الرواية… بين التاريخ والزمن

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جمال الغيطاني

عندما أنثني لتفحص ما كان مني، تبدو لحظات البدايات المتبقية ناصعة بما حوت، هكذا الأمر عندما يقترب طرفا الدائرة من بعضهما، طرف النهاية يصير قريبا من البداية، في اتحادهما التمام والكمال والانتهاء.

 هنا أصغي إلى سؤالي القديم الآن، هكذا أكتشف أن أعمق الأسئلة نطقتها طفلا، وليست الرحلة بما حوت إلا محاولة لتلمس الإجابات أو الوقوف على ما يقربنا منها، السؤال الذي علق بي، وشكل دافعا ومحركا رددته بيني وبين نفسي طفلا «إمبارح راح فين؟!».

الأمس، أين ذهب؟.. تلك اللحظة المقابلة سرعان ما تولى.. تفنى.. تمضي، نحن دائما في حالة عبور لا تبقى، لا تستقر وإلا صار العدم، من أين تجيء، وإلى أين تولى؟ هل لها بداية، إذاً… ماذا كان قبل البداية؟ هل بدأت البداية في بداية أخرى، هل الأمر سلسلة تفضي كل حلقة إلى أخرى، أم أن هناك بداية للبدايات كلها؟.

السؤال الصعب. ولكن دافع، لعله السبب الأول لمحاولتي معرفة ماذا جرى قبلي، وقبل الذي كان قبلي؟ في الدرب العتيق الذي عرف أول سعيي أتوقف عند ساحة معينة من الأرض، بلاطة، موطئ خطو، أتساءل: من مرّ هنا قبل يوم، قبل شهر، قبل ألف عام؟، من عبر ولم يعد.. ومن عاد… من بعدي؟.

أحيانا أتقمص نظر من سيسعى في زمن لن أكون فيه، أرى الدنيا الخلو مني، لا أعرف مستقر ذراتي المكونة لي وقتئذ، عندما أتفرق عن بعض، أليست الحياة جمعا، والموت تفرقة العناصر عن بعضها البعض؟

قادني السؤال إلى مدونات التاريخ، ارتحت إلى قراءة الحوليات، تلك السطور، التفاصيل التي دونها من عاشوا قبلي، خصوصا المؤرخين من القاهرة القديمة، بدءا من ابن عبدالحكم، صاحب فتوحات مصر والمغرب، وصولا إلى علي باشا مبارك في القرن التاسع عشر، غير أن ما ارتحت إليه مدونات ابن واصل، المقريزي، ابن تعزي بردي، ابن حجر العسقلاني، ابن أيبك الصفدي، ابن إيابي، ثم ابن إياس.

أحببت طريقته في السرد، اكتمال البلاغة المصرية لديه عند المزاوجة بين الفصحى والعامية، شجاعته في نقد الظلم، توقفه عند أدق التفاصيل بنفس عناية تدوينه الأحداث الكبرى.

أعدت اكتشافه مرة أخرى بعد هزيمة يونيو عام سبعة وستين، التي شكلت المحور الرئيس لتجربة جيلي كله، أذهلني مدى التطابق، التشابه بين الأسباب المؤدية والنتائج في كلتا الحالتين، لماذا لم أحاول استعادة مرحلة تحقق فيها نصر في الزمن المولى.

لماذا أعدت استحضار هزيمة مماثلة؟، أهو الفضول؟ أهي الرغبة في معرفة كيفية التجاوز؟ حتى الآن لا يمكنني القطع، لكنني اكتشفت من خلال ذلك وحدة التجارب الإنسانية رغم تغير الحقب والمراحل، عبر ابن إياس عني بدقة وهو يصف مشاعره مع انهيار السلطنة المملوكية، أنشد:

نوحوا على مصر لأمر قد جرى

عمت مصيبة كل الورى

المشاعر المترتبة على الهزيمة واحدة، كذلك الحب، الألم، الفقد، الشوق، الوحدة، هل يختلف شعور الأم الثكلى في أقدم العصور عن الأم الآن، هل الألم المنبعث من الجرح مغاير؟، هل تبدلت النشوة عند بلوغ الذروة الجنسية؟

وحدة التجربة الإنسانية، إذن هي ما يمكنني التنقل من عصر إلى عصر، تجسيد الظروف من خلال الإلمام بأدق التفاصيل، عندما شرعت في «الزيني بركات»، وهو شخصية حقيقية قابلتني في معايشة تاريخ ابن إياس، حاولت الإلمام بكل التفاصيل الخاصة بالوقت، أنواع الملابس، الأسماء الشائعة، الطعام، الشراب، لم أذكر الشاي لأنه لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر.

أما القهوة فكان مختلفا عليها بين الفقهاء، حلال أم حرام، درست خطط القاهرة، أسماء شوارعها وحاراتها ودروبها وأزقتها، البنايات الكبرى فيها، دينية أو مدنية، أسواقها، سجونها، أسماء الوظائف، العملات المتداولة، أدق التفاصيل نعم، لكنني قمت ببناء مغاير للعصر الذي شهده ابن إياس، وذلك للتعبير عن زمن آخر، زمني الذي عشته، الزمن الذي قدر لي أن أشهده.

كل لحظة حاوية بالضرورة لما قبلها ومنبئة بما يليها، الحاضر، ذلك المستحيل الذي يمر بنا أو نمر به، يطوينا طيا، لا يثبت لكي نتفحصه، لكنه حاوٍ لما كان، مشير إلى ما سيكون.

لا يوجد عندي حاضر، كل لحظة تمر بنا تصبح ماضيا.. تصير إلى طي، لا فرق عندي بين لحظة انقضى على مرورها خمس دقائق، أو خمسة ملايين عام، كلتاهما لا يمكن استعادتها إلا بالذكرى، بالتذكر، باستدعاء المخيلة.

كل رواية، كل حكاية، يمكن اعتبارها تاريخية لأنها تتحدث عن أمور جرت، عن ماضٍ، لكن عندما نقرؤها نستحضر زمنها فتصير حاضرا، عندما نقرأ «الحرب والسلام»، هل نقرؤها باعتبارها رواية تاريخية، أم رواية المؤلف لزمن يعرفه وعاينه؟

عندما يمضي الروائي إلى زمن معين.. فإنه يبحث عن شيء ما في زمنه هو. لا أفضل إعادة حكي ما جرى في التاريخ، لكنني أستعيده لأضيء الحاضر، للتركيز على قضية، على مشكلة، على موقف إنساني، إنه القهر في «الزيني بركات»، القهر في مطلقه، مملوكي الإطار، معاصر المضمون، بل مستقبلي أيضا، إنه ما يوحد التجربة الإنسانية عبر مسارات العصور المرئية، فهناك أزمنة نجهلها تماما، التاريخ مفهوم إنساني، والزمن كوني، لا قبل لنا به، نرى أعراضه ولا نعرف جوهره، أعرف أنني لن أعرف، لكنني مع طرح الأسئلة ربما نصل إلى شيء ما، لا أتحدث عن نفسي، ولكن عن النوع الإنساني، الإحساس بالتاريخ أهم من فهمه.

الإحساس به يقف عند مفترق الزمن والتاريخ، التاريخ المدون ما يتم رصده عبر الظاهر، أما الفعل الروائي فإقدام على تلمس الجوهر الكامن، ما لا يمكن رصده، ما يمكن استشرافه عبر الوجود الإنساني المحدود في إطار علاقته بالزمن اللا محدود.

لسنوات طويلة شغلتني الصلة بين الزمان والمكان، في البداية ظننت المكان ثابتا لا يتبدل، وأن الزمان يعبره.

لكنني أدركت مع المجاهدة أن المكان ينقضي أيضا، تماما كتلك اللحظة العابرة، ولي في هذا تجارب وأحوال.

إننا نفقد المكان كما نفقد الزمان أيضا…

إذن، لا شيء يبقى، لا شيء يظل على حاله، إذاً، من يحاول مقاومة ذلك الطي المستمر؟، ذلك النسيان الذي نؤول إليه؟

إنه الإبداع الانساني..

نحتا كان، أو عمارة يتوهم من يشيدها أنها ستبقى بعد مضيه، أو رسما، أو نغمة موسيقى، أو بيتا شعريا، أو نثرا، ليس هذا كله إلا اتجه للعدم، للنسيان، كل ما كتبت يندرج تحت هذا المفهوم.

لكنني مررت بمراحل، من استدعاء زمن إلى زمن للتعبير عن مطلق التجربة وجوهرها، هذا ما حاولته في «الزيني بركات»، أما تجاور الأزمنة وما حوته من تجارب وتوحد الشخوص، فيما تدل عليه أو ترمز، فحاولته في «كتاب التجليات»، حيث يتضفر معنى الاستشهاد من سيدنا ومولانا الحسين، إلى جمال عبدالناصر والوالد رحمه الله، والأهم، ثمة محاولة مغايرة للتعبير عن جوهر الوقت وانقضائه في «هاتف المغيب».

أما المضمون الروحي لمصر القديمة فقد حاولت إدراكه في «متون الأهرام» و«سفر البنيان» وأعمال أخرى ستصدر في مطلع العام المقبل، إنه الزمن، سؤالي الأول الذي لم يتغير، وإن تبدل منطوقه من ناحية الشكل، إنه جوهر كل إبداع، يقول أبوالعلاء المعري:

خفف الوطء… ما أظن أديم

الأرض إلا من هذه الأجساد

ويقول عمر الخيام في رباعياته «ترجمة أحمد الصافي النجفي»:

أنفض الغبار عن خدك برفق

فربما كان يوما وجنة كاعب حسناء

أما الشاعر الأميركي والت ويتمان، فيقول «ترجمة سعدي يوسف»:

إذا أردت أن تراني بعد ألف عام

 

فانظر إلى التراب تحت نعلك.

مقالات من نفس القسم