السيرة البندارية 2

موقع الكتابة الثقافي art 10
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

يُمَضِي ساعات الليل الشتوي الطويل في مُجَالَسة صديق صباه، العمدة حلمي طولان، يدور حديثهم عن أحوالهم وأورادهم، يتردد العمدة حلمي في مفاتحة صديقه بما يجول في صدره من خواطر، يقرأ العيساوي ما في صفحة وجه صديقه من أسئلة، فيبتسم مُشجعًا صديقه على الكلام…

-أنت والله أحب إلَيَّ من نفسي، فقد جمعتنا الليالي والأيام، وتعجب الزمن من قوة رابطتنا، كان حب الله، ورسوله، وآل بيته وِجَاء صداقتنا حيال نَوَائِبَ الدهر، والآن أنت شارد، تنتظر أَمْرًا ما، لا أكاد أُّحَدِّثُك حتى تغيب عني في لُجِّيّ خواطرك، دانت لك البلدة وما جاورها شَيْخًا لاتُرَدّ له كلمة، وكنت سندك وصفيك، والآن تفكر مُنْفَرِدًا… فاتحت ابنك السيد في أمرك ، فقال لي أنك تبحث عن شيخ!! كيف يا عيساوي وأنت الشيخ؟! 

-الرحلة يلزمها شيخ يا حلمي، لم تزد مشيختي عن أحوال، مجرد أحوال، وعلم باطني موهوب،  بدون سند حقيقي من علم الظاهر، هي الرؤيا التي تلاحقني كرسالة تُلَقَّن لي كل ليلة يا حلمي، جبة فخيمة من الجوخ الفاخر، أحدث نفسي بارتدائها، ولكن حينما أرتديها لا تصل إلا لركبتي، احترت كَثِيرًا في تفسير الرؤيا، حتى زارني حبيبي، (يردد العمدة حلمي الصلاة عليه والسلام)، معه كتاب ويشير لشيخ على رأس حلقة علم كبيره، تتبدى ملامحه لي بوضوح أستطيع وصفه لك، رؤيا كأنها فلق الصباح  وُضُوحًا ماهي إلا رسالة يا حلمي، فلم اكتمل بعد، ما جدوى خضوع الناس لي، وهل مثلك يا حلمي من يرضى لي تجاهل رسالة سيدنا النبي من أجل مظاهر غلبة لا قيمة لها، وسطوة ستشهد علينا لا لنا يَوْمًا؟!، بِتُ أشك في حقيقة خضوع الناس لي، هم يخضعون لي لحسبي وجاهي وغناي، لا لشئ غير ذلك، لم يُرِد لنا جدك النبي ذلك، لسنا مثل أولئك الذين يملكون الأرض ومن عليها، نحن لا ينبغي أن يدين الناس لنا، كما دانوا قبل ذلك لجدودنا من أجل سطوة ولكن ….

-قلت أنك تشك، هو مجرد شك لا يقين فيه، يدين الناس لك لولايتك، ولخيريتك، ولدينك، ولبرك. لسنا كغيرنا من أولئك الذين يسوقون الناس بالسياط…

-كل ذلك بدون شيخ وسند لجدك النبي، كالكتابة على الماء…!! 

(يطرق الباب طَرْقًا خَافِتًا) …

-هل تنتظر أَحَدًا في تلك الساعة يا حلمي ؟! ..

***

ينهض العمدة حلمي مُسْرِعًا  مُتَعَجِّبًا ممن يطرق في تلك الساعة المتأخرة، ولكن العيساوي شعر بوقع تلك الطرقات الخافتة تمس شغاف قلبه، فنهض مُطْمَئِنًّا وكأنه يستقبل حَبِيبًا طالت غيبته، وبغته قدومه، وحينما فُتِح الباب، كأن عَمْرًا جَدِيدًا قد بدأ، وما زاد من عجب العمدة حلمي أن الطارق قد ناداهما باسميهما وهو لم يقابلهما يوما، ولكن العيساوي قد سارع في استقباله ومناداته باسمه كأنما قد توثقت المعرفة بينهما دُهُورًا..

-من الشيخ؟ 

يسارع العيساوي ..

-ألم تعرفه بعد يا حلمي؟ هو المراد المنتظر…

– هو هو؟

– نعم هو…

يتداخل الطارق في الحديث ..

-أنا محمود البنداري ..

وكأن اسمه ذِكْرٌ هاما به، لتنقلب برودة تلك الليلة الشتوية إلى دفئ شمس ظهرت فجأة في سماء عالم الأرواح، وحب باغتهما بدون سبب غير وجوده. 

كان الشيخ قد تدثر بعباءة علت عمامته وجبته وسائر جسده، ليبادر بخلعها ليضعها على كاهلهما، ويمسك بطرفها في يده، ويشرع في القراءة لأوراد وآيات قرآنية، يستمعا صفير سينها وصادها، هو قد أتى إليهما على أتان من طنطا،《هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ 》، ليدخل الشاب سيد عليهما، وكأنهم جَمِيعًا كانوا على ميعاد، يهتف مُرَحِبًا به، مُستفسِرًا عن كيفية قدومه، ومعرفته لطريق البلدة ولعنوانهم …ليقاطعه أبوه متلطفا، صَهٍ، فمثل الشيخ لا يُسْأَل مثل  هذه الأسئلة، والحقيقة أن السيد كان يدرك سذاجة سؤاله، ولكن كانت تحدوه الرغبة فقط، في التحدث إلى شيخه الذي قابله مرة واحدة، ووعده بالقدوم بدون سؤال عن بلدة، أو عنوان، أو حتى عن اسم، أو صفة، الحقيقة أن المحبة والألفة قد بددت كل مشاعر العجب والرغبة في الاستفسار عما يُسْتَفْسَر عنه في الغالب.

أعرفكم من ساعة مولدكم، أعرفكم منذ خطوكم الأول، أعرفكم وقد كنت مُنْتَظِرًا أن يسمح القدر باللقاء، عرفت حيرتك ياعيساوي، وعرفت بحثك عني سنين يا سيد، وعرفت عجبك يا حلمي، هلموا وارتعوا في سماوات المحبة فقد حان الوقت وبدأت السطور في الانسياب.

يعطي العهد للعمدة حلمي أَوَّلًا ففي بيته تقابلوا، ولما سُأِل الشيخ قال ” كذلك تُؤْتَى البيوت من أبوابها ” ولأن فضل الله يتنزل بلاسبب، ولا يخضع لمنطق عقلي يُحْتَذَى به، لذا لُقِبَ العمدة حلمي بالْبَكْرِيّ، ثم ثنى بالعيسوي وابنه السيد، فتنقلب علاقة الأبوة والبنوة لأخوة في طريق المحبة، من غير سؤال ومن غير استفسار يسلمون قلوبهم لشيخهم محمود البنداري .

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال