الخوف من التماثل والنسيان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri",sans-serif; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}

د. شاكر عبد الحميد

في البداية لا توجد قصة داخل المجموعة بهذا العنوان، كما أن الشخصية المحورية عبر القصص تكاد تكون واحدة، وهنا رصد وتصوير لتفكك العلاقات الإنسانية وغرابتها وعدم جدواها. من خلال مفهوم الصورة وعمليات التصوير وما يرتبط بالصور من أخيلة وهلاوس موجودة بكثرة في هذه المجموعة مع غياب واضح للحوار بين الشخصيات.

فكرة الصور وشبحيتها وحضورها وحضور الشخصيات المرتبط بها حتى بعد موتها موجودة بقوة أيضًا في القصص بالتجاور مع تقنيات السينما من المونتاج / القطع والتركيب والفلاش باك والتراكب والتداخل وغيرها وتيار الوعي والزووم.

التركيز على تكرار الأحداث وخبرات الحياة

فكرة المكان وسطوته على الإنسان وكذلك الزمان وسطوته على الإنسان موجود بشكل واضح في قصص قصيرة “في الأربعين هناك شعور مهيمن بالخوف بل والرعب بمرور الزمن بالدخول في العام الأربعين، وكيف مر الزمن من الثلاثين إلى الأربعين بهذه السرعة، وهو يخاطب روح أمه وأبيه، يحدثهما عن الزمن، عن شعوره باليأس والهزيمة في غرفته الصغيرة وشعوره بأنه قد يتحول تدريجيًا كي يصبح مثل أبيه، وذلك الأب الذي كان يعيش في خوف وشعور مضنٍ بالمهانة، وكان ابنه الصغير الراوي في طفولته يتأمل نظرات أبيه المتوسلة، وملامحه الخائفة وصوته الخفيض المرتعش ولا يجد في رصيده المحدود لدى العالم ما يصلح لإنقاذه، ولو مجرد كلمة مواسية فيبقى صامتًا. كان الأب ينادي ابنه ويبكي بحرقة صامتًا والابن يربت على ظهره. يبحث في الغرفة وبين أشباحها عن سر عذاب أبيه فلا يجد.

يمر الزمن ويجد الابن أنه على وشك أن يدخل في الطقس نفسه ولكن مع ابنته الصغيرة، كان الأب في حاجة ماسة إلى الحنان والاحتضان ولو من طفله الصغير وكذلك أصبح شأن ذلك الطفل بعد أصبح رجلًا، صار مثل أبيه يواجه العالم وحيدًا إلا من عطف ضيق وحنان عابر يأتيه من لمسات ابنته.

كانت هناك حاجة ماسة إلى آخر حميم لديهما هو وأبيه ونوع أيضًا من الخوف المهيمن من الموت الوشيك وذلك بعد أن أدركا أن الحياة بالنسبة إليهما لم تكن سوى رحلة لفقدان الأحلام وتبددها وليس لتحقيقها أو لإيجادها أو تحققها.

هكذا يدخل الأب في رحلة مخيفة من النسيان ويدخل الابن في نفس الرحلة ولكن من أجل مواجهة الموت من خلال التذكر، ويتوالى المونولوج الداخلي بين الأب وابنه بعد أن صار أبًا هو الآخر. إحساس مهيمن بغرابة الذات، وغرابة الحياة، وغرابة الشوارع، وصمت كل شيء كما هو لكنه أيضًا وفي الوقت نفسه ليس كما كان أبدًا.

هذا على الرغم من أن العالم قد صار غير العالم، والناس صاروا غير الناس، وأصبح لدينا واقع افتراضي وفيس بوك وكتب إلكترونية وإنترنت، لكن ذلك كله قد عمل أيضًا على تأكيد تلك الوحدة الحقيقية وهذه العزلة الافتراضية، وهذا الثبات الوجودي ومثلما كان الناس يتجاهلون تحيات الأب لهم أو ابتسامته في وجوههم، فكذلك صار حال ابنه، لا يلقى سوى تحيات افتراضية ولايكات غير مؤكدة وكومنتات عابرة توحي بأنها صادقة ولكنها ليست كذلك أبدًا.

هكذا وجد السارد نفسه في النهاية وحيدًا في وهدة الصمت إلى حافة موت يحيط بكل شيء، وصار يجلس في غرفته وراء باب مغلق، وصار ينظر من الشرفة يشاهد الناس، يتأمل الماضي وينظر إلى الغيوم ويستمع إلى الأغاني القديمة، يكتب هذه القصة ويفكر في الموت، يضحك على نحو هستيري دون توقف لأي سبب وبدون سبب، فقد كان كل ما حدث لأبيه وله قد وقع أيضًا دون سبب ودون مبرر أو منطق معقول أو حتى لا معقول.

العزلة الزمانية والمكانية

في قصة “الكراهية المطلقة” نجد الشخص نفسه وهو هنا يحب أغاني المطربة الفرنسية الشهيرة “ميراي ماتيو” يشعر بالاحتياج إلى الإحساس بذلك التباين في الانفعالات الموجودة في نبراتها، وهو أيضًا في الأربعين، وحيدًا وراء باب مغلق يشعر بالعزلة الزمانية والمكانية، يفكر في الموت، لا أصدقاء، متزوج وله ابنة، لكنه يقول أنه كان يريدهما ألا تجيئا إلى هذا العالم، فالعالم جدير بالكراهية المطلقة. يغفو ويرى حلمًا يري فيه أنه موجود هو وزوجته في مدينة غريبة، لكنها ليست عدائية. يمر عبر محطة السكة الحديد، وميدان ومقر لثقافة الطفل، ووصف لذلك المكان كما كان عليه في الماضي (ص19). ثم ينتبه إلى أن زوجته تضحك مع الرجل الجالس وراء شباك التذاكر. العلاقة بينهما تبدو جامدة مفعمة بالتحدي المتبادل والتربص، الأماكن تتحول، حديقة قصر الثقافة أصبحت مساحة واسعة ممتدة بلا نهاية تحت سماء سوداء، الطبيعة أيضًا عدائية مشاكسة ومتحدية.

البيوت غارقة في العتمة والغموض، وهي جميعها قديمة، متفاوتة الارتفاع وذات تصميمات مختلفة، وتعلو الدكاكين والأكشاك الكثيرة والمتلاحمة من الجانبين بينما تنتشر الإضاءة البيضاء والصفراء بكثافة من المصابيح النيون والتنجستنين العتيقة الساطعة (ص21)، الإضاءة وأشكال المصابيح وعلاقات النور والظل تلعب دورها المهم في قصص ممدوح رزق على نحو ملحوظ.

بعد أن يرى ذلك المشهد الغريب، بعد أن يصف المكان والشارع والبيوت والسلالم وقصر الثقافة في أحواله المتبدلة ما بين جمال وجلال وأمن ووحشة، تكون تلك الزوجة موجودة وغير موجودة، ويكون العالم موجود وغير موجود، فالعالم لدى شخصيات ممدوح رزق أشبه بوهم، بل وهم فعلًا، أو بالأحرى، هو كابوس مخيف، هكذا يزداد لديه دائمًا الانشغال بالمكان وتفاصيله من البشر وعلاقاتهم وتكون هذه الحالة من الغياب عن الوعي من خلال الحلم أو الشرود أو التهويم أو أحلام اليقظة أو حتى التذكر المفرط وسيلة لإبعاد الزمن من التفكير في البشر وأحوالهم وعلاقاتهم وكذلك في تلك الكراهية المطلقة التي تسود العالم.

ويجمع هذا المشهد تلك التحولات التي مر بها السارد هنا، ما بين شعور بحالة ما من الفقدان للشعور بالواقع الحقيقي Derealization، بتكويناته الطبيعية الخاصة بالمكان وكذلك بأبعاده المتعلقة بوجود البشر والأشياء وكذلك وجود حالة من فقدان الشعور بالذات أو الشخصية وهي التي تسمى Depersonalization، وحالات ترتبط بشعور خاص أيضًا بأن الواقع لم يعد كما كان، بل أصبح كما لو هو الواقع، لكنه ليس كذلك. حالات قد توجد أيضًا في تلك الاضطرابات الخاصة بالفصام أو شبه الفصام والشخصيات الموجودة في قصص كثيرة هي شخصيات على مشارف الفصام، وبخاصة ذلك النوع المسمى فصام الشعور بالملاحقة والاضطهاد.

حالات من فقدان اليقين

هكذا يستمر السارد هنا في التخيل لوجود بشر غير موجودين، وكذلك لأشياء وأماكن ومواعيد لم تكن موجودة بالفعل في الواقع وتستمر لديه حالات فقدان اليقين. يمشي وسط زحام متخيل ويشعر أنه يمشي وسطه دون معاناة، بل على العكس من ذك يشعر أن خطواته أقرب إلى ذلك النوع الخاص من الخفة المنتشية الذي ينجم عن السير داخل نطاق مألوف وحميمي… “لا أرى الناس من حولي رغم تأكدي من أنني أشاهدهم جيدًا، مثلما لا أرى البيوت والأضواء التي أنظر إليها بشغف، ولا أسمع الأصوات الصاخبة التي أحس باندفاعها المتواصل في أذنيّ .. كل شيء مطمئن كأنما أعيدت ولادتي بأمان كامل .. لكن هاجسًا مقلقًا ينبعث في نفسي مع اقترابي من المقهى”.

في المقهى يرصد حالات الضوء القوي، مصابيح النيون النظيفة المنتشرة فوق الحوائط البيضاء، يتجنب المرايا، يرى ثلاثة أصدقاء تقريبًا “كما ينبغي أن أسميهم، ينتمون إلى مراحل مختلفة من حياتي ويفترض أن كلّا منهم يجهل الآخر، ولكنهم اتفقوا بشكل مبهم على أن يتقابلوا في هذا المقهى، وأن يتحدثوا معي”.

هكذا تتجسد في هذا المشهد آليات التكثيف والتفكيك والإزاحة في الحلم، حيث يجتمع أصدقاء ينتمون إلى مراحل مختلفة في حياة السارد ولم يسبق لأي منهم أن التقى بالآخر في ذلك المقهى الحلمي، كي يتحدثوا معه.

وهناك في هذه القصة، وفي غيرها إحساس ما بوجود سر خفي يعرفه الآخر ولا يعرفه السارد، مع وجود إنكار! حالة اضطهاد، فهم يعرفون شيئًا عنه، وهو شيء غير سار، لكنهم لا يبوحون به له، بل يتحدثون عنه خفية في غيابه، أما إذا حضر فيصمتون، وقد كانوا هنا يعرفون بالأمر الذي جاء إليهم من أجله، لكنهم كما سبق لهم أن اتفقوا بشكل مبهم على اللقاء في المقهى، فقد اكتفوا بالتلميحات المتبادلة والكلمات الفارغة. “هكذا كان من الحتمي أن نتفق على لقاء آخر في نفس المكان وفي مثل هذا الوقت”.

هكذا تستمر مشاهد القصة التي هي أقرب إلى المشاهد السينمائية أو المسرحية السيريالية، مع إيحاء بأن العالم كله أشبه بحدث يشاهد بشاشات التليفزيون، وأن هذا الحدث مهما كانت خطورته، فهو جدير بالمشاهدة والتسلية وذلك لأن هذه الأحداث لا تقع لنا، بل لآخرين وعلى مسافة منا، ومن ثم لن يحدث ضرر لنا، بل نحن في أمان ما دمنا نشاهد عن بعد، ما دمنا لم نعرف السر، ما دمنا لا نعيش خبرات حياة لا داخل الأسرة ولا خارجها، إنها مجرد خبرة بديلة آمنة وقد تكون ممتعة أيًا كانت جسامتها.

قصة “قطعة اليوسفي” فيها خصائص المشاهد السينمائية البطيئة السريعة من حيث الوصف لتفاصيل التفاصيل والعرض لتأويل التأويل، وجهات النظر المختلفة المتعلقة بقطعة يوسفي تقع على الأرض ويحاول الزوج التقاطها كي يأكلها، وفي نفس اللحظة تدخل زوجته إلى المشهد ويتواصل الحوار معها وكذلك عمليات التذكر لحياتها، كما تحضر الشكوك وسوء الظن والأشياء الخفية الغامضة السرية الموجودة، لكنها غير مرئية وغير مدركة، وتتوالى المشاهد الكابوسية العنيفة وتتداخل ما بين ما هو موجود خارج شاشة التليفزيون (طفلته التي ترسم مثلًا) وما هو داخل هذه المشاهد مع عمليات قطع ومونتاج وتداخل زوايا إلى خلفيات من أصوات الأغاني وصور الأفلام.

في قصة “ليلة حب” يستمر العنف، والتجسيد للأزمنة المختلفة المتداخلة، فالمرأة التي اشترت شريط أغنية “ليلة حب” لأم كلثوم والتي تتواصل مع ابنتها خارج المدينة عن طريق “سكايب” تجسد لنا عالمًا مازال يتمسك بالقديم والحلم (شريط أم كلثوم) على الرغم من استخدامه لوسائط وميديا حديثة، ومن تداخل هذين العالمين والمقارنة بينهما والرصد لمتغيرات كثيرة موجودة في الواقع، تحرق نفسها هي وزوجها النائم بعد انتهائها من سماع الأغنية في إشارة إلى الجحيم الخاص بوجود عالمين وزمنين غير متجانسين في وقت واحد، وهكذا فإن فقدان الشغف والموت والقسوة واليأس والعبث أمور موجودة في قصص هذه المجموعة بشكل عام.

في “تجهيز الخروج”، و”الفريند ليست” غيرهما وصورة الأب الموجودة لدى كافكا وسيرته الذاتية موجودة هنا أيضًا، الأب ضخم الجسد كأنه إله، بينما الطفل يشعر بأنه صغير أمامه، ضائع، منسحق، بلا هدف، صورة الأب القاسي الغريب المخيف غير المفهوم هذه موجودة في قصة “زرقاء في النهار، سوداء في الليل”.

لا توجد حقيقة

في قصة “ورشة الكتابة” أمر آخر فحواه أن الحياة أكثر خصوبة وثراء ودلالة ومعنى بالنسبة للكتّاب من كل ما قد يتعلمونه أو يعرفونه خلال ورش تعليم الكتابة، وأن كل ما قد يتعلمونه حول بداية النص ونهايته وأنواع الرواة .. بناء الشخصيات والمشاهد .. تطوير الحوار .. اللعب بالحبكة .. نسج المفارقة واستخدام عناصر الزمان والمكان … إلخ، هو أمر سوف يسقط بسهولة أمام مشهد رجل صامت أقدم عليه السارد وقد كان يجلس فوق عتبة شقة كانت أبوابها مفتوحة على مصراعيها في الطابق الثالث بجوار السلالم، كان الرجل ينظر إلى المتدربين الذين جلسوا على مقاعد أمامه بوجه فارغ من التعبيرات واستمر المشهد هكذا لفترة، ظل خلالها ذلك الرجل ينظر إليهم بملامح خالية من الانطباعات، ثم فجأة مع مرور الوقت والزمن وتغير حالة ضوء العصر الذي انسحب تدريجيًا ومع ذلك الصمت المطلق وغرابة الموقف، نهض الرجل الخمسيني من على كرسيه بهدوء ثم بوجه فارغ من التعبيرات تقدم نحو الطلاب وهو يمد يده نحوهم بغرض المصافحة، فانتفضوا في فزع وهربوا من أمامه وأسرعوا داخل الشقة وهم يتعثرون ببعضهم وبالكراسي، اندفعوا داخل الشقة المقابلة لشقة الرجل وأغلقوا بابها وحاولوا العثور على مفاتيح الإضاءة فلم يجدوا أيًا منها، بل اختفى الشباك الألوميتال الخاص بها، تحولت الغرفة إلى مكان مصمت خانق بلا فتحات أو أضواء أو جدران بينما كان الرجل يدق بيده على الباب وكانوا هم في رعب شديد، وما تريد هذه القصة أن تقوله هو أن الواقع أغرب من كل درس وأن التجربة أعمق من كل النصائح والتعليمات، وأن ما قد نظنه عاديًا ومألوفًا قد يكون شديد الغرابة، والقدرة على الإثارة والإحداث للخوف والوحشة والفقدان لليقين.

في قصة “الانفجار العظيم” يقرر رجل أن يلتقط صورًا فوتوغرافية لكل شيء في بيته، الحوائط والكراسي وسرير نومه، والأبواب والنوافذ والستائر والسقوف … إلخ.

كانت تلك صور عادية لأشياء عادية كما كان يقول عنها “مجرد حائط، مجرد سرير، مجرد كرسي أنتريه لونه نبيتي … إلخ” لكن هذه الصور العادية تتحول شيئًا فشيئًا لتكون صورًا وحالات غير عادية، تتحول مشاهد تحكي حياة البشر والأشياء والعلاقات التي كانت بينهم عبر الزمن، هكذا أصبح هذا الرجل، وعبر الزمن يعيش داخل صور البيت وليس البيت نفسه، صارت للصور حياتها الخاصة، ومن داخلها بدأت تظهر خيالات غائمة تمامًا ما تلبث أن تفقد بهتانها تدريجيًا، وتتضح ملامحها، وتبدأ في الظهور داخل الكادرات.

هكذا حضر البشر أولًا من خلال صور شبحية، ثم من خلال صور حقيقية لرجال ونساء وأطفال وكهول وحيوانات وطيور زينة وغيرها، صارت لهم حياتهم، يأكلون ويتكلمون ويشربون ويتشاجرون … إلخ.

صاروا يقومون بكل ما يمكن أن يقوم به البشر عبر حياتهم، بل صاروا أيضًا يتحركون بين الصور وبين الكادرات، يظهرون ويختفون، يولدون ويموتون، ويتوالى رصد التحولات التي تطرأ على حالات البشر والكائنات الحية الأخرى وكذلك على عالم الصور ما بين صور شبحية غامضة وصور فوتوغرافية واضحة وصور متحركة وخيالات وأحلام وصور من عالم الفيس بوك. فأين الحقيقة، لا توجد حقيقة.

الصور أكثر بقاءً من البشر، يقول فالتر بنيامين:”الصور تدل على حضور الموت في الحياة، وبعد الحياة تدل على حدوث المستحيل، وذلك لأنها تبقى بعد أصحابها، والحياة صور ووهم وخيال” كما يقول شكسبير وابن عربي وسترندبرج.

يظل الإنسان الذي التقط كل تلك الصور وحيدًا في النهاية، حتى بيته، ربما سيحرق بيته وتحترق صوره واقتباساته من عالم شكسبير، ربما يموت أصدقاؤه، لكن تبقى الصور، تبقى مثلما تبقى تلك الصور الغريبة لأصدقائنا بعد موتهم على صفحاتهم في عالم الفيسبوك، ذلك العالم الموحش الغريب.

قصة ميمي الأبيض تجسيد أيضًا لهيمنة الصور والتخيلات حيث “الأبلاسير” الذي يقوم بإرشاد مرتادي السينما إلى مقاعدهم قد فقد معنى وجوده، تجسد تلك الذات المختفية وراء الصور، الذات التي تكتفي بأن ترى العالم دون أن يراها العالم، أن تستحضر العالم دون أن يستحضرها، أن تكون ذاتًا لا موضوعًا للرؤية والمشاهدة، لكنها هنا ذات مختفية غائبة مستترة خفية متنحية، ذات تكتفي بأن تعيش في عالم الظلام والأشباح، عندما هدمت السينما التي كان يعمل فيها ولم يجد عملًا كان يقف أمام الفضاءات الخالية ويتخيل وجود سينما فيما سيرشد بداخلها الناس إلى المقاعد، ثم انتهى به الأمر يرتدي قناعًا ويمسك مصباحًا أثناء النهار مثل ديوجين يحركه بين أقدام الناس ويوجههم في اتجاهات بعيدة إلى أماكن تتعلق بالعبث والخواء، إلى أماكن لا يمكن أن يصل إليها أحد.هكذا يستمر الحكي الجميل ويتواصل عبر هذه المجموعة المميزة.

……………………….

مجلة “عالم الكتاب” ـ أكتوبر 2017

مقالات من نفس القسم