السيرة البندارية(5)

موقع الكتابة الثقافي art 17
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

كان يصرخ مُلْتَصِقًا بفرع الجميزة العتيقة، وكلما مر عليه نفر سلقوه تَوْبِيخًا، كيف يجرؤ على انتهاك حرمة حوض سيدي حمزة، وكان حوض سيدي حمزة تعلوه مهابة، ويسوده عظيم حزم وشدة، خاصة منذ مجيء الشيخ…

وسيدي حمزة، كان من ولد أحد الصحابة، وهو من الشخصيات القديمة قدم القرية والمنطقة، ونشأتها جاء مُرَافِقًا جيش العرب بقيادة سيدي الإمام محمد بن الفضل بن العباس، الملقب بسيدي شبل الأسود، وهنا أسلم الروح الطاهر حيث لا يفصله عن ضريح سيدي شبل الأسود إلا بضعة كيلومترات.

وكان أهل حوض سيدي حمزة، يعاينون في بعض الليالي فَارِسًا عملاقًا بزي المحاربين العرب القدامى، يتجول ليلَّا على صهوة جَوادهِ الأسود، يغيث مَلْهُوفًا، أو ينهض نحو صراخ امرأة تستغيث، أو يجيب بكاء طفل جائع. كثرت الأقاويل عن بطل تلك الحوادث، وكلهم أجمع على كونه سيدي حمزة.

هاهو العيساوي يدخل خلوته بعهد جديد، وأمر شيخ، طالما انتظر أمره، مع قليل زاد، وندرة دنيا؛ على الرغم من وفرتها، وتسبيحات، وتهليلات وصلوات بلا عدد ولا انتهاء، ألقى الحياة وراء ظهره، يأمل أنوارًا سرمدية من سماوات خالدة، قديمة. كم سيمكث؟ لا يدري ولا أحد يدري.

ولم يفتر لسان العمدة حلمي البكري، مُرَدِدًا الصلاة على النبي، بالصيغة التي أمره الشيخ بها، طيلة نهاره، يزاول أعماله، يحكم بين الناس، ويقضي مصالح الخلق ما بقي ويقظته من ليل. وحينما تنام عيناه، زاره من لهج لسانه بذكره في الرؤيا، يحدثه ويحدثه، لكنه يَوْمًا ما أفصح عما دار ويدور، كان دَوْمًا يتعلل بكونه سِرًّا. وإن غاب حبيبه ليلة عنه، قضى النهار كله مَرِيضًا في فراشه يتأوه، ويبكي، كأن المرض والحمى يضربانه بلا هوادة، ليعوده الناس.

ولم يرفع أبو جمالة عينيه عن مصحفه، لحظة ما تسلم يد الشيخ مُعَاهَدًا، وكلما قرأ آية كلما تفتحت عوالمها؛ عِلْمًا، وفهمًا، ودِرَايَةً كتفتح زنبقة تستقبل أول شعاع شمس محمل بقطرات الندى، يخرج مُنْتَشِيًا من رحم الصباح.

أما السيد العيساوي فلم يقر له قرار، لا يمل الترحال، مُحَصِّلًا مُدَقِّقًا وعَارِفًا لم ترو غَلّته، ولم تُقْض نَّهْمَته، يطلب العلم من كل مظان وجوده، ينتقل للقاهرة ينهل من علماء أزهرها، وحسينها، وسيدتها الزينبية المشيرة.

كان الشيخ صالح من زملائه المجاورين بالأزهر، وكان من دنقلة النوبة، أسمر كمسك يفوح، يقطر شَبَابًا وفتوة، كان صديقه المقرب والمحبب. فكان يؤنس وحدته ويشجع طلبه، فما كان يرى الشيخ سيد في القاهرة إلا مع الشيخ صالح، يجوبان الأعمدة، و يتلقيان البركة، ويتقاسمان اللقمة، وشربة الماء. كان الشيخ صالح الجعفري نعم المعين والرفيق، وكان الشيخ السيد العيساوي نعم المحب والصديق .قربت الأيام بينهما كأنما يعدهما الله لأمر كان في الكتاب مَسْطُورًا.

وكان صراخ اللص قد انقطع يَأْسًا من الخلاص بعدما التصق بفرع الجميزة العتيقة. ليوبخه أحد المارة،《 هذا جزاء من استباح الحما بدون إذن، انتظر حتى يأتيك الشيخ محمد بسيوني…》

ومنذ استلامه العهد من شيخه، وقد تحول حوض سيدي حمزة لحرم، مَفْقُودٌ من انتهك، بَغْيًا وعُلُوًّا، حرمته. يأتي الشيخ بسيوني ويُوبِخ السارق، ويلومه على فعلته، ويوصيه بالاستئذان إن أراد حاجة، ولن يحرمه أحد؛ فالمال مال الله، والزرع، والضرع له وحده، ولما ندم الرجل خلص آمِنًا سَالِمًا، حَامِلًا من تين الجميز المزهو بحمرة قلبه، يفيض العسل من ثنياته.

***

وعَمَّر عطية الأكبر السطوحي الأحمدي البنداري أَعْوَامًا طويلة جِدًّا ملأ الأرض استقامة وبرا، ورزقه الله بولد وديع، من أم غير والدة عزيز وعلي الراحلة من زمن، سماه جاب الله. فرح به الشيخ الجليل فَرَحًا عَظِيمًا وكذلك فرح محمود وعزيز، وكانوا له بمنزلة الآباء لا الإخوة عَطْفًا وحَدبًا، وحينما شب جاب الله لازم أخيه عَلِيًّا ولم يفارقه، وانتظم جاب الله في بيت علي كابن من أبناءه، وكان جاب الله بَارًّا عَطُوفًا طَيِّبًا أشبه الناس بأبيه عطية قوة وحزمًا، وبسلوك أخيه علي لَيِّنًا ووداعةً…وذات ليلة استدعى عطية أولاده علي وعزيز وجاب الله، وكان الأخير قد بلغ من العمر ثلاثين عَامًّا، وكان عزيز على أعتاب السبعين عَامًّا، ولم يتجاوز علي الخامسة والستين إلا قَلِيلًا…لم تفت السنون الطويلة في قوة عطية أو رجاحة عقله، وحزمه، وصلابة إدارته ورشدها، أخبر أولاده برؤيا رأى فيها السيد البدوي يخبره بمعاد حضوره الديوان، وأنه سيكون فجر الغد، وأنه اختار جاب الله خَلَفًا له، وشيخًا للطريقة، وسوف يكون علي وعزيز وزيراه وأعوانه وقوته. حزن الإخوة حُزْنًا شَدِيدًا على قرب فراق أبيهم، فمعنى تحديد موعد الديوان بفجر الغد أنه قد اقترب الأجل، وتحدد الميعاد، ليس اعتراضًا؛ وإنما لوعة الفراق وحسرته، سهر الأخوة الثلاثة على أعتاب خلوة أبيهم، ينتظرون قدرًا محتومًا، وحينما أطلت تباشير الصباح بالمشرق البعيد، فتح لهم أبوهم العطية الأكبر، ليتخطوا باب الخلوة.تستقبلهم روائح مسكية لم يعرفوها من قبل، كانت الخلوة مزدحمة بأنوار لم يدركوا مصدرها، ولم تلبث الأوراد البندارية إلا وتُليت من مصدر غير معلوم، ثم حَدِيثًا طَوِيلًا بين الأب وأشخاص قد أقبلوا ولم يرهم غير أبيهم، وكلما مر الوقت ازدادت رائحة المسك فوحًا، واكتظت الخلوة بالأنوار، حتى أذن مؤذن لصلاة الصبح وصلى أبوهم مَأْمُومًا بخير البرية، وصلى أولاده مأمومين بأبيهم، وحينما سلم العطية من صلاته، سلم على الثلاثة، وأخبرهم بأن الخلوة ستكون مستقرهم جَمِيعًا حتى يتصل المدد لقيام الساعة، وحفر الثلاثة لأبيهم برزخه وبرزخهم، ولم تغب عن مسامعهم تسابيح علوية كألحان شجية سماوية، لم يترك أحدهم مِسْحاته إلا ليكفكف دمعًا، أو يصدع لآهة حارة. من ساعتها غربت الشمس أيامًا طويلة، وامتدت الليالي، وبكى القمر طويلًا، وناحت الأرض موضع سجود العطية الأكبر، وكان لها صَوْتًا مسموعًا لم ينقطع من موضع الخلوة، حتى أذن له ربه بالانقطاع.

لم يفكر عَلِيُّ لحظة في أن جاب الله قد تخطاه، لم تخالطه أي مشاعر سلبية من تلك التي تفرضها الأَثَرَة والأنانية، فكان خير سند ومعلم لأخيه الشيخ الشاب الطيب النابه، وكان عزيز في خدمة أخويه اللذان تفرغا للمحبة والخدمة.

سار الشيخ جاب الله البنداري سيرة أبيه عطية الأكبر وفي عهده توسعت الطريقة البندارية الأحمدية تَوَسُّعاً كَبِيراً لتفوق أخواتها الطرق الأحمدية مجتمعة.

ولحق علي ببرزخ أبيه بعد سنوات معدودة، ليقرص الحزن قلب الولي الطيب، ويحتجب في خلوته شُهُورًا، لتأتيه البشرى فقد رزقه الله بولد فيسميه جاب الله عَلِيًّا تَيَمُّنًا باسم أخيه العزيز الراحل.

ولما سألت الشيخ كيف قد اجتالتهم تلك المشاعر البشرية من حزن وفرح ولوعة، وهم على تلك الدرجة العالية من الولاية والقرب، فقال لي “انظر حال نبيك كيف فرح بمقدم ولده إبراهيم فطاف به على أصحابه يغزو الفرح قلبه، ويغزو بقلبه الفرح، وكيف حزن على فراقه” وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون” يحزن ياولدي القلب ولا يسخط، فالحزن قدر الطيبين في أرض الله، وتنصاع الجوارح لقدر الملك الرحيم ، فكان المثل الأعلى في كمال البشرية وذروة الخشية لربه في أحزانه وأفراحه صل اللهم وسلم وبارك عليه وآله وسلم.

مقالات من نفس القسم