الذين يرثون الأرض

الذين يرثون الأرض
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

أحمد الزلوعي

قطعة الأرض الفضاء الواقعة على ناصية الطريق التجاري في البلدة كانت في الماضي قصرا رائعا  يزدان بأعمدة رومانية الطراز، و نوافذ كبيرة مكللة ، وفراندات بديعة تحملها رءوس متوجة تشبه ملامح وجوهها الاسكندر الأكبر..كان القصر يبدو وسط حديقته الأنيقة كأنه انتقل توا من  أحد أحياء روما أو أثينا إلى بلدتنا بشمال الدلتا .. بعد الثورة خلا القصر من ساكنيه البكوات ووضعت الحكومة يدها عليه ليصبح مقرا للشهر العقاري و مأمورية الضرائب.

في البداية كان الناس يلجونه برهبة خفية يطالعون تفاصيل فخامته وهم في طريقهم بين غرفه التي صارت مكاتب موظفين و جدرانه التي اتسعت لعشرات من رفوف تحمل أكداسا من الأوراق و الملفات..

القصر العريق حافظ على جماله من الخارج ؛ أما داخله فقد تحول إلى خلية نحل تعج بمشترين و بائعين ومحاسبين و محامين و تجار و سماسرة من البندر  و الريف .. اصطلح الناس على تسمية المكان (الضرايب) .. رايح الضرايب..  جاى من الضرايب.. العنوان الفلاني بعد الضرايب شمال.. و شيئا فشيئا بدأ القصر يفقد مهابته في أعين الناس و إن حافظ على أناقته العريقة..

مرت سنوات حتى صدرت أوامر حكومية بنقل الشهر العقاري و الضرائب إلى مبنى حكومي تم الانتهاء من بنائه..  أغلقت الأبواب إلا بوابة الحديقة الحديدية التي طوقها جنزير صدئ بقفل كبير..خصص للمبنى خفير نظامى استقر في غرفة إلى يسار البوابة.. يبدو أنها كانت فيما مضى غرفة الحارس أو الجنايني.. انعدمت الإضاءة ليلا في القصر كله إلا بصيصا خافتا ينسرب من غرفة الخفير الذي يجهز قوالح أرجيلته ، و يغلى شايه الثقيل استعدادا لسهرة يفترض ان تكون حتى الصباح  .. مع إغلاق البوابة الكبيرة و الظلام الذي يلف القصر العالي ليلا و فخامته التي يعتقها الزمن عاد الناس يتطلعون إلى القصر من بعيد كأنهم يرنون إلى شيء انبثق توا من ماض بعيد  و شيئا فشيئا  صار الناس يسمونه  باسمه القديم .. قصر الباشا .. قدام قصر الباشا .. ورا قصر الباشا ..بعد قصر الباشا..

نشأت حول القصر أساطير كثيرة ..  بعضهم قال إن فيه غرفا بعدد أيام السنة .. بعضهم أضاف أن في حماماته صورا عارية لنساء إفرنجيات ، و بعضهم أكد أن القصر أصبح مسكونا بأسرة من اسر الجن الأزرق لا يسمحون لأحد بدخوله ..

مرت سنوات طويلة حتى استيقظ الناس ذات يوم  فلم يحدو القصر .. وجدوا مكانه ركاما هائلا من أحجار و غبار و جرافات تعيث هنا و هناك ..تتشابك أسئلة الجمع و ومن قلب الأسئلة تخرج دوما  إجابات …أولاد الباشا  يا جماعه كانوا رافعين قضية على الحكومة لاسترداد الأرض .. القضية طولت في المحاكم سنين و سنين .. أولاد الباشا يا جماعه في فرنسا كلهم مبسوطين ومش محتاجين ..  بالهم كان طويل لحد ما في الآخر كسبوا القضية و استردوا القصر.. كانت إجابة صحيحة بالفعل لكن لها بقية .. لقد باع أولاد الباشا القصر ببضعة ملايين للحاج شربينى  صاحب أكبر مزارع دواجن فى الناحية و عضو مجلس الشعب ..الحاج شربيني عضو المجلس عن الدائرة منذ أكثر من عشر سنوات .. يفوز الحاج فى الانتخابات  بشعبيته الكاسحة المبنية على ثلاثة ملايين جنيه و قيل خمسة ملايين ينفقها في حملته الانتخابية ..

أهل الرأي حذروا الحاج شربيني من المساس بالقصر لأنه يعتبر من الآثار و سيدخل في مشاكل كبيرة مع مصلحة الآثار؛ لكن علاقات الرجل الواسعة و بعض أهل الخبرة نصحوه بسرعة هدم القصر و يستحسن لو تم ذلك في ليلة واحدة .. بالفعل  نفذ الحاج شربيني  بجيش من البلدوزرات و الجرافات .. ومع  إشراقة الصباح كان قصر الباشا أثرا بعد عين.. و في فترة وجيزة كان الحاج يلقى بأطنان  الاسمنت والخرسانة ليضع أساس  برجه السكنى العملاق  .. تصوره مولا تجاريا ضخما يعلوه خمسة عشر طابقا..

     نهضت  جدران المول وبزغت أعمدة الطابق الأول  فانتشى الحاج شربيني حين  رأى مبناه  ينهض على  هذه المساحة الشاسعة من البقعة الإستراتيجية  في البلدة ، و الأهم  من هذا أنها  أرض الباشا ..  شكر الحاج نعمة ربه الفائقة  و قد  أحس  يقينا  بأنه أصبح  بالفعل الباشا الحقيقي  .. ذبح  الحاج أمام  المبنى  عشرة  عجول للفقراء و المساكين  و لم ينتظر  حتى يعلو المبنى  فعلق لافته عملاقه  بعرض الواجهة كلها مكتوب عليها  بخط  الثلث

(إن الأرض لله  يورثها من يشاء من عباده  والعاقبة للمتقين)

  و تحتها  بخط النسخ  عبارة

(ملك  الحاج  شربيني)

 الأستاذ شوقي  المحامى  المنافس  الرئيس للحاج  في الانتخابات و ابن تاجر إطارات السيارات الكبير اشتعل  قلبه نارا  حين  رأى  اسم الشربينى على قصر الباشا .. ألم  بما حدث من مخالفات  فسارع  بالشكاوى  إلى كل الجهات المعنية و سرعان ما نجح  في استصدار حكم بوقف البناء  فورا ..

أيامها  لم  يقلق الحاج شربينى كثيرا بعد ما لجأ إلي محام شهير  في القاهرة  يظهر فى  التلفزيون كثيرا .. طمأنه و قال له إنها مسألة وقت بسيط  وإجراءات قانونية  هو خبير بها

 ستعيد العمل إلى البناء قريبا ..  كان  ذلك منذ  أكثر من أربع سنوات  أنفق الحاج خلالها كثيرا فى الطرق القانونية و غيرها  .. بدأ  الحاج يتعرض  لمشكلات كثيرة قد تهدد وضعه السياسي  فلم يعد  بحرصه  السابق على إقامة  برجه المأمول ..

شيئا فشيئا بدأ بائعو الخضروات و الفاكهة و الباعة السريحة الذين يعانون من عدم وجود مستقر لهم يأوون إلى  جدران المبنى ..  يستقل كل  منهم بمتر  أو مترين   يعرض  فيها بضاعته  بعيدا عن مطاردة المرافق أو رذالة أصحاب المحلات  .. 

دب العمران في المكان فآوى إليه أطفال  شوارع  واصطنعوا لهم غرفا من قماش و فرشا من  قش .. قسم بعضهم خلفية المبنى إلى أماكن تصلح لوقوف السيارات  فاستقر بعض صبيان السمكرة و الدوكو و الميكانيكا على جانبي الموقف متخذين مما كان  سيصبح مولا كبيرا بذور ورش صغيرة..أطفال الشوارع بدأوا يعملون فى تنظيف السيارات .. بعضهم  هوى  الصنعة فصار صبيا في  الورش الناشئة.. في المساحة الداخلية الفسيحة قامت نصبتان متقابلتان للشاي و القهوة تناثرت أمامهما بضعة مقاعد ..

تحول المكان الي بؤرة حياة متوهجة في البلدة.. أطلق الناس عليه اسما جديدا .. فلا هو قصر الباشا ، و لا هو الضرايب.. إنه (السويقة) .. رايح السويقة .. جاى من السويقة ..أقابلك فى السويقة ..

  تختلط النداءات على الفجل الورور و الطماطم المجنونة و العنب البناتى و مشروبات العناب و الخروب و السوبيا مع الدقات الرتيبة لسمكرى يستعدل رفرف سيارة و صوت موتور مفوت  يختبره الميكانيكي الناشئ ..  يضج المكان بنشاط البيع و الشراء  و الصنعة و الاستصلاح.. زبائن ، صنايعية ، باعة  ، خلق من كل شكل و لون  تعلو رؤوسهم جميعا ذات اللافتة التي علقها  الحاج شربيني  من قبل … ( إن الأرض  لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).

ــــــــــــــــــــ

قاص من مصر

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم