الخروج في موعد مع ألفريد هيتشكوك وباولين كايل

في قراءة جديدة.. عوالم هيتشكوك المرعبة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مالك رابح

لم أحصل على تعليم جيد. كل معرفتي بالسينما ترجع إلى مُخرج وناقدة.

المخرج هو ألفريد هيتشكوك وقد سأله الناقد روچر إيبرت في لقاء صحافي عن أهمية استخدام أشياء كالسلالم في أفلامه فأجاب ساخرًا بأنها تُستخدم لجعل الأشياء تصعد لأعلى أو تهبط لأسفل. الآن، أي أحد شاهد أفلام هيتشكوك يعرف أن جماداته حبلى بالمعاني حتى وإن كانت السلالم مجرد سلالم فإن الكاميرا تلبسها عباءة تجعلها تتحدث.

مخرج مثل إنجمار بيرجمان لم ير في هيتشكوك سوى تقني جيد، رجل فاهم الصنعة، يصنع فيلمًا جيدًا مثل سايكو 1960 في وقت قصير بمال قليل ويثير عنده تساؤلًا بشأن العنف ضد المرأة. لا زيادة.

في سن مبكرة شاهدتُ نافذة خلفية 1954 و اطلب إم للقتل 1954. استمتعت بهما لكن وبطريقة ما شعرت أنني– مع الفيلمين – كنت أشاهد فيلما للمرة الثانية. لم أستطع تفسير ذلك. في ذلك الوقت كُنت أشاهد الفيلم مرة واحدة ولم يكن بمكان أن يمر برأسي سؤال مثل هل المشاهدة الثانية لأي فيلم من الفيلمين ستشعرني بأنني أشاهد فيلمًا للمرة الثالثة؟

سنوات مرت. فهمت قليلًا.

ربما المرة الأولى للمشاهدة هي موعدٌ أول، طاولة تخيم عليها الانطباعات الأولى وهزة الساق والقلق. إنها أكثر النسخ سرية وحفاظًا على نفسها، النسخة الأكثر غموضًا هي أكثر النسخ استحقاقًا لانتزاع شعورنا بالمتعة. كل النسخ التي تليها هي ملاحظات عليها، هوامش أسفل الصفحة، قد تساعدنا على الفهم أكثر – أحيانًا الفهم أساسًا – لكن أعلى طموحها هو إثارة الموعد الأول. نحصل على نوع آخر من الإثارة لاحقًا لكن إثارة الموعد الأول تحدث مرة واحدة. يحكي جييرمو ديل تورو أن ستيفن كينج حضر عرضًا لفيلم متاهة پان 2006. في المشهد الذي يطارد فيه الرجل الشاحب أوفيليا يخبرنا ديل تورو أن كينج تلوّى في مقعده. السؤال الآن : هل كان كينج ليفعل ذلك لو لم تكن تلك هي مرة المشاهدة الأولى؟ السؤال الأهم: هل ذلك يعني أن أفلام هيتشكوك، وهي أفلام إثارة أصلًا، لا تحتوي على إثارة الموعد الأول؟ لم يكن ذلك ما أقصده.

في المرّات اللاحقة على مرة المشاهدة الأولى نحاول تفسير لمِ شعرنا بما شعرنا به في المرة الأولى، نلاحظ الأنماط المتكررة، نفكّر أكثر في الرموز، نوجه اهتمامنا بشكل أدق إلى أشياء تقنية من قبيل وضعية وحركة الكاميرا والبلوكينج والقطع. إنها أشياء يمكن ملاحظتها في مرة المشاهدة الأولى، لكن الآن مع غياب القلق وهزة الساق، يتدفق الدم إلى أماكن أخرى.

أفكر دائمًا أن القصص في أن أفلام هيتشكوك جيدة فقط لأنها تروى عبر الكاميرا، إنه يحقق أبسط تعريف للسينما.  إن قصصه لا يمكنها أن توجد في نقاشاتنا بدونها، أجدني لا أقدر أن أحكي  شيئًا عن أفلام هيتشكوك دون أن أشير إلى الكاميرا كشخصية رئيسية. كيف يمكنك أن تشير إلى الدموع التي تتجمع في عيون چايمس ستيوارت في ڨيرتيجو 1958 دون أن تذكر الكلوس- أب عليه عندما خرجت كيم نوڨاك من الحمام في صورة مادلين وكيف يمكنك أن تحكي عن مقابلة غرباء في قطار 1951 دون أن تذكر الظلال على وجه روبرت واكر؟ إن الأمر يبدو وكأن الدموع تجمعت في عيون چايمس ستيوارت لأن هناك كلوس- أب عليه وأن الشرور التي ستنطلق من أنامل واكر كانت لأن الظلال تصادف أن حطت على وجهه.

بالطبع بيرجمان على حق، هيتشكوك تقني، لكنه تقني عظيم. في أفلامه أنت تشعر وفي الوقت نفسه، لأنه يريك بعدسة مكبرة، تعرف لِم شعرت بذلك. أعتقد أنني لذلك أحسست أني شاهدت نافذة خلفية واطلب إم للقتل للمرة الثانية. في الحقيقة، كل مشاهداتي الأولى لهيتشكوك كانت مشاهدات ثانية، مسلية وتعليمية، كالخروج في موعد مع شخص تعرفه منذ مدة، حتى ولو أخبرك أن السلالم تستخدم لنقل شئ لأعلى أو لأسفل، فإنك تظن أن في الأمر شيئًا ما وهو ما لا يمكن استبيانه إلا بتفكير مطوّل أو ربما موعد آخر. المواعيد الأولى لا تكفي أبدًا، حتى مع إثارتها البرّاقة.

هذا يوصلنا إلى الشخصية الرئيسية رقم 2: پاولين كايل.

كانت كايل ناقدة سينمائية في صحيفة النيويوركر، شرسة لا تساوم، زلطة قاسية على أفلام طيبة كأم على أفلام أخرى بإمكانها أن تكتب مراجعة كاملة، دقيقة ومتبصّرة عن أي فيلم بمجرد مشاهدة مرة واحدة. في الواقع، كانت كايل مشهورة بأنها لا تشاهد الفيلم سوى مرة واحدة فَقط. نستدعي روچر إيبرت مرة أخرى فيخبرنا أن حُكم كايل على أي فيلم، هو حكم شخصي، أولًا وأخيرًا.

بجانب كتابتها لأكثر المقالات عن الأفلام بريقًا بالإبداع، من خلال كتابة رأيها، المبني على أسباب شخصية، وعرض تلك الأسباب والدفاع عنها، كانت كايل تحثنا، من تحت لتحت، على تكوين آرائنا الخاصة، شحذها والدفاع عنها طالما كانت منطقية وتعني شيئًا بالنسبة لنا، أن نتخطى الإعجاب أو الكراهية الحافية إلى أرض يمكننا أن نقول فيها رأينا عن فيلم دون الخوف من أن ننقصف أمام كل الآراء المتبصرة والعميقة التي ينشرها غيرنا عن السينما. هل سيدنس رأيي، لو كان سيئًا للغاية، الهيكل الكبير أوي أوي للسينما المقدسة؟ بالطبع لا.

إن امتناع كايل عن المشاهدة الثانية هو ضرب من الحفاظ على رأيها، الإبقاء على انطباع الموعد الأول، الغارق في ذاتيته. من يعرف ما الذي قد تجلبه المشاهدة الثانية؟ ربما خسارة جزء ما من هذه الذاتية، مع الوقت قد تفتر أجمل ابتسامة وتصبح جميلة العيوب في وجه الآخر. في حوار مع برايان لينهان تكشف كايل أن أفضل مقالة قرأتها في العام هي مقالة لراي ساو-هيل عن فيلم ناشڨيل 1975 لروبرت ألتمان بمناسبة صدور نسخة الدي ڨي دي من الفيلم. لقد قالت إنها هذه المقالة ذكرتها بالإثارة التي استحوذت عليها وهي تكتب مراجعتها عن ناشڨيل قبل خمسة وعشرين عامًا. إن مقالة كتبها شخص آخر عن فيلم أليفة أكثر من مشاهدة الفيلم نفسه مرة ثانية. الأولى اقتطاف وردة من حديقة بينما الثانية سير في حقل ألغام.

لم تكن پاولين كايل معجبة بهيتشكوك. بالنسبة لها، كان تافهًا وألعاب الكاميرا والمؤثرات في أفلامه لا تنطلي إلا على الهواة. تحكي كايل أنها قابلت هيتشكوك وزوجته مرة. كان هيتشكوك يذهب بالحديث إلي السيارات والخمور في حين رغبت هي في الحديث عن الأفلام المعروضة في السينما الآن، لكن هيتشكوك لم يكن قد شاهد أيًا منها. كايل، صاحبة حياة من المواعيد الأولى، انزلقت إلى حفرة رجل متخصص في المواعيد الثانية. هيتشكوك بسخريته الإنجليزية الجافة في المواعيد الثانية، ضُحِك عليه ودخل في قفص موعد أول.

كلاهما لم يكونا حاضرين.

 

مقالات من نفس القسم