الخطاب الديني في فضائيات مبارك (1 – 6 )

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

 (1)

هيبة الناس وخراب الأوطان

هشام عبد العزيز

هيبة الناس هي الداعي الأول والأخطر إلى المداهنة، إذ إنها سلاح الحاكم إذا أراد أن يفتك، وسلاح القوى السياسية المؤدلجة إذا أرادت أن تسيطر أو تأخذ لها مكانا على خريطة التوازنات السياسية.

لم يكن الدكتور نصر حامد أبو زيد يواجه – رغم قسوة وتخلف ما واجه – خطابا يحرم الاختلاط بين الرجل والمرأة حتى في مؤسسات العمل أو دور العلم، لم يكن يواجه من يدعو إلى ضرورة الأخذ بتعدد الزوجات ووجوبه.. إلى غير ذلك مما غير صورة الحياة كلها في مصر، ليس على مستوى الحياة العلمية فحسب، وإنما على مستوى التعايش اليومي أيضا. ولكننا الآن نواجه بمثل هذه الدعوات ومن مجموعة من «الشيوخ» الذين يملكون شعبية صنعتها قنوات صرحت بها الدولة دون ضابط، ثم هي تغلقها الآن دون ضابط أيضا. لقد أتاحت الدولة لأمثال هؤلاء أن يدخلوا بيوت المصريين، ليقنعوهم بضرورة منع بناتهم من الدراسة في المدارس والجامعات.. ليقنعوهم بتحويل بناتهم إلى جوار. والدولة الآن إذ تمنعهم فإنما تحولهم – عن غير عمد – إلى أبطال «تحاربهم الدولة لأنهم يدعون إلى صراط مستقيم»، تخيل!

أقول لم يكن نصر أبو زيد يواجه بكل هذا.. لقد كان أقصى وأقسى ما واجهه صوت مثل عبد الصبور شاهين، وهو رغم تحفظنا الشديد عليه، أكاديمي له منجزه الذي يمكن أن نختلف حوله، أما نحن الآن فإننا نواجه بأشباه قراء، ومجموعة من الحفاظ، الذين لا يفقهون مما يقولونه أكثر من الضبط الشكلي، حتى تحلو رنة ما يعيدونه على الأسماع؛ أسماعهم وأسماع مريديهم.

لم يكن عبد الصبور شاهين – رغم التهييج الذي صنعه – يملك ما يحرك به الشارع كما يملك هؤلاء الآن، فقد كان أستاذا ينتمي للجامعة أكثر مما ينتمي للشارع، حتى على الرغم من خطبة الجمعة التي كان يلقيها في مسجد عمرو بن العاص، أو بعض البرامج الدينية التي كان يطل منها على المصريين من آن لآخر «في قنوات التليفزيون الحكومي»، أما هؤلاء فيملكون قنوات فضائية مدعومة يعلم الله من أين، ويطلون صباحا ومساء على المصريين الطيبين في بيوتهم، وها هم يقولون قال الله وقال رسوله، والله ورسوله والدين والعقل والعلم مما يقولونه براء.

لكنه قدر من وعى حديث النبي، صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه». وهو للمصادفة من الأحاديث التي أوردتها غالبية كتب الحديث في ما سمي «باب الفتن».

نعم، إن هيبة الناس أشد على الباحث الحق من هيبة الحاكم، والصدام مع الناس أشد خطرا من الصدام مع الحاكم، حيث إن ضرر الحاكم على الباحث ليس أكثر من حياته، وهو ما لم يعد يحدث الآن، إذ إن أقسى ما يأخذه الحكام الآن من تدابير عقابية تجاه مخالفيهم هو اعتقالهم. أما مصادمة الناس فضياع للأفكار والأوطان والأديان، إذ واجب الباحث دوما أن يناقش كثيرا مما استقر في عقولهم، أو أريد له أن يستقر عن عمد سياسي. إن مناقشة ذلك الذي يلبس – بفتح الباء – على الناس هو أكثر ما يضع في قلوب الباحثين الهيبة التي تحدث عنها الهدي النبوي، وقد اخترنا أن نستعين بالله، دافعين عن قلوبنا هيبة الناس، مناقشين وفاحصين تلك الأفكار التي يروج لها البعض باعتبارها دينا قيما وعلما صارما، وهي أفكار في حقيقة الحال لا تعبر إلا عن قائليها ومن دفعهم إلى صدارة المشهد الديني وتركهم بلا مناقشة أو حساب.

هيبة الناس هي الداعي الأول والأخطر إلى المداهنة، إذ إنها سلاح الحاكم إذا أراد أن يفتك، وسلاح القوى السياسية المؤدلجة إذا أرادت أن تسيطر أو تأخذ لها مكانا على خريطة التوازنات السياسية.

هيبة الناس هي الهم، ولكن الأهم من هذا الهم هيبة الله الذي دعانا لقول الحق وعدم الصمت عنه، مهما كلفنا ذلك من عنت وعناء.

هيبة الناس هي التي أخرست كل الألسنة حتى هُجّر نصر أبو زيد من مصر في منتصف التسعينيات، وهي قبل ذلك التي أعانت على الفتك بالشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين والدكتور لويس عوض وغيرهم كثير…

وقد يتساءل قارئ عزيز: ما الداعي إلى هيبة الناس إن كنت تحدثهم بالعلم؟ أليس في العلم كفاية من هيبتهم؟

والرد في الحقيقة ليس أبعد من استرجاع ما جرى مع الدكتور نصر حامد أبو زيد مرة أخرى، إن أسوأ ما حدث معه ليس التكفير، وليس التفريق بينه وبين زوجته، ولكنه ببساطة مناقشة مقولاته خارج سياقها الطبيعي، وبين أناس – مع احترامنا الكامل لهم جميعا – ليسوا مؤهلين لمناقشتها، إن المكان الطبيعي لمقولات الرجل كان المعمل فإذا بمن يخرجها إلى قارعة الطريق يتداولها من ليس مؤهلا لتداولها.. هب أن أحد الأطباء قرر فجأة أو أجبر على القيام بعملية جراحية مبتكرة لمريض خارج غرفة العمليات، وأمام جموع ليسوا متخصصين في الجراحة ولا في الطب، كيف سيكون استياؤهم عند كل ضربة مشرط، أو حركة يد، تمرس الجراح عليها طويلا ويعرف أين تذهب يده وأين يقطع مشرطه الجراحي؟ فإذا بحجام أو «حلاق» يتدخل طوال الوقت في عمل الجراح، يحاول منعه من استكمال عمله المهم والخطير، العيب هنا ليس في ما يفعله الحلاق، ولا في ما يفعله الطبيب، ولا في المريض، ولكن العيب بل والكارثة أن العملية الجراحية تتم خارج مكانها الطبيعي وأمام المارة. لقد نجح مخالفو نصر أبو زيد ومعارضوه في جرّ القضية برمتها من مكانها الطبيعي (قاعات العلم والدرس ومعامل العلماء) حتى أصبحت تناقش في أماكن أخرى، كلها أماكن جليلة ومحترمة، ولكنها ليست المكان الطبيعي للخطأ والنسيان والتجريب.

من هنا تنبع هيبة الناس الذين سيحاول بعض من سنناقشهم وضع القضية على موائدهم، ويطالبونهم باتخاذ موقف يدافعون به عن دين الله! وهم في الحقيقة لا يطلبون سوى الدفاع عن مكانة زائفة صنعوها لا يبغون إلا سمعة زائفة تهون في سبيلها الأديان والأوطان.

بهيبة الحق والعلم والدين نناقش، حريصين على عدم التجاوز الأخلاقي، وقد يكون لدى البعض رأي يستحق التأمل، فليطرحه بذات السلوك الذي سنطرح به أفكارنا؛ أي دون تجاوز كذلك، على أن يكون الطرح مكتوبا، فلست من هواة الشفاهية التي يهوونها.. وليكن رائدنا جميعا مصلحة البلاد والعباد؛ فما تكلمت إلا لحق علمته وخراب أستشرف قدومه.

 

 

 

مقالات من نفس القسم