الحُلم والحَجَر

عبد القادر وساط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالقادر وساط

كنتُ في السابعة من العمر، حين رأيتُ في المنام أن خالي الكبير- عبدالمالك- قد مات. قصصتُ الحلم على أمي، وهي في المطبخ، تُعِدُّ الخبز في الفرن التقليدي، في منزلنا الريفيالواسع، فنهرتني بحدة. صارت نظراتها مشحونة بالخوف.

بعد أيام قليلة، جاءها الخبر الحزين.

كان شقيقها عبدالمالك- خالي الكبير- الذي يسكن في الجهة الجنوبية من القرية، قد سقط من ظهر بغلته، فمات في الحين.

كنا في شهر فبراير.

بكت أمي أخاها بلَوْعَة. أغمي عليها عدة مرات، وعندما انفَضَّ المعزون، اصطحبتني لزيارة قبره. كانت تبدو  عليها آثار الحزن الشديد والبكاء المتواصل. وقفنا نحن الاثنين، أمام القبر، تحت المطرالغزير ، الذي شرع في الهطول فجأة. كانت هناك سيول صغيرة قد تكونت بسرعة حول القبور. سألتُ أمي عما سيفعل خالي الكبير إذا نفذ الماء إليه وهو في قبره، فنظرت إليّ نظرة كئيبة ولم تجبني.

في طريق العودة، لم تتحدث إلي كعادتها. كانت غاضبة مني. لقد حلمتُ قبل شهور بموت عمتي، فماتت بعد أيام. وها أنا قد حلمتُ بموت خالي الكبير ،فمات هو أيضا.

عند منتصف الطريق، بين المقبرة والبيت، مالت علي وقالت لي بصوت متهدج:

-اسمع جيدا ما سأقوله لك، إذا حلمتَ هذه المرة بموت واحد منا، فلا تقصص علينا حلمك.

ثم انحنت وتناولَتْ قطعة حجر ، في حجم يدي الصغيرة، وأعطتها لي قائلة:

-احتفظ بها في البيت، واحْكِ لها أحلامَك المخيفة، حالَما تستيقظ، لكن إياك ثم إياك أن تحكيها لأحدٍ منا. سألتُها:

-وهل تسمعنا الحجارة، يا أمي، وتفهم ما نقول؟

أجابتني بنفاد صبر:

-نعم، الحجارة تسمع وتفهم كل شيء، رغم كونها لا تنطق.

وسكتت قليلا وتنهدت ثم قالت:

– الحجارة كانت تتكلم مثلنا في العصور القديمة.

كانت قطعة الحجر مبللة بالمطر. خبّأتُها في جيبي، وبعد وصولنا إلى البيت، وضعتُها في محفظتي.صارت صديقتي. أحكي لها عن كل ما أراه في كوابيسي. عن الأقارب الذين يموتون، والمعارك التي تحدث في القرية. عن جرائم القتل. عن الزلازل التي تهدم البيوت. عن الحوادث التي لم تخطر ببالأحد، وعن كل شيء. أحكي لها بصوت خافت، وهي بين يدَيّ صامتة خرساء. والمهم هو أن جميع الكوابيس التي كنت أحكيها لها في الصباح، قبل الإفطار، لم يكن يتحقق منها شيء!

بعد بضعة أشهر، سهرنا ليلةً مع جدي لأمي، في بيتنا الكبير.

بات يقص علينا جزءا من سيرة الأميرة ذات الهمة، و من مغامرات البطل الصحصاح. حكى لنا كيف مات الصحصاح موتة رهيبة، إذْ قتَلَه نمرٌ في غابة.

ليلتها، رأيت في الحلم أن جدي لأمي هو الصحصاح، وأن النمر هاجمه وهو على صهوة حصانه وافترسه في أعماق الغابة.

صحوت مرعوبا ونسيت أن أحكي الحلم لقطعة الحجر. جريت نحو أمي وقلت لها:

-لقد مات جدي في الغابة! افترسه نمر كما حدث للصحصاح!

نظرت إلي نظرة مشحونة بالخوف وسألتني:

-هل رأيتَ هذا في الحلم؟

أجبتها بالإيجاب. شرعت تبكي وتنتحب وتردد قائلة:

-يا وجه النحس، ألم أنهك عن هذا؟ ألم أوصك بأن تحكي مصائبك لقطعة الحجر؟

ثم رأيتها تقصدني والشرر في عينيها، فانطلقت هاربا، وقضيت النهار بأكمله خارج البيت.

مرَّت ثلاثة أيام على الحلم ولم يمت جدي لأمي. كان يبدو في تمام العافية ولا يشتكي من شيء.

في اليوم الرابع، ذهبَتْ بي أمي عند فقيه القرية. استمعَ لها الفقيه جيدا ثم قال لها وهو يمرر يده على شعري:

-هذا ولد مرفوع عنه الحجاب. أمّا جدّه فلن يموت قبل انتهاء أجله.

في اليوم السابع، بدت لي أمي منشرحة، لأن جدي لم يُصَب بسوء. بل إنه ازداد حيوية، وصار أكثر مرحا ودعابة. وعندما لاحظَتْ ذلك، قررت أن تكافئني بفأر. كانت تعرف أني أحب الفئران وألتهمها بنهم. أخذتني من يدي ومضينا إلى الدكان المجاور لبيتنا، ثم أشارت إلى علبة الفئران وطلبت مني أن أختار اللون الذي أحب. قلت لها إني أريد اللون الأزرق. ناولني البائعُ فأراً أزرقَ، بذيل طويل. أخذته كالعادة من ذيله وشرعت أديره بقوة، ثم بدأت ألحس ما عليه من سُكَّر، قبل أن ألتهمه.

وعندما ابتلعتُ آخر قطعة منه، سمعنا عويلا قادما من بيتنا الريفي الفسيح. كان عويلا يقطع القلوب.

كان جدي لأمي قد مات!

……………..

*قاص من المغرب

مقالات من نفس القسم