الرجل الذي مشى في جنازته

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

حدث ذلك منذ أسابيع.
عندما زار الطبيب في المرة الأخيرة، أخبره أن حالته الصحية ليست على ما يرام، وأن مرضه وصل إلى مرحلته الأخيرة.
أنهى الطبيب الكشف، وجلس إلى مكتبه ينظر في الملف، يفصح الأوراق وصور الأشعة أمامه، ظل صامتا للحظات، بدا وكأنه ينتقي الكلمات المناسبة.
– أنت إنسان مثقف وعلى بال، وتعرف إلى أي مدى يمكن ان يذهب العلم، ولكنك رجل مؤمن…
رسم لحظة صمت أخرى، وأكمل حديثه.
– نحن لا نعيش إلا أعمارنا المسطرة في كتاب الغيب…
بقي هو صامتا، ينصت وينظر بهدوء.
منذ سنوات بدأ يعيش مرضه بشكل مختلف، يعيشه كحالة وجودية قاسية، كان يدخل في دوامة من الكآبة السوداء، هواجس، وساوس مريرة وقاسية، في الحقيقة لم يكن الموت هو ما يخيفه، ما يخيفه فعلا هو العجز والشيخوخة وأعطاب الجسد، كان يخشى بالخصوص أن يتخلى عنه جسده في منتصف الطريق، فيتركه وحيدا، يتركه عرضة للعزلة والألم ونظرات العطف والإشفاق المزيف.
كانت تلك الزيارة الأخيرة حدثا مختلفا وحاسما تماما، غادر العيادة، كان باب المصعد الآلي أمامه مفتوحا وفارغا، ولكنه توجه إلى الدرج وراح ينزل بهدوء.
في الخارج توقف للحظات يلتقط أنفاسه، بدا مترددا وكأنه يفكر أو يختار وجهته، تملكه شعور غريب، أحس أن حياته قد انتهت أو هي على وشك أن تنتهي، أحس وكأنه يعيش شوطا إضافيا، شوط زمني قصير، نوع من الوقت بدل الضائع كما يقال في لغة كرة القدم…
قرر ألا يزور الطبيب بعدها أبدا.

في المقهى جلس في مكانه المعهود، رتب أشياءه فوق المائدة في حركات هادئة ومتأنية، حاملة المفاتيح، الجريدة، هاتفه المحمول، علبة السجائر، علبة النظارة الطبية، طلب قهوته بإشارة خفية، وضع نظارته الطبية أخرج الوصفة من جيب سترته، لاحظ أن الطبيب أضاف اسما لدواء جديد، طوى الورقة وأعادها إلى جيبه، أشعل سيجارته، فتح الجريدة وراح يقرأ العناوين، يقرأ دون أن يقرأ، كان ينظر فقط، ثم توقف عند صفحة الحياة الاجتماعية، استوقفه اسمه مكتوبا في خانة التعازي والوفيات.
يقرأ.
(انتقل إلى عفو الله ليلة الأمس، السيد…وكان الراحل يعاني من مرض عضال لم ينفع معه علاج، وستقام صلاة الجنازة اليوم الخميس بالمسجد الكبير بعد صلاة العصر، وسيوارى جثمانه الثرى بمقبرة الرحمة…)
ظل ينظر إلى اسمه المكتوب هناك، وراح يمضغ هواجسه ويفكر.
قد يكون الأمر مجرد تشابه في الأسماء، يحدث هذا كثيرا، ولكن ماذا لو كان هو المقصود بالتعزية، استحضر تلك الفرضية الغريبة دون أن ينزعج، دون أن يشعر بالخوف، بدا هادئا ومطمئنا، بدا وكأن الأمر لا يعنيه، ولسبب غامض لا يفهمه، قرر أن يكون في الموعد.

المسجد الكبير، بعد صلاة العصر.
سر كثيرا، فقد كانت صلاة الجنازة موقفا سريعا ومختصرا.
(صلاة الجنازة يرحمكم الله، جنازة رجل…)
في المقبرة توقف بعيدا، وراح ينظر إلى المشهد بحياد عاطفي عجيب.
أنزل الجسد المسجى بالبياض إلى مثواه الأخير في حركات هادئة ومحسوبة، انهال عليه الرجال الأقوياء يردمونه بالتراب، لحظات وانتهى كل شيء، ساد الصمت، وراح الفقيه يلقي خطبته.
(اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه…اللهم إن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته…)
تتعالى أصوات المشيعين (اللهم آمين…)
أنهى الفقيه فقرة الدعاء للميت، التفت إلى الجماعة، نظر في وجوههم، رسم لحظة صمت فارقة، وعندما عاد الهدوء، راح يكمل خطبته، يحدثهم بنبرة المتيقن العارف، كلام كثير ومسترسل عن الموت والموتى، عن الخير والشر، والجزاء والثواب والعقاب وعذاب القبر…
يرتفع صوته، ينخفض، ينخفض، ثم يعود ويرتفع…
لم يسمع الكثير من تلك الموعظة، ولكن شعورا مريحا غمره لأنها انتهت أخيرا، يخاطب نفسه.
– ما جدوى كل هذا الكلام؟ دع الرجل يستريح في قبره…
عندما عاد إلى نفسه، كان وحيدا، غادر المشيعون تباعا، غادروا خفافا، تقدم، اقترب من القبر خطوة أو خطوتين، بدا غائبا ومستغرقا تماما في عالمه الداخلي، استحضر حياته الماضية في صور سريعة ومتلاحقة، صور بالألوان، أخرى بالأبيض والأسود، وأخرى باهتة لا لون لها…
كانت حياته رحلة تيه ممتدة، شوق، توق، طوق، أفق مفتوح، سراب هارب وبعيد المنال…
التفت، كان حارس المقبرة هناك، ينظر إليه وينتظر.
يسأله.
– أهذا الرجل من عائلتك؟ أهو من معارفك؟
ينظر إليه، ولا يجيب.
يسأله الرجل مرة أخرى.
– أتود أن أضع شاهدة رخامية على قبره، الأمر لن يكلفك كثيرا…
أجابه.
– نعم…
وقبل أن يمضي، أتمم الجواب بداخله.
– شاهدة رخامية؟ لم لا؟ إنه يستحق، لقد كان رجلا طيبا.

مقالات من نفس القسم