل شجنا يمتد عبر سنوات من إحساس الرافضين بالعجز من جعل الإدارة السياسية الأمريكية تستمع إليهم في الماضي كما في الحاضر ومنها: (ليلة أمس، رأيت حلما غريبا لم أر مثله من قبل/ رأيت كل العالم قد وصل إلى اتفاق / بوضع حد للحرب ).

عندما يوشك هذا الرالي على الانتهاء حيث يكون الكثيرون قد غادروا ، يبدأ مستوى آخر من الاحتجاج النوعي عبر قصائد جنسبرج وأشباهه حيث لا يوجد أي حضور للقصائد الأحدث مثل قصائد أميري بركة أو ديريك والكوت

وشيموش هايني مثلا وهي متوفرة على الانترنت لنفس الجمهور الذي لاشك يعرفها من وجودها على نفس الويب سايت الخاص بمواعيد المظاهرة التي يقرأ ويسمع فيها الآن هذه القصائد القديمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هذا التشابه بين ترديد مظاهرة في القاهرة لقصائد نجم و درويش و فؤاد حداد وأمل دنقل وبين ترديد مظاهرة في كندا (ومظاهرات كثيرة داخل أمريكا) أغاني وقصائد بل وعروض مسرحية تهكمية مضى على ولادتها وتداولها الأول أكثر من ثلاثين عاما؟

-3-

من السهل جدا أن نكتفي بالقول أن هناك شيئا أصيلا يستحق الحياة في هذه القصائد والأغاني خصوصا إذا تذكرنا حقيقة أن مئات من القصائد والأغاني الأخرى كانت قد ظهرت ربما في نفس اللحظة القديمة وجاورتها ولكنها سقطت في الطريق إلى مظاهرات 2003 ( لا شك أن شعرنا العربي الحديث مكتظ بتلك القصائد التي تريد أن تقود الجماهير خلفها ضد أمريكا أو اسرائيل، ضد احتلال خارجي أو ديكتاتور داخلي متواطيء ومحمي بهذا الاحتلال، قصائد تنعي سقوط عاصمة عربية وتبريء نفسها من المساهمة في هذا السقوط الذي لا شك شاركت في حدوثه قصائد أخرى وهكذا) وهنا يبدو أن علينا التفكير بأن هناك شيئا خاصا في أعمال مثل لا تصالح ، عواء، اوالبقرة حاحه، يجعلها قادرة على الحياة في وجدان أجيال جديدة لم تشهد مظاهرات عام اثنين وسبعين في القاهرة ولا تقليد كتابة القصائد على الجدران في نيويورك وسان فرانسيسكو أثناء حرب فيتنام.

هناك أيضا المتظاهرين القدامى الذين نجوا من أن ينقلبوا ضد معتقداتهم القديمة وما زالوا يشاركون في معارضة الاحتلال أو المتواطئين معه في الوطن العربي أو يرفضون أن ترتكب بلدهم أمريكا جرائم جديدة باسمهم من أجل السيطرة على الكرة الأرضية . وهنا تظهر قوة النوستالجيا لا للقدرة على قول لا وحسب، بل إلى الطريقة التي قيلت بها من قبل. هنا يردد المعارض القديم قصيدة نجم وفي روحه شجنا إضافيا لذكرى وقفته في نفس المكان منذ أكثر من ثلاثين عاما حيث كان طالبا في الجامعة وحيث كان للكلمات رائحة طازجة ربما أصبحت مريرة لأنها تحمل ضمن ما تحمل ما مضى ولن يعود. قصيدة نجم هنا مثلها مثل قصيدة جنسبرج في ذاكرة معارضة جماعية، هي أيقونة تحمل ماض شخصي لا يمكن استبعاده عندما نسأل لماذا تعيش .

إذا استمعت إلى أغاني المعارضين لحرب فيتنام في مظاهرة الرافضين للحرب على العراق لن تصدق أن أناسا آخرين غنوها في ميادين مختلفة ربما قبل أن يولد بعض من يرددوها الآن، فمن اللافت قدرة هذه الأغاني على التعبير عن المعارضة الحالية تماما والتي قد تبدو مختلفة شكليا من حيث الظروف التاريخية حيث كان خطاب أمريكا في حرب فيتنام مبنيا على صراع مع قوة أخرى عظمى تهدد أمن الولايات المتحدة المقدس بما في ذلك من إمكانية للنجاح داخل اللعبة السيكولوجية التي تميزت بلعبها الإدارة الأمريكية منذ الأربعينيات، أي منذ تحددت ملامح خطابها ضد الخطر الشيوعي وتوسع هذا الخطاب ليصنع مجتمعا أمريكيا تحكمه مخاوف هستيرية تمتد من الموت إلى فقد الوظيفة وبالتالي التأمين الصحي ومن الشيوعية إلى الإسلام . بينما خطاب الحرب الآنية على العراق يلفق بين دعاوى المسئولية الأخلاقية لقوة وحيدة عظمى تريد أن تحرر شعبا آخرا من ديكتاتوره ( بالطبع مع تعتيم كامل لتواطؤ هذه القوة السابق معه) مع بعض المفردات الرومانسية من قواميس الخير و الشر المطلقين بالإضافة لتزييفات آلة إعلامية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني ترسم ليلا ونهارا صورة لقوة العدو الذي يمكن أن يولد في المستقبل و قد يهدد نفس الأمن المقدس الذي ضاعت هيبته بعد الحادي عشر من سبتمبر.

وإذا كانت مظاهرات التحرير في عام اثنين وسبعين بكعكتها الحجرية وبقرتها حاحه ضد الاحتلال الاسرائيلي القائم بالفعل وضد كل التسويفات المحلية لتأجيل مواجهته عسكريا، فان مظاهرات 2003 ضد ما هو أبعد من ذلك ، وان كان لا يخرج عليه، وهو الحس القومي أو الوعي المتجدد بضراوة القوة العظمى التي في طريقها لتغيير الجغرافيا والتاريخ من أجل مصالح شركات البترول التي يملكها ويديرها – كما أصبح ثابتا تماما- نفس مجلس الحرب على العراق. وكأن اللحظة التاريخية التي أنتجت حرب فيتنام كما أنتجت أغاني وقصائد المعارضة ضدها داخل أمريكا هي نفسها التي تعيد إنتاج الحرب على العراق كما تعيد إنتاج خطاب المعارضة السابقة في نفس الأغاني والقصائد. وهنا يبدو وكأن الخارطة لم تتغير الا في رتوشها الخارجية بينما ما زالت خطوطها العريضة هي الاحتلال ومقاومته. ولكن ما يجب أن ننتبه إليه هنا هو أنه بينما تعيد المعارضة الشعبية العربية في مقاومتها للاحتلال إنتاج خطابها القومي بقصائده وأغانيه، تعيد المعارضة الأمريكية للحرب إنتاج أيقونات التمرد والتبرؤ من القومية الأمريكية. وهو فرق يجب تأمله داخل هذا التشابه .

-4-

لقد طرح السؤال مرارا عن لماذا لا توجد قصيدة عربية جديدة لها القدرة على أن ترددها ( الجماهير) الآن؟ وهو سؤال- لا شك- خادع – رغم أهميته ومن السهل أن نضيفه إلى دلائل العجز العربي التي نسمعها كثيرا هذه الأيام.

فلا شك أن هناك شاعر عربي على الأقل يجلس أمام ورقة بيضاء يحاول أن يكتب قصيدة عن الحرب. من السهل أن ينهي قصيدته الجديدة إذا كان يريد أن يهجو أمريكا واصفا لقبح الرأسمالية في لحظة نادرة من لحظات إرهابها وعنصريتها ، ومن الممكن أن يكتب قصيدته عن صدام حسين كنموذج للديكتاتور القديم الذي لم يعد صالحا للحظة التاريخية الراهنة والتي يجب أن يكون ديكتاتوريوها محميين وتابعين للقوة العظمى . أو صدام حسين الشخصية الميلودرامية ، التي أجبرت الأكراد على أن يكونوا عرب ثم غزت الكويت أو التي سيحت الشيعة بالغازات السامة، ثم حاولت أن تثبت نسبها للبيت النبوي. قد ينجح شاعر عربي في العودة للتاريخ قديمة أو حديثه ليبحث عن لحظة تاريخية مشابهة ويعيد كتابتها وهو لن يغلب في ذلك وان كان الشعر العربي منذ الخمسينيات يتقمص نفس الأبطال ويستحضر نفس اللحظات، من علي بن أبي طالب إلى الحلاج ومن زرقاء اليمامة إلى صلاح الدين، من الأندلس إلى فلسطين إلى بغداد إلى رموز أخرى تنتظر دورها في السقوط . ليمدح ويذم ، ليبشر وينفر، ليقود الشعب الذي لا يعرف وراءه. حيث الشاعر أكثر وعيا . تماما كما يفكر القادة والحكام بهذا الشعب فيحكمونه دون إرادته. قد يهوم الشاعر العربي بكتابة قصيدة رمزية عن العجز العربي العام مشاركا في ذلك في بناء خطاب ينتجه المثقفون وترحب به السلطة السياسية لأنه يجمل وجهها المتواطيء مع ما يحدث ويجعلها في عجزها تتساوى مع شعوبها مسلوبي الحرية تحت أدوات قمعها هي نفسها.

ولكن هذا التخيل يستدعي تثبيت خريطة الشعر العربي في لحظة ماضية. وإلغاء ملامح جديدة أصبحت ربما تمثل مشهدا جديدا داخل الشعر المكتوب بالعربية. ووجود بعض شعراء الثنائيات القلائل داخل هذا المشهد قد يضيف فقط قصائد تكرارية لما كتب من قبل، أي لما ستظل الجماهير تردده إلى أن يخرجوا كأفراد من بقايا الخطاب القديم المتداول عن المقاومة التي هي مزيج من نثارات الخطاب القومي إلى خطاب جديد . وربما هناك شعراء عرب كثيرون رافضون للمشاركة في إنتاج نفس الخطاب الوحيد والمهيمن ، الخطاب الذي يحتفي بالقومية العربية عندما يتم احتلال بلد عربي جديد، دون أن نتساءل- الآن على الأقل- عن دور نفس المقولات القومية في كتابة كل قصائد المدح لصدام حسين ضد القومية الفارسية ، دون أن نفكر كم من صدام حسين يحكمون منطقتنا بحماية أمريكا ، وكم من كتابة تجمل وتدعم وتبرر لوجود هؤلاء كزعماء أحرار، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر يطرح نصف الحقيقة( أمريكا المحتلة) ولا يطرح نصفها الباقي( الحكومات التي لن تنجو ليوم آخر لولا هذا الدعم والتواطؤ من المحتل).

نعم هناك شاعر عربي على الأقل لن يكتب شيئا عن هذه الحرب، ربما لأنه يرى أن الحرب ضد الاحتلال لا تقل عن الحرب ضد الديكتاتوريات المتواطئة معه. وأن الحرب ضد السلطة السياسية لا تزيد في أهميتها عن الحرب ضد خطاب ينتجه المثقفون عن العجز العربي. ولأن كل الحروب لا تعفي الشاعر من البحث عن أصول خيبته الفردية. عن مساءلة تراثه لا كشيء موجود في الخارج لكن كشيء نحمله داخلنا بكل قهره وتخلفه .

ربما لأن كل ما هو جماهيري اليوم هو قومي أو إسلامي أو خليط من الاثنين، بينما من حق شاعر ما أن يرى أن الحرب على مقولات القومية العربية في جانبها الديماجوجي والفاشي هي جزء من مواجهة مقولات قومية لقوى تريد الهيمنة على الدنيا(أمريكا) عبر خطاب قومي أيضا وان كان قادرا على ممارسة عنصريته على منطقتنا فليس لقوته العسكرية وحسب.

وهنا أحد الأسئلة التي تطرحها الحرب: هل يجب على الكتابة أيضا أن تكون رد فعل هجائي يقوم بدور نوعي ضد الاحتلال وإذا كان ذلك كذلك، فهل يجب تجاهل تثبيت هذه الكتابة لبعض المقولات( مثل القومية العربية في وجهها الديماجوجي مثلا) والتي ربما كان على نفس الكتابة تقويضها من الداخل إذا لم تكن مرهونة طوال الوقت بسبب تصورنا عن العجز العربي الزائف لردود الفعل؟

هل هو ترف أن تسقط بغداد تحت كل هذه القنابل بينما هناك شاعر عربي يبحث عن كتابة تساءل وعي فرد ما لا من اجل جماهير متصورة، ألا يعني ذلك أن هذا الشاعر يحاول مواجهة خيبته الفردية، الجماعية، القديمة، المتجددة، بأن يؤصل لها خارج الجاهز والمنجز والمعاد؟. لماذا لا نفكر أن هذا الشاعر الذي لا يطمح على كل حال بكتابة قصيدة ترددها الجماهير هو فرد متقدم على المعارضة السياسية خطوة؟. متقدم على واقعه السياسي خطوات؟.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخميس‏، 03‏ نيسان‏، 2003، عن مجلة – كيكا

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم