حسني حسن
كان أول وجه ألقاه بالسودان، وآخر وجه أودعه. صدقاً، فإن هذا القول أعنيه وأقصده بالمعنى الحرفي، لا الأدبي ولا البلاغي ولا العاطفي، فإن حوى شيئاً من تلك المعاني كلها، بالرغم من اعترافي الصريح القاطع ذاك، فلا بأس، فالأمر لا يخلو منها أيضاً. والحاصل، أنه كان يعمل، ومن قبل وصولي لجنوب الوادي، لأكثر من عشرة أعوام متصلة كعامل خدمات معاونة وسائق بالمكتب الإعلامي المصري بالخرطوم، ومن ثم فقد كان وجوده في انتظاري، بمطار الخرطوم، في فجر ذلك اليوم الصيفي الناري الذي وطأت فيه قدماي أرض “بلدي الأول مكرر”، كما عودت نفسي على القول في التصريحات الصحفية والإذاعية والتليفزيونية والندوات والمؤتمرات والمهرجانات الخطابية، كما في اللقاءات الرسمية والمناسبات الودية التي تجمعني بالأشقاء هناك على مدى سنوات أربع، أمراً طبيعياً ومستقراً ومعهوداً. بالضبط كما بات قيامه بتوصيلي للمطار، خلال رحلة عودتي الأخيرة إلى مصر، واجباً تمليه المحبة الملتبسة، أكثر منها مجرد ضرورة أو روتين أو مهمة وظيفية واجبة التنفيذ.
والزول حسين، وكما رأيته أول مرة ودائماً، رجل في منتصف العمر، عرفت بعدها أنه بمثل سني تقريباً، طويل نحيل “أزرق” البشرة، وهو ما يعني بالمعايير السودانية أنه يتحدر من القبائل الزنجية الكردفانية بالغرب ذات البشرة السوداء الغامقة والتي لم تختلط دماؤها بدماء قبائل “الخُضر” الشمالية من ذوي الأصول العربية، غليظ القسمات، أفطس الأنف، خافت الصوت، يتكلم وكأنما يهمس لنفسه، أو أنه لا يقصد إلا مخاطبة تردده وحيرته، قادر على الابتسام في كثير من المواقف، وأقدر من ذلك على التزام الصمت والامتناع التام عن إظهار نفسه أو الإعلان عن وجوده، تأخذه الحماسة الاستثنائية عندما يتعلق الأمر بالكلام عن السيارات والحافلات والركشات وكل ما له صلة بالمركبات، ويتحسب بشدة من أية إشارة سياسية أو دينية، يحرص دوماً على تأدية فروض الصلاة في مواقيتها، وبسرعة خارقة مضحكة أحياناً، لكن حرصه الأكبر يبقى باستمرار على انتهاز أية فجوة صغيرة في الزمن، ولو لبضع دقائق لا غير، لينام، وكأن الإنسان الزول لم يقذف به الله إلى أرضه إلا ليسعى ويجاهد كي ينام ما وسعه وأمكنه ذلك.
وللنوم، مع الزول حسين، حكايات وطرائف شتى، أذكر منها واحدة لا غير هنا، فقد كان، وبعد أن قام بتوصيلي للمنزل ووضع السيارة في جراجها، قد أسرع بركوب الحافلة العمومية للعودة لمحل سكناه بمدينة مايو العشوائية الفقيرة على أطراف الخرطوم، حيث أنه، وبمجرد أن أراح جسده على المقعد الخالي بالممر إلى جوار أحد الركاب الشبان، غطس في نوم قصير ثقيل، كعادته، حتى غافله جاره الشاب ومد يده إلى جيب قميصه ونشل هاتفه المحمول الصغير. لكن، ولسوء حظ السارق، فقد رن الهاتف، فجأة، قبل أن يستطيع اللص التسلل والهرب بغنيمته، فما كان من الزول حسين إلا أن أفاق على صوت رنة هاتفه، المختزنة في لا وعيه، ليمد يده، وهو نصف نائم، لا يزال، ويفتش عن هاتفه بجيبه فلا يعثر عليه، ثم يتابع صوت الرنين الصادر عن جيب قميص جاره، فيمد يده ليأخذ الهاتف،وحينها يراه نفر آخر بالحافلة فيظنون أنه يحاول سرقة الجهاز من جيب جاره المتظاهر بالنوم. ويأخذ الموقف الملتبس في التصاعد على نحو مأساوي في هزليته حين يصر الجاران على أن المحمول مملوك لهما، وأن كل منهما يحاول سرقته من الآخر، الأمر الذي يدفع سائق الحافلة لتسليمهما للشرطة بالطريق. وهكذا، وبعد نحو الساعتين من مغادرته إياي، يرن هاتفي ليظهر لي على الشاشة رقم غير مسجل يخبرني صاحبه أنه عقيد بالشرطة السودانية، ويسألني إذا ما كان الزول حسين يعمل لدينا بالسفارة أم لا، ويحكى لي ما جرى باختصار، لأؤكد له أن حسين يعمل معي بالفعل، وأنه شخص أمين جداً ولا يمكن أن يكون سارقاً، وأن التأكد من صدق ادعائه لأمرٌ بالغ السهولة إذ يمكنني أن أتصل، في هذه اللحظة بالذات، على رقم المحمول المتنازع عليه، فإن ظهر له اسمي المختزن بذاكرة الهاتف فسيعني ذلك أن الهاتف هاتفه. وبدا لي أن الفكرة قد فاجأت، ولا أقول أذهلت، الضابط الذي قام بتجربتها من فوره، ثم معاودة الاتصال بي ليشكرني على تعاوني مع العدالة، وليبشرني بإطلاق سراح “الزول حقكم”، منوها ومشيداً بذكائي الذي كشف غموض القضية، فلا أجد لدي ما أرد به على إطرائه لي اللهم إلا السقوط في قعر بئر الصمت والسخرية الخرساء والأسى.
ولأن الزول حسين كان شخصاً أميناً حقاً، فقد خدعني طويلاً عن حقيقة الأشقاء، وكذا عن حقيقة فهمهم للأمانة، وللأخوة. كنت قد اختبرته، بطبعي الرياب المتشكك الحذر، في أكثر من موقف ومناسبة، حتى اطمأن بالي إلى أنه إما أمين جداً بطبعه، وإما أنه مدرب تدريباً عالياً متقدماً على أن يصبح كذلك. ولعله الشيئان معاً، ولم لا؟ فقد أمضيت سنواتي الأربع بالخرطوم موقناً من كونه يعمل لحساب جهة أمنية ما، أو أكثر، من الجهات السيادية لبلده، لأنه، وببساطة، لا مفر من ذلك بالنسبة له، وبالرغم ما يحمله تجاهي من مشاعر طيبة وصادقة وعميقة ، بنفس الوقت. لكن ذلك اليقين، المتناقض الملتبس، لم يكن خديعتي، الأهم والأفدح، فيه، وإنما تمثلت الخديعة في إعطائه لي صورة غير حقيقية عن مشاعر الأشقاء وأفكارهم العميقة تجاه المصريين عموما، والرسميين منهم بصورة خاصة، وهي المشاعر والأفكار التي يتم تمويهها عادة، وتزييفها دائماً، عند الحديث أمام الميكروفونات. لكن الزول حسين سرعان ما اكتشف اكتشافي هذا، الأمر الذي كان يجعله يبتسم بحبور شديد، مشوب بالحسرة والغم،عندما يعن لي أحياناً أن أتلاعب بهذا البائع أو ذاك الذي يظنني “خواجة” مصري يمكنه خداعه وبيع السلعة التي تساوي ألف جنيها بمائة ألف، ليكتشف بنهاية المطاف أنه قد يفضل تركها لي من دون مقابل، والفرار من وجهي، ليتخلص، وحسب، من محاصرتي له وإجهازي النفسي عليه!
شيئاً فشيئاً، ويوماً بعد آخر، رحت أتعلم من الزول حسين الكثير من التفاصيل، الدقيقة والمجهرية، عن معنى الأخوة والتزاماتها وحدودها وتبعاتها الثقيلة لدى الأشقاء. وعندما جرت “القروش” في يديه من عمله الإضافي معي، وسارع بإنجاز زيجته الثانية، التي تأخر فيها طويلاً خلافاً لتقاليد العوائل والقبائل وفتاوى “الكيزان”، وسمى التوأمين اللذين ولدا له على لفظ اسمي، مذكراً ومؤنثاً، فقد حذرني أحد الزملاء بالسفارة، من ذوي الخبرة والعلم بعادات الأشقاء وثقافتهم، من الفخ الذي ينصبه لي الزول حسين بإقدامه على تلك الخطوة، فأن يتم تسميتهما باسمي فإن ذلك يعني حقوق رعاية أخلاقية للمولودين قد لا أستطيع التهرب منها بحسب العادات والتقاليد المرعية كقانون وقواعد سلوكية قبلية غير مدونة. والحقيقة أن ملاحظة الزميل القديم كانت صائبة، وإن لم يكن هناك ما يلزمني بالامتثال لأحكامها، بطبيعة الحال، خاصة أن حسين نفسه كان قد أقدم، غير مرة، على التماس أن أحفظ له مدخراته بخزينتي الخاصة كلما زاره أقاربه من كردفان، موضحاً لي أنه لا يحق له بمقتضى العرف القبلي السائد أن يحجب ماله عن أحد “أخوته” إذا ما طلبه الثاني منه وكان هذا المال بجيبه!
حدث ذات مرة أننا ذهبنا لشراء الخضروات والفواكه من السوق معاً. وكان سعر كيلو الطماطم، أتذكر، بخمسة آلاف جنيهاَ، وسالت البائع عن السعر فقال بعشرة، وعندما رفضت الشراء، مستنكراً وقائلاً إنه بخمسة فقط في كل السوق، ابتسم لي، بلا مبالاة واضحة، بل وباستغراب بالغ من ردة فعلي المباغتة الرافضة، وأجاب أنه يمكنني أن أدفع خمسة. وزنت أربعة كيلوات بعشرين ألفاً وأخرجت رزمة الأوراق النقدية المتهالكة من جيبي لأحاسبه، فسمعته يطالبني بأن أزيده من “القروش” فذكرته، بزهق، باتفاقنا فرد بالقول، وبمنتهى البساطة والبراءة والعفوية، إني “زول مليان قروش” وإنه يريد هذه “القروش”. كان ذلك في الأسابيع الأولى لوصولي للسودان الشقيق. أتذكر أني تطلعت، لحظتها، بوجه حسين مستفسراً أو مستنجداً، لأراه يشيح ببصره عني، وفهمت. كان أول ما فهمته هو مفهوم الأشقاء للثروات والحقوق والالتزامات، وارتباط ذلك بمفهوم الأخوة؛ فالثروة مشاع بالأساس، وهي ليست بملكية من يحوزها بمصادفة قدرية ما، كما أنها من حق من يحتاجها بمصادفة قدرية أخرى معاكسة، وهذا الحق لا يخوله لا العمل ولا الاجتهاد ولا الجدارة المعرفية، وإنما الرغبة الفردية الغُلف والتضامن القبلي العرقي. أمَا الأمر الثاني الذي فهمته فقد تجلى لي في أن اعتماد، هكذا عالم على هكذا تقاليد، لن يقود الجميع إلا إلى إشاعة وتعميم الفقر المتوازن والعوز العادل والتسول اللا مسؤول كثقافة حاكمة مسيطرة، وإن تمسحت بمسوح، براقة كاذبة، من أفكار تشاركية ومشاعر تضامنية ومواقف تكافلية، وحيث لا ينطبق ذلك على الاحتياجات الأولية والضرورية والبسيطة وحسب، بل وعلى كل الاحتياجات ولكل المستويات، وهو الأمر الذي كنت شاهداً على مثال نموذجي عنه عندما رأيت الرئيس البشير لا يتورع عن مطالبة “شقيقه” الرئيس مبارك بأن تتنازل له مصر عن دار سكن السفير المصري التاريخية، المطلة على ضفة النيل الأزرق بقلب الخرطوم، لأنه يتوق للإقامة فيها شخصياً، وهو الطلب الذي أزجاه الشقيق السوداني لشقيقه المصري في أول زيارة يقوم بها الثاني لبلد الأول، بعد نحو ثماني سنوات من الغياب عنها عقب حادث أديس أبابا الشهير، لمدة ثلاث ساعات لا أكثر!
لكن الزول حسين، وبرغم كل المعضلات الوجودية التي راح ينثرها في طريق حبي، البريء الكامل، له، بقى محافظاً ووفياً لكل ما جذبني إليه؛ أعني شفقتي وحيرتي وتوزعي ما بين الإنكار والضحك، ما بين المأساة والملهاة.
قُبيل نهاية فترة إلحاقه بالخرطوم، وعد أحد الزملاء الزول حسين أن يتنازل له تنازلاً، نهائياً كاملاً وموثقاً، عن سيارته الألمانية الحديثة، شريطة أن يأتيه بدستة بيض أرانب. يروي حسين نفسه، ضاحكاً أو متضاحكاَ، الحكاية، متوسعاً ومتلذذاً، بسماع الضحكات المنطلقة من المصريين الحاضرين وهم يتابعون تفاصيل رحلة خيبته ليومين بحثاً عن بيض الأرانب، قبل أن يخبره أحد شيوخ السوق أن من طلب ذلك منه يسخر منه. يشاركنا حسين الضحك من نفسه ببراءة خبيثة. لكن عينيه، وحينما تلتقيان بعيني للحظة خاطفة، وكأنما بصدفة محسوبة ومرسومة بدقة بالغة، ليشيح كل منا عن الآخر بسرعة، ستعترفان لي بأنه يعرف، وبأنه يعرف أني أعرف، تماماً، كما أعرف أنا أنه يعرف أني أعرف. وفي لعبة تصادم المعارف، غير المقبولة البائسة تلك، ستمضي أخوتنا إلى ما لا أعلم وما لا يعلم. وسيتبقى الكثير الكثير من الحكايات المعجونة بالهزل وبالمأساة لنعيشها معاً، ولنروي أقل القليل منها، وحسب!