حسام المقدم
سطور غير عادية، في مقدمة كتاب “سَفَر” للإنسان الكبير والكاتب المتفرد “محمد المخزنجي”؛ جعلتني أقف، وبمَيْل كامل أُدندن كلماتها التي حفظتها بطول العِشرة مع حروفها. سطور تحت عنوان “نافذة قرب الجناح”، تُخبر عن روح تمكّنتْ من الانفلات، وظفرتْ أخيرا بسفر على طائرة ستحملها بعيدا عن القهر المتواصل والعبثي: (أشعر بفرح الانعتاق، فرحًا يُفعمني بالخفة، بالطرب الدافع إلى دندنة لحن حزين بسخرية مرحة: “لمّا انت ناوي تغيب على طول..”). دخلتْ الكلمات إلى نفسي من مدخل خاص أعرفه، لتصبح بعد ذلك من كلماتي وأغنياتي ومواويلي. ما من مرة ركبتُ فيها مُواصلة، أي مواصلة، ولو لكيلومترات معدودة؛ إلا وأُدندن بكلمات الحرية والانعتاق بعيد النوال، وأروح في لحن الغياب لعبدالوهاب بكل شجنه المُرعِش: “..مُش كنتْ آخر مرة تقول”. لم يلزمني المزيد بعد تلك السطور لأعرف أن المخزنجي “سَمِّيع” عظيم، رغم أن الصورة تكونت عندي قبل ذلك في قصصه ونصوصه الإنسانية الفارقة بالترتيب المتفاوت لقراءتي لها، مثل “هذه اللحظة” و”شجرة في جدار أسمنتي” وغيرها.. فمَنْ هو “السَمِّيع” كما تشكَّلَ في خيالي، وحرصتُ كثيرا على مقاربته مع نفسي؟
لا ليس هو الحافظ أو العلَّامة الموسيقي في الألحان والكلمات رغم أهمية ذلك، وليس هو الصنايعي في التفسير وشرح المقامات.. هؤلاء أساتذة بلا شك ولهم ما لهم من أفضال كبيرة، لكنَّ الذي تكوَّنَ في أعماقي، مع الوقت، عن هؤلاء النوعية “السَّمِّيعة” من البشر، أنهم ببساطة تأتيهم الموسيقى أو الألحان ليُدندِنوها في الوقت المناسب تماما لما هم فيه، كأنها تنزل عليهم نزولا.. ليس هناك فعل مُعجِز في ذلك، إذا تصورنا السَّمَاع يَتِمُّ عبر أُذُن حسّاسة موصولة بوريد عاطفي، يحمل كل نغمة وذبذبة للقلب مباشرة. وفي القلب لا يضيع شيء أبدا مهما طال الزمن، إنما يعود ويظهر مرة أخرى وبشكل مُربِك حتى لصاحبه.
ربما أتجرأ وأحسب نفسي من هذه الفئة، ولكن في درجة تخصني هبوطا أو صعودا عن آخرين. لا أزال أتذكر جيدا ذلك الأسبوع الذي قضيته في حالة شجنية استسلمتُ لها، بسماع أغنية واحدة لنجاة بشكل يومي، وفي اليوم الواحد أكثر من مرة. حدث ذلك بعد مشهد رأيته أمام عيني، حين كنت برفقة صديق عزيز جدا إلى نفسي، وقابلنا في الطريق أحد معارفه منذ أيام الدراسة. وقف الاثنان يُذكِّران بعضهما بما كان، وفي حين كان صديقي يتذكر كل شيء ويحكي أطرافا من تفاصيله؛ كان الآخر يقف بوجه بارد وقلب مُجَفَّف. لم تطل الوقفة، وأنهاها الآخر بسرعة وحياد وادِّعاء المشاغل. حين نظرتُ إلى صديقي وجدته قد غاب وغام، واكتفى بهِزّات من رأسه ومصمصة واحدة لشفتيه، مع كلمات قليلة: “معقول نِسي؟.. دا كان من أقرب الناس ليّا”. لحظتها جاءت على خاطري جُملة مُنسابة ورقيقة، رغم ما تحمله من قوة كبيرة في لعن النسيان والذين يستسلمون له: “أيوا يا سيدي نِسي.. يا خسارة نِسي”. جاوبني مؤكدا على المعنى، وبقيت أياما مع “نجاة” أسمع “يا خسارة نسي”، لأرى صديقي وموقفه، وأرى نفسي في شريط طويل بمحطات كثيرة وتجارب مُشابهة، والأروع غرقي تحت شلال الموسيقى واللحن الغامر، بصوت نجاة وهي تدخل بأُوبرالية رهيفة جدا: “نِسييييييي”.. أشعرتني أن النسيان شيء كبير وثقيل يستلزم هذا الصوت النقي العالي، وهو يرفض في ثنايا الكلمة المُلَحَّنة كل معنى من معانيها. خرجتْ “الله الله” كثيرا من فمي، واعترفتُ بالامتنان لذاكرتي الموسيقية المضادة للنسيان، حين قبضتْ على اللحن والكلمات في مواجهة موقف صديقي.
دائما كانت حاستي الموسيقية بجواري، فاتحة لآفاق ممتدة. فها أنا بعد مدة طويلة من قراءتي للرواية القصيرة الرائعة “ساعي بريد نيرودا” للكاتب التشيلي “أنطونيو سكارميتا”؛ لا أزال أُميل أذني مُتسمِّعا للأصوات الطبيعية البريَّة التي سجّلها على شريط ساعي البريد “ماريو” كي يرسلها إلى شاعره الكبير “نيرودا” المقيم في العاصمة. سجّلَ “ماريو” بِحُب كل شيء في القرية الساحلية مع تعليق بصوته في عدة مواضع: صوت البحر واصطفاق الأمواج، عقارب وحشرات بين الصخور، وشيش الريح البحرية وهي تدخل بين الغصون. هل هذه الأصوات عادية ولا تستحق؟ لا, وإلا ما كان الشاعر الكبير طلبها وألحَّ في ذلك لتنقل إلية الجو والرائحة والطعم الكامل لقريته المُفتَقَدة. الكثير من الأصوات والنغمات لا تفنى، “ومَنْ له أُذنان للسمع فليسمع”، كما تقول الآية الإنجيلية. حتى الآن تظل دفقات الموسيقى غير العادية التي قدمها عازف البيانو الفطري، والفنان العبقري المتوحد بالكامل مع عالمه وموسيقاه، في فيلم “أسطورة 1900″، للمخرج الإيطالي الفذ “تورناتوري”؛ تظل تلك الموسيقى تملأ النفس لمدة أعوام بنغمات الوجود والتحدي والاحتراق بالفن ومن أجل الفن. لن يختلف ذلك الإحساس بالشمول عند سماع موسيقى “عمر خيرت” التي هي لا شرقية ولا غربية، لكنها خلطة حريفة ورائعة من كل ذلك، ففي موسيقى “ليلة القبض على فاطمة” هناك نغمة طويلة وحادة وحزينة تشرخ بحنو في الصدر، وتستمر فترة طويلة تُدَوِّم في الجوار. وإذا عبرنا الصدر ودخلنا بلا إذن خاص، فسنقف طويلا أمام ما يَحُفُّ بلحم القلب نفسه، دون أي طواف أو سياحة.. إنها “فايزة أحمد” رفيقة عُمْرٍ كامل من القلق والأرق، وحبيبة دائمة لطَبْعٍ تعصف به اللاطمأنينة.. “فايزة” التي أخرجتْ قلبها في يدها وهي تُغني في “حبيبي يا متغرب”: (أنا عايزة أشربْ من إِيدك، واتْنهدْ مع تنهيدك)، والتي بلغ إحساسها حدّ أن كانت لا تُغني إنما تتنفس بدفء هو البرد والسلام على القلب المُتعَب.. في أغنيتها “أيوا تعبني هواك”، والتي والتي..
وللخروج الصعب على النفس من سيرة “فايزة”، وما تتركه من عينين مُبتلتين وقلب حي مُتوجِّع؛ فلنرجع لموسيقى الطبيعة التي هي الأم والأصل، ولتذهبْ يا حبيب وتجلس صامتا أمام النيل في عصرية أو مغربية، أو في أي وقت تشاء، تاركا مياهه الرصاصية تتهادى لعينيك في غبشة الليل. حتما ستذكر “أم كلثوم” مع كلمات رامي وموسيقى السنباطي في “الموجة بتجري ورا الموجة عايزة تطولها، تضمها وتشتكي حالها، من بعد ما طال السفر”. عن نفسي أنا، أقول لك إنني أظل مع الماء لا أرفع عيني عن موجة مُحددة لأعرف إلى أين تنتهي! هل يختلف الإحساس حينها عن إحساس ذلك الجالس هناك في الشمال، على ضفة نهر “الدانوب”، يسمع انسياب الماء وتهاديه، واصطخابه أيضا، في موسيقى “الدانوب الأزرق” ليوهان شتراوس؟
ليس جديدا بالطبع، أن نعترف بعشق “جلال الدين الرومي” الذي قال إن الناي يئن ليعود إلى فرع الغاب الأول الذي قُطِع منه. لكنّ “محمود عفّت”، عازف الناي الموصول بقوى فنية خفية؛ قد ترجمَ أنين الناي واشتياقه الأبدي ذلك، في موسيقى “العلم والإيمان”، بما جعل استحالة فصل كلمات أنين الناي للرومي عن أنينه الموسيقي عند “عفت”. ويبدو أن العازف المتفرد رأى الناي قادرا على الكثير والكثير، فسافر معه لدنيا أخرى من الفرح والتقافز، فضلا عن الأنين الأصيل فيه.. كل هذا لن ننساه في موسيقى “كونشيرتو الناي” للموسيقار عطية شرارة مع ناي الأستاذ “عفت”.
تزدحم الذاكرة وتتوالى آيات السمَع، في مواقف ونغمات وكلمات مجدولة من بعضها وفي بعضها، تصعد إلى شُرفة اللسان طالبة حقها في التصفير المزاجي أو الدندنة.. لكنّ “السَّمِّيعَة” يثقون في وريدهم الفني الواصل بالقلب، ويعرفون أنه معهم ضد البلبلة والاضطراب السمعي والنغمي، في كل ما حولنا من ضوضاء وتشوه. سيبقى هناك الجمال في الكلمة والنغمة والصوت، طالما توجد في الدنيا كلمات عظيمة من لحمنا ودمنا، مثل هذه الكلمات للأب الكبير “فؤاد حداد”، التي يُغنيها بصفاء نادر “محمد منير”: (أميرة عاقلة في الحَجْلَة والعقل يِطِير/ كانت صغيرة بِضَفِيرة، وكان هو صَغِير/ ساعة ما تضحك مع أخوها.. تِلاقيه بيْغِير/ ولما تِرَفعْ قُلِّتْهُم تِلاقيه عطشان..).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري