حاولت أن أمسك مقياس التدرج الجمالي معكوساً محاولة تأمّل الجمال في الأشياء القبيحة، و تأمّل القبح في الأشياء الجميلة، استشفاف القوّة في الضّعف، و العكس. متعة تفهّم المفردات و الأشياء بشكل عكسيّ باستخدام منظور مغاير: مثل تلمّس النشوة في رائحة عطنة، تذوّق الحلاوة في شراب مُرّ، تحسُّس اللذة في الألم الشديد، استشعارُ البهجة في فزع خالص، و هكذا بالذهاب إلى آخر درجة في مقياس الجمال معكوسا. في طرف الناحية الأخرى، لا يكتمل الجمال إلا بالقليل من القبح: أن يبدو الوجه منحرفاً قليلاً غير منضبط السيمتريّة، فم جوليا روبرتس الواسع، شفاه أنجلينا جولي العملاقة، شعر ميريام فارس الأجعد، أنف توم كروز المتضخّم، قد يبدو القليل من القبح؛ القليل من عدم المثاليّة؛ القليل من عدم الاتزان بمثابة العلامة المميزة التي تمنح الشخصيّة للجمال، تؤكّده و تدعّمه. تكلّمتُ قبل ذاك هنا عن الجمال الأفلاطوني المثالي النيتشوي، ومن الممتع أن أحاول التحرّك في الاتجاه الآخر؛ وربط طرفي الخيط؛ حتى تكتمل الدائرة.
على مستوى العلاقات الإنسانيّة تكتمل الدائرة بالضدّ و النقيض: أن تتلمّس الصداقة الوطيدة في عداوة بغيضة، أن تتفهم التدليل و الألفة في سُبَّة فجّة، أن ترى الحبّ العارم في الكره البيّن، أن تستشعر التواصل العميق في الصمت التَّام، أنْ تحسّ الاهتمام الحقيقي مختبئاً بين طيّات التّجاهل المُتعمّد، أنْ تطالع مدى الهشاشة في شخص يلوّح زاعقاً بقوّة شخصيّته، رؤية التعاسة في صورة زفاف، الارتكان إلى الإخلاص من خلال الخيانة، تلمّس الضعف الجنسي في شخص يتحدّث عن قضيبه و مغامراته بإفراط، و بقيّة الأشياء التي ليست دائماً كما تبدو.
تكتمل الدائرة في علاقة ثريّة فائقة الحيويّة، هي علاقة الحب/الكره. لم يكن ريت باتلر يفكّر إلا في كسر أنف سكارليت أوهارا و كبريائها المتغطرس و هو يحملها عنوة إلى الفراش، كان يحبّها بذات مقدار غيظه منها، من عنجهيّتها و غطرستها و شعورها الفائق المستفز بجمالها، و إدراكها تهافت الرّجال طوال الوقت عليها، كان مغتاظاً من حبّها المراهق السّاذج لآشلي زوج أختها؛ ليس لأن آشلي رجلٌ فائق، فهو طفل باهت ضعيف الشخصية، لكنه عنادها الطفوليّ الذي يأبى عليها أن تضيع اللعبة منها، في هذا المشهد البديع، تهبط سكارليت من غرفتها محتشمة مترفّعة متعللة بسبب واه، كان ريت ثمِلاً قليلاً، يتجادلان، يتسابّان، يتغاضبان، ثم تتركه و تنصرف متصنّعة اللامبالاة، فيهجم عليها ريت باتلر و يكبّلها بقوّة ليقبّلها ثم يحملها عنوة إلى الفراش، تقاومه سكارليت بعنف مصطنع و تضرب بساقيها محتجّة في الهواء. تستسلم. هي تريده و تحتمي من ضعفها بغطرستها، أما هو فيتوق إلى معاقبتها. لا نعرف بالضبط ماذا فعل بها، أفلام السينما وقتها كانت محتشمة متحفظة، و حسناً فعلوا؛ ليفسحوا للمتلقّي مجالا للخيال، كلٌ يُسقِطُ من تجربته الذاتيّة على الجزء النّاقص و يُكمّله من عندِه فيتمّ التفاعل الخالد بين العمل الفنّي و المُتلقّي. ثم في الصباح تستيقظ سكارليت لامعة العينين و تغنّي، تسترجع ذكريات الليلة الماضية بابتسامة سعيدة خجلى، ثمّ تغضب من ريت مجدداً حين يرجع لمعاملتها بجفاء و رسميّة. في المشهد الأخير من ذات الفيلم، حين يقرر أن يهجرها، يتعذّب من فرط حبّه لها مدّعياً أنّه لا يُبالي.
“Frankly, my dear, I don’t give a damn”!
كان يكذب، كان في الحقيقة معنيّاً و يهتمّ، يهتمّ كثيراً.
الجمال الذي تقدّمه المؤسسة الرسميّة و تصدّره إلى الذائقة العامّة باعتباره جمالاً، أحياناً ما يكون قبحاً بالغاً، مفهوم الجمال الأميركي بمقاييسه الفادحة الفاقعة: الفتاة الشقراء نجمة استعراضات المدرسة، التي تتحدّث عن الجنس بحيويّة و خبرة امرأة الثلاثين؛ و تلقي حولها الإيحاءات الجنسيّة طوال الوقت؛ هي في حقيقة أمرها كما نكتشف في نهاية الفيلم؛ عذراء. الأسرة السعيدة التي تقطن الضواحي و يتناول أفرادها العشاء على أنغام الموسيقى؛ تتكون من زوجين يرفلان في التعاسة و ابنة منطوية، و بينما يمارس الزّوج كيفن سبايسي العادة السريّة غارقاً في فانتازيا وهميّة مبهجة مع صديقة ابنته ذات الجمال الأشقر المؤسّسي الفاقع؛ تنزلق زوجته آنيت بانيه إلى علاقة، مع رجل تظهر صورته في إعلانات على جنبات الحافلات العامة، يتحدّث عشيق الزوجة كثيراً عن “ضرورة أنْ يعكس الشخص الناجح صورة النجاح” في تأكيد حاسم على براعة الصورة البرّاقة في مداراة كل الخيبات و كل الإحباطات. تكلّمتُ هنا في “دوريان جراي يواجه أحدب نوتردام” عن الجمال الأفلاطوني المثالي النيتشوي المتفجّر، وحسب المعايير الأرسطية، فاعتلال الجسد و عدم استوائه يؤديان الى اختلال في النفسيّة، و في الرؤية الخيرية للحياة. هذا في حدّ ذاته صحيح، لكن ليس دائماً صحيحاً. من السّهل أن نقول إنّ الوسيم صحيح الجسد شخصٌ سويّ النفسيّة؛ إلا أنه أحياناً ما يكون الجميل شخصاً مُهدّماً مَخبولاً، جماله الفائق يجرّ عليه التعاسة طوال حياته، في عالم قبيح يضغط عليه و يشعره بالاغتراب، و بالرغبة في الانكفاء على الذات، ثم السقوط في وحل التدمير الذاتي، أو تعجّل الانتحار: مرلين مونرو، جيمس دين، جيم موريسون، داليدا. على الطرف الآخر من مقياس الجمال و القوّة؛ يبدو لي شخصاً مثل ستيفن هوكنج المشوّه أو نيتشه معتل الصحّة، بطلين خارقين. كل من شاهد فيلم الجمال الأميركي كان مشمئزاً من آنجيلا الفتاة الشقراء المصطنعة، قليلون من تعاطفوا معها لإدراكهم مأساة الوحدة و الخواء العاطفي الذي تحياه، دافعاً إيّاها إلى ملء فاها بالأكاذيب عن حياة جنسيّة حافلة. رحلة الفتى و الفتاة المراهقين لاستكشاف الجمال في هذا العالم، متوّجة بالجمال في جلال الصمت نحو الموت لحظة أنْ تمرّ أمامهما سيارات سوداء جنائزيّة صامتة. يتقنّع الابن في تجارة المخدّرات، التي ينظر إليها الفيلم باعتبارها بيزنس كأي نشاط اقتصادي آخر له زبائنه و فوائده الممتعة؛ و جزءاً لا يتجزّأ من فكرة الحريّة، بينما يبدو الأب؛ نموذج العسكرة الصّارم؛ آية في القبح و القهر و القمع و الشناعة، و رمزاً للحروب الأميركية؛ و للعدوان على الأبرياء حتى و لو كانوا فلذات الأكباد، لا همّ له إلا التجسس على ابنه و استلاب حريّته و تدمير شخصيّته، إلى درجة تتبّع قطرات بوله و تحليلها دوريّاً للتأكد من أن الفتى لا يتعاطى المخدّرات، مرتكزاً على سلطويّته و فوقيّته بدعوى نبل الغاية و معرفته المُطلقة بصالح الابن، رجل العسكريّة المنضبط الذي يعنّف ابنه طوال الوقت هلعاً من انزلاقه إلى المخدّرات و المثليّة الجنسية هذا؛ هو في حقيقة الأمر مثليّ التوجّه، هشّ واهن كطفل يتيم يتوق إلى بعض العطف. من هنا نتلمّس كيف يكون القمع الشديد أسرع الطرق إلى الحرية، أن الفاشيّة العمياء تأكل نفسها و تعجّل بظهور الديمقراطية، أن الحكم الديني هو أسرع الطرق إلى العلمانية، أن السُّلطة حين تُحكم قبضتها الخانقة على الرعيّة فإنها تؤدي إلى نمو آليات ضديّة خفيّة تختمر تحت السطح؛ حتى تحين لحظة الانفجار أو الثورة فتقوم بالتمرّد على السّلطة، و إزاحتها من الطريق، القمع السلطوي السطحي الذي قام به الأب على الابن خوفاً عليه من تعاطي المخدّرات حوّل الابن إلى تاجر مخدرات كبير تحت السطح، التجارة التي يقدّمها الفيلم باعتبارها بيزنساً إيجابيّاً و نشاطاً مبهجاً. الفيلم إدانة لمؤسسة الأسرة؛ و المؤسسة العسكرية؛ و المؤسسة الجماليّة، و للفكر المؤسسي ككلّ ذي المعايير الثابتة و النسَق القيمي المُتعارف عليه، فيلم الجمال الأميركي دعوة صريحة إلى الفوضوية
Anarchism
هذه الفوضى المتمثلة في لقطة فيديو أليجوريّة لكيس بلاستيكي يحرّكه الهواء بحُريّة و عشوائيّة، يعتبرها الفتى أجمل اللقطات التي صوّرها على وجه الإطلاق، الفيلم يقدّم الفوضوية باعتبارها يسوع الجديد، بمثابة الخلاص من رتابة العالم و روتينيّته الكريهة و زيفه المصطنع. في عالم فوضوي كهذا؛ يتخلّى كيفن سبايسي عن وظيفته البرّاقة في سبيل العمل بمطعم، يقلي الهامبرجر بأقلّ قدر من المسئوليات، ليفسح لنفسه مجالاً أرحب للتأمل فيما يريده حقاً من مُتع في هذه الحياة. أما نهاية الدراما الغامضة فتشير إلى ضبابيّة الحقيقة واستغلاقها على الإنسان، أنّ الحقيقة الواحدة، حتى و لو كانت فيزيائية خالصة –صوت الرّصاصة/الموت- تختلف مستويات إدراكها باختلاف متلقّيها. ينتهي الفيلم بأغنية البيتلز ” لأن العالم مستدير، فهو مثير” . كما يكتمل الجنس بالأورجازم، ويكتمل الحمل بالميلاد، ويكتمل النهار بالمساء، ويكتمل العقل بالجنون، ويكتمل الإخلاص بالخيانة، ويكتمل النظام بالفوضوية، وتكتمل الحياة بالموت، وتكتمل القوّة بالضّعف، يكتمل الجمال بالقبح كما يكتمل الكمال بالنقص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة ومترجمة وفنانة تشكيلية مصرية