السَّهَر

mohammed Al fakharany
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حكاية: محمد الفخراني   

يتبادل الليل والنهار أماكنهما في العالم بسهولة، ويمكن لأيًّ منهما في الظروف العاديّة أن يتأخّر عن موعد حضوره ساعة كاملة دون أن يلاحظ أحد ذلك، لأنَّ ظِلَّ كلٍّ منهما يَسبق صاحبه إلى المكان الذي يتجه إليه، ويصنع حالات شفّافة تُدْخِلُ العالمَ في حُلْم قصير، يُسمّىَ “شروقًا” في حالة النهار، و”غروبًا” في حالة الليل.

وعندما يتأخّر أّيّ منهما في الحضور، فإنَّ هذا يحدث لأسباب تتعلّق بشخصيته، وأسلوبه الخاص، قد يشتبكُ الليل في مشاجرة أثناء قدومه، أو ينسى نفسه بأحد أماكن المتعة التي يصادفها، يتوقَّف ليتلصَّص على نافذة، أو يُتابِع حادثًا ما، ربما يكون قادمًا من أماكن بعيدة، ويضطر أن يسير في مناطق وشوارع موحشة، يتعرَّض فيها لمحاولات سرقة ويُصاب بأذىً ما، وكثيرًا ما ظَلَّ مُلقى بالشارع لبعض الوقت وهو طافٍ على دمه، إلى أن تنقذه فتاة أو امرأة، بأن تسحبه من يديه أو قدميه لبيتها، أو تجلس إليه في مكانه، وتفعل كل شيء لتوقف نزيفه، ولا تَنْسَ أن تحتفظ لنفسها في النهاية بقطعة من ملابسه المُبلَّلة بدمه، وربما أنقذه رجلٌ عابر، وخاطَ له جرحه بشكل عشوائي، لتكون هذه الجروح فيما بعد هي المناطق الأكثر وِحْشة وإظلامًا في جسد الليل، ومنها تَصْدُر الأصوات العميقة التي تبدو مجهولة المصدر، ويخافها المسافرون والوحيدون بشكلٍ خاص رغم ضعفها، إلّا أنّ هذا لم يمنع الليل أن يتّخذ الرجال الذين أغلقوا جروحه بهذا الشكل أصدقاء له، هُمْ في النهاية أنقذوا حياته، كما سيُنقذه أطفال، حيوانات، وكائنات أخرى ربما لن يقابل أيًّا منهم مرَّة أخرى، ويعتبر نفسه مَدينًا لهم، لذا، يُلقي بعضَ نجماته كل ليلة بشكل عشوائي، ربما تصادفها يد أحدهم.

لم يكن الليل يتأخر عن المكان الذي يتجه إليه أكثر من ساعة واحدة، مهما كان جرحه خطيرًا، فإمّا أن يفيق بشكل تلقائي قبل نهاية تلك الساعة، أو يقوم مّن يخيط له جرحه بإفاقته، حتى لو أنه لم يُكمِل خياطة الجرح، فيملؤه له بحفنة ملح، أو سكر، أو تراب، ويربط عليه سريعًا بقطعة قماش، أحيانًا يُكمل الليل خياطة الجرح بنفسه أثناء الطريق وهو يضغط بأسنانه على قطعةٍ من خشب، ربما لا يبالي ويترك جرحه مفتوحًا حتى يتوقف النزيف بنفسه.

 دم الليل خفيف القوام، بين العطر والماء، له لون الشجَن، ولا يَجفّ أبدًا، فكانوا يستعملون قِطَعًا من القماش النظيف لامتصاصه من الأرض، ويحتفظون بها بعد ذلك، هم يحبون رائحته الرهيفة، لونه الحالم الشجىّ، ويحتاجونه للسَّهَر. 

وفي وقت قديم، لم يكن هناك وجود لكلمة “السَّهَر”، والشخص الذي يَبْقىَ مستيقظًا طوال الليل أو لوقتٍ طويل منه، ويريد أن يُعبِّر عن ذلك، فإنه مُضطرّ أن يقول جملة طويلة مثل “سأبقى مستيقظًا لوقت طويل من الليل” أو “لن أنام هذه الليلة”، وقتها، لم يكن استيقاظهم هذا لأجل المتعة، على الأقل لم يشعروا بتلك اللذّة الغامضة، حتى ظهرَتْ كلمة “السَّهَر”.

 ظهرَتْ كلمة “السَّهَر” عندما أُصيب الليل بجُرح لأول مرَّة، كان جرحه كبيرًا، وظَلَّ مُلقى في الشارع لوقت طويل، حتى تَجَمَّع حوله عدد من المتشرِّدين بعد أن شَمُّوا رائحةً لم يصادفوها من قبل، وعندما تتبَّعوها وجدوها تتسرَّب بخفّة من دمه، كانت مزيجًا من رائحة مطر بَحْريّ، وندف سحاب، وعُشبٍ نَبَتَ لتوّه، لم يستطيعوا وصْفها أو تسميتها، لكنها جعلَتْ حواسّهم تبتسم، اقترَحَتْ مُتشرّدة أربعينية أن يخيطوا لليل جرحه قبل أن ينزف كل دمه، جلسَتْ إلى جواره، نَقَلَتْ رأسه إلى ركبتها، خاطَت الجرح في دقائق، وأفاقَ الليل قبل أن تنقضي ساعة منذ إصابته حتى الانتهاء من خياطة جرحه، ابتسمَ للمرأة، وأَخرَجَ من قلبه ثلاث نجماتٍ طِفلات ثبَّتهن على صدرها، وغادرهم مُتعَجِّلًا كمَنْ يخشى فوات موعد مهم، كانوا مأخوذين برائحة دمه، هتفَ أحدهم له: “يا ليل، رائحة دمك جميلة”، التفَتَ الليل إلى الرجل وقال: “اسمها السَّهَر”، في هذه الليلة ظلَّتْ رائحة دم الليل حاضرة مثل عطرٍ خفيف، ولم يَنَمْ أيٍّ من المتشردين.

مع تكرار تَعَرُّض الليل للإصابة، وقيام الكائنات بخياطة جروحه، لاحظوا أنهم لا يشعرون برغبة في النوم طالما يَشمّون رائحة دمه، وقد أراد أن يكافئهم لإنقاذهم حياته، فدَلّهم على طريقةٍ تُبقيهم مستيقظين كيفما شاءوا، بأن يحصلوا أثناء خياطتهم لجُرحه على قطراتٍ قليلة من دمه، أو يُبلِّلوا به قطعة صغيرة من قماش، ويضعونها في إناءٍ فُخاري مكشوف، وطالما تسري رائحة الدم في الهواء يَظلّون مستيقظين.

 منذ دَلّهم الليل على طريقته تلك صاروا يستعملون اسم رائحة دمه “السَّهَر”، ليصِفُوا بقاءَ الشخص مستيقظًا طوال الليل أو لوقتٍ طويل منه، ثم تحوّلَتْ كلمة “السَّهَر” من وَصْفٍ إلى اسم تُعرَف به هذه الحالة التي يعشقها الكثير من البشر.

 بعد ظهور كلمة “السَّهَر” للعالم ظَهَرَتْ المتعة في أنْ يقضي أحدهم الليل أو جزءًا طويلًا منه بلا نوم، أدركوا تلك اللذّة الغامضة، وذلك الشعور السحريّ، كأن كلمة “السَّهَر” هي مفتاح متعة الليل، مثلما لكل شيء في العالم كلمة هي مفتاحه.

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

سكيكي

تراب الحكايات
بولص آدم

ظل الأم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

فصام ..